Share Button

إحياء طاقات الأمة معناه معرفة سرِّ قوتها، والتبصير بما في هذه الطاقات من ذخيرة حية نافعة. وإذا ما كانت القوة الحقيقية طاقة نافعة عاملة مؤثرة، كان إحياء طاقات الأمة معناه معرفة أسرار قوتها، والتبشير بما في هذه الأسرار من قوة بديلاً عن التنفير من عوامل الضعف؛ فلا يُعقل أن تكون هناك أمة بمثل تلك الموارد والقدرات والروابط والصلات، وتكون في نفس الوقت ذات طاقات معطلة، اللهم إلا أذا أراد لها أبناؤها تعطيل تلك الطاقات النافعة المثمرة فيها، وتغييب الدور الحيوي لها.

على أن تعطيل طاقات الأمة من الداخل أقبح وأشرّ عليها من أعدائها في الخارج؛ فالعدو الخارجي معروف وموصوف بأنه دخيل مستعمر يريد أن يسرق حقوق الآخرين، ينهب خيراتهم كلما استطاع ثم يسلب أراضيهم ويشردهم ويشتتهم ويذلهم ويهينهم طمعاً في إبادتهم من على وجه الأرض لو أنه استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ ليحل حلول المغتصب الدائم في الأرض الخراب!

أمّا العدو الداخلي فهو خبئ غير معروف يفسد من الداخل؛ لأنه قد يكون أخاك أو قريبك أو جارك أو صديقك أو نفسك التي بين جنبيك، وهو أعلم بالنقيصة والمعابة من عدوك الخارجي. وقد أصابت فطرة الشاعر العربي ولم تخطئ حين صَوَّرت هذا المعنى بالدقة ليكون سنة الحياة الدائمة فقالت: ” أحذر عدوك مرة، وأحذر صديقك ألف مرة .. فلربما أنقلب الصديق، فكان أعلم بالمضرة”.

وعليه؛ فإذا ما انهارت قوة الأمة، فلتثق أن العدوان قد أصابها من الداخل وحكم عليها أبناؤها بالانهيار لما أن فرطوا في أعز ما تملك من مقومات الوحدة، فكانوا السبب الأوَّل والأخير في تفتيت عناصر القوة الجامعة والرباط الموصول؛ وأهمها وأولاها هو اللغة كما سيجيء تفصيله في سياق هذا الحديث الطويل. لكننا هنا نعرض أولاً لظروف وملابسات الواقع العربي من زاوية نقدية قبل أن نتطرق للتفاصيل التي من خلالها ندرك أهمية اللغة العربية فينا، ونعقب ذلك كله بدراسة عن “قيم من اللغة” فنقول :

لَعَلَّ هذا هو سر الفرقة الناتجة عن تشتت الأمة العربية وتضارب مصالحها على مستوى الأنظمة والشعوب، وهو السبب في قلة توحّدها لمواجهة أحلك المحن وأخطرها على المستويين : الداخلي والخارجي؛ أعني الفُرْقَة التي تأتي من الداخل، والعصمة المفقودة بفقدان “مبدأ التوحيد”، وإحساس المرء فيها بالهزيمة الروحية والانكسار المعنوي، وغياب أسس التربية الوطنية القائمة قبلاً على دعائم إيمانية، وأهمها وأرقاها نزوعاً إلى الأهمية هو : أن حبّ الوطن وتقديس ترابه جزء لا يتجزأ من القيم الإيمانية التي أمرت بها الأديان السماوية والشرائع الدينية، وأن خيانة الأوطان هى في الأصل خيانة لله تعالى، وأن تبديد قواها الاقتصادية، والهروب بأكثر من ثلاثة أرباع مواردها وأموالها، وفساد الضمير المهني على وجه العموم كائناً ما كان هذا الضمير (علمياً أو أدبياً أو أخلاقياً) أو ما شئت أن تضيف، واستخدام ثروات الوطن وأمواله في تدعيم مظاهر المجون والخلاعة وقلة الأدب، وتردى الأذواق إلى أسوأ درجات الغيبوبة الفنية، واحتكار الموارد والمقدرات الحيوية لصالح طبقة معينة من الناس…

كل هذا كله من الظواهر الطارئة على المجتمع المصري خاصة، فيها بغير ريب خيانة للوطن وفقدان للوطنية بمقدار ما فيها من “إرادة التخريب”، تتعطل فيها بالضرورة طاقات الأمة النافعة ويغيب الدور الحيوي لأبنائها من حيث أرادوا لها الإصلاح أو ظنوا أنهم يُصْلحون.

وأغلب الظن عندي أن السلبيات التي تَفَشَّتْ في المجتمع العربي عموماً – والمصري منه على وجه الخصوص – في الآونة الأخيرة تهضم حق الأمة هضماً مروُّعاً، وتحيق بدعائم الوطنية فتبيدها أو تكاد من حيث لا تشعر؛ لأنها من الأسس الهدّامة تنخر كما السوس في أركانها الثوابت.

عندما نرى السخافة هى السائدة، ونرى التسيب والفساد والقبح والخلاعة والمجون، أموراً من أقوى علامات التحلل من القيم الجميلة، يكون من الطبيعي أن تنهار فينا الأعصاب خوفاً من البقية الباقية من المعاني السامية قيماً نبيلة أن تضيع وسط هذا الصخب اللعين يجتاح الشعور صباح مساء بغير تريث أو هوادة، يشهده الجميع في سخافة العقول وضحالة الأذواق، لكأنه المستنقع الآسن ممزوجاً بعكارة الإثم والفجور، والمتاجرة بالرخيص من القول والفكر، والرخيص من الأفعال والتصرفات مما قد يطفح به الشارع العربي فضلاً عن النوادي، ومما قد يظهر في مجون غريب فج على شاشات الفضائيات!

فيجيء رد الفعل تباعاً قوياً عارماً. وليس من شك في أن الإنسان المخلص لوطنيته ولأمته ولإنسانيته المكرّمة قطعاً عند الله في كل حال، وعلى أية حال، أرادها الله؛ يرفض الهزيمة التي تسوقه كما السائمة نحو ما يشتهي، ويرغب، ويتمنى، ويطلب، حينذاك يجد من نفسه أن كل شهواته هزائم، وكل رغائبه عوائق، وكل أمنياته قواطع، وكل مطالبه انكسارات، حتى إذا ما وجد من نفسه رفضاً لهذا كله؛ فهو النصر المحقق لأمته ولوطنيته ولإنسانيته، وذلك حين يطمح بالبصيرة إلى ما فوق التراب، وحين يرغب في تحقيق أعلى من رغبة الهزائم المخزية على الدوام بغير انقطاع.

فالهزيمة الحقيقية : هى هزيمة الروح من الداخل، وهزيمة القلوب أمام نفوس طاغية وأجساد مستأسدة : هى هزيمة الضمير أمام طغيان المادة وإلحاح المطالب والرغبات، ولا هزيمة على الإطلاق والإنسان معتصم بحبه لوطنه فيما لو كان حبّ الوطن على الحقيقة جزاً لا يتجزأ من حب الله، وهو معتصم بحبه لأمته، ومعتصم بعصمة الرقابة الباطنة على الضمير من أن تعصف به ريح نحن لا ندري : من أين وادٍ هبت؛ فغيَّرت بهبوبها أصولاً، وكادت تقلع من الأصول جذوراً.

على أننا لا نتجاوز الصواب لو أننا قلنا إنه لابد أن يكون هناك “تضامن عربي” حاضراً وفاعلاً بالحقيقة، لا مفر من وجوده شئنا أو أبينا، فإذا لم يكن “التضامن” موجوداً على المستويين : الشعبي والرسمي، فلن تتحول هذه الأمة على مر الأيام، وإزاء تلك التحديات، إلا إلى بقايا تتآكل وتتلاشى في غير ما يعود عليها إلا بالخسران الأكيد.

هذا “التضامن” المطلوب يرتد لا محالة إلى معرفة مصدر القوة العربية والإسلامية ذلك المصدر الذي يعمل أعداء العربية له ألف حساب وحساب.

والعروبة – يا صاح – ليست كلاماً يجري على ورق، ولا هى كانت ألفاظاً في خطب تُرَص بغير ضابط يضبطها من فاعلية يصدقها العمل المشهود في الواقع المقروء، ولكنها حياة حافلة بالجهاد يتآزر فيها الكيان العربي كله جملة وتفصيلاً. وتقوم فيما تقوم عليه على وحدة الدين واللغة والوطنية (أو إنْ شئت الدقة قلت”القومية”)؛ ليكون كيانها هذا أشْبَه شيء بالكيان الثقافي، أو هو نفسه الكيان الثقافي بالفعل، فما لم يكن العربي قادراً على “التوحيد في ذاته”، وعلى التلازم المضبوط داخلياً بين نوازعه ودوافعه وبواعثه؛ فلن يكون مدركاً للتوحيد الديني، ومن ثمَّ فهو يفتقر بالتالي إلى التوحيد اللغوي مقدار افتقاره إلى التوحيد الوطني أو القومي على التعميم.

فما كانت غفلته عن التوحيد الديني محققة بالفعل؛ إلا لأنه لا يعلم شيئاً عن التوحيد النفسي، أو التوحيد الذاتي الذي ينبثق من ذلك التوحيد الديني حقيقة، وينتج عنه بالمباشرة والتعلق، والذي يُراد به (أي التوحيد الذاتي) الانسجام الداخلي في الفرد العربي ثم تحقيق ذلك الانسجام بين كيانات العروبة في الجسد العربي جملة.

ومن مصادر تلك القوة فينا أننا بالأحرى قادرون على التوحُّد والتماسك والاتفاق، لكن هذه “القدرة” تتحوّل مع عدم استخدامها في المواضع الملائمة إلى جُبْن كريه يضعفنا أمام أنفسنا أولاً قبل أن يضعفنا أمام الآخرين.

ومَردُّ تلك القدرة فينا أن اعتقادنا على الدوام أننا أمة واحدة، وأن عروبتنا لا يزال فيها رمق أخير تتردد في أنفاسه روح الصمود أمام التحديات؛ حتى ولو كانت (أي التحديات) قد أُجْملت كلها في عصر واحد، أو في زمن واحد، أو في فترة إنهيارية واحدة.

لكننا في الأصل أصحاب “اعتقاد”؛ والاعتقاد فينا هو من صميم الوجود؛ لأنه المصير الذي نلاقي فيه الله فنحاسب على عقائدنا وأفكارنا تماماً كما نحاسب على أعمالنا وتصرفاتنا .. نحن أصحاب “اعتقاد” مع حرصنا عليه يتحوّل فينا إلى حقيقة واقعة تقبل الممارسة والتطبيق، ويعز علينا فقدانها فيما لو فقدنا تباعاً ينبوع الوحدة فلا يغيض. أو إنْ شئت قلت : إن الاعتقاد الذي نمارسه ونطبقه يتحوَّل على مر الزمن إلى حقيقة ملموسة، رغم التنازع البادي والفُرْقة الظاهرة تشهدها في سائر أنحاء الأمة العربية.

ويشهد الواقع كما يشهد التاريخ، أننا ما من عصر من العصور، ولا زمن من الأزمنة، إلا وكنا فيه عرضة للغزو والاستعمار، وفي كل عصر وفي كل زمن، تراق دماء ذكية من أجل التطهير؛ وليس فينا ذلك الاستسلام الذي يفت في عضد العروبة، فيحيلها إلى أنقاض وأشلاء، ليس فينا ذلك الخنوع والرضوخ والانبطاح وممارسة القبح الذي يأباه إيمان التحدي، ويأنف منه طبع العربي الصلب القوي المعهود.

لا تزال هناك حلقة مفقودة بين الماضي والحاضر، عمل على فقدانها أناس وجدوا في أنفسهم دوافع القدرة على القطيعة التامة بين ما هو طارق وتليد. واستمع إليهم بكل أسف قطاعات عريضة من الجماعات العربية؛ فتمسكت بكل ما هو طارق مستحدث، وأهملت على الجانب الآخر إهمالاً خبيثاً كل ما هو أصيل تليد.

فكانت – من أجل هذا – أمتنا العربية كالتائه في بلد غريب لا يعرف له موطناً يأوي إليه، وانتعشت هذه الثقافة في كثير من المجتمعات، ورددها الكثير من الكتَّاب والقراء في المدارس العليا ودور العلم والجامعات والمنتديات الثقافية، ومع كثرة رسلها ومؤيديها والداعين لها، لم يعد هناك مكان للخلاف معها؛ لأن الخلاف معناه وصمة العار الذي يلحق بكل من لم يعد يحترم تلك الثقافات، وأضحى الاختلاف معها من مظاهر النقمة الظاهرة والعزلة على المجتمع بكافة مستوياته!

وهكذا ترى ثمار هذه الثقافات أمامك في غاية التردي والفوضى والانقسام. وكان مما أهملته تلك الثقافات في خبث ملعون هو لغتنا العربية : ذخيرة الطاقة الحيّة النافعة ومصدر الوحدة العربية القائمة في صميمها على الوعي القومي النابع من تلك المشاركة الروحيّة العميقة في مرتكزات أربعة : اللغة، والعقيدة، والثقافة، والحضارة.

ولا شك في أن هذا الإهمال الخبيث المتعمِّد، يرتدُ إلى كراهة العروبة والإسلام والدين واللغة والوطنية جميعاً. إنما الأمر كله لا يخلو من سوء طوية. كان أبو منصور الثعالبي في مقدمة كتابه :”فقه اللغة العربية” يقول :” من أحبّ الله تعالى أحبَّ رسوله محمداً، صلى الله عليه وسلم، ومن أحبّ الرسول العربي أحبّ العرب, ومن أحبّ العرب أحبّ العربية، ومن أحبّ العربية عنى بها، وثابر عليها وصرف همته إليها، ومن هداه الله للإسلام، وشرح صدره للإيمان، وأتاه حسن سريرة فيه، أعتقد أن محمداً – صلى الله عليه وسلم – خير الرسل, والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمها من الديانة، إذْ هى أداة العلم ومفتاح التفقه في الدين، وسبب إصلاح المعاش والمعاد؛ ولو لم يكن في الإحاطة بخصائصها، والوقوف على مجاريها ومصارفها، والتبحُّر في جلائلها ودقائقها؛ إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن، وزيادة البصيرة في إثبات النبوة التي هى عمدة الإيمان؛ لكفى بها فضلاً يحسنُ فيهما أثره ويطيب في الدارين ثمره” (أ. ه).

هذه العبارات الأصيلة الطيبة تثبت في غير جدال أن للغتنا العربية أثراً في تكوين عقليتنا وتدبير تفكيرنا، وتصريف أفعالنا، وهداية سلوكنا يفوق كل أثر سواه.

وإنه لمن اللغط المنفِّر والتجديد المختلق أن يرى البعض منا اليوم أننا نفكر بلغة ثم نتعامل ونتحدث بلغة أخرى، وأن الحياة اليومية تجري على غير وفاق من الحياة الشعورية، وأن اللغة فينا لا تجدد نفسها، وأن مصيرها إلى جمود وانتكاس وزوال. هذا كله لغطُ طويل وثورة في غير موضعها. ومن العجب العاجب أن يموت اللغط اليوم كما مات بالأمس؛ وتموت الثورة التي في غير موضعها كما ماتت ثورات قبلها وثورات، فأما الزبد فيذهب جفاء ويبقى ما ينفع الناس. وفي النهاية : تحيا اللغة العربية؛ وليسقط الذين افتعلوا حولها الثورات.

بقلم : د. مجدي إبراهيم
أستاذ الفلسفة الإسلامية

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *