Share Button

 

من الضمير لا من شيء غيره يحلو كلام العقلاء عن الله. ومن منافذ القلوب إلى سلطان الحق يكون الأنس بكلام العشَّاق فيصيب شغاف القلوب. وهو هو طريق البصيرة، فإذا كان “ابن سينا” في، إشاراته وتنبيهاته، حدّد طريق البصيرة بإرادة ورياضة، فهو نفسه الذي وصف طريق العرفان بصفة العارف حين يكون شجاعاَ، لأنه بمعزل عن تقية الموت. ويكون جواداً لأنه بمعزل عن محبّة الباطل، وصَفّاحاً لأن نفسه أكبر من أن يجرحها زلة بشر، ونسَّاءً للأحقاد وكيف لا؟ وذكره مشغول على الدوام بالحق.

هؤلاء الذين لم ييأسوا قط من روح الله :” إنّه لا ييئس من رَّوْحِ الله إلا القوم الكافرون”. كلامهم – وأيمَ الله – ينادي وَجيب القلوب، هو هو الصدق بعينه، تعلّموه في رحاب الحق والأنس به، والتوكل عليه أحسن التوكل وأصدقه وأنقاه؛ فلن تجد كلاماً أبدع ولا أخلص من كلام العُشَّاق الذين جاوزا المحبّة إلى درجة الفناء في المحبوب : قلوبهم على يقين موصولُ بالجناب الأعلى، وضمائرهم خالية تماماً من كل شيء إلا ذكر الله ومَنْ والاه؛ فبذكره فقط تطمئن القلوب، وهل كانت الطمأنينة شيئاً غير هذه الصفة التي يكون فيها القلبُ على الثقة والأنس الدائم بالمحبوب الأعظم؟

كان الواحد منهم إذا هو سمع آية خَرَّ مغشياً عليه، ولربما لفظ أنفاسه الأخيرة تحت وطأة هذا الشعور.

الضميرُ لديهم قوة علويّة من قوى الغيب المجهول، يزكيها الفهم النافذ لقول الحق تبارك اسمه، ويقوّيها العمل الصادق بمقتضى الفهم ويرفعهما إلى مستوى القوة العالية ذلك التبتُّل العميق لمحبة الله، يتولّد منها الشوق. والشوق، كما قال القشيري، اهتياج القلوب إلى لقاء المحبوب، وعلى قدر المحبّة يكون الشوق؛ لأن الشوق ثمرة المحبّة مع الوضع في الاعتبار بأن الله تعالى لا يُوصف بالشوق، وإنْ وُصِفَ بالمحبّة. من هذه الجهة تجئ خطابات التأنيس : ذوقاً خالصاً وأريحيّة عالية، ولن تكون خطاباً برانيّاً خاوياً لا يؤثر ولا يثمر ولا يفيد.

جمالُ كلام العرفاء في المحبّة وفي غيرها من مقامات وأحوال ممزوجٌ بعصارة النفس المطمئنة، باليقين، مبطنٌ بأغلفة الانوار الكثيفة لا يفضها وهم واهم، ولا يستطيع أن يفضضها أحد؛ إلا ذلك الذي ذَاقَ مذاقهم، وكرعَ من معينهم، ولم يزل يكرع من هذا المعين الدَّفّاق الذي لا ينضب ولا يجف. إنّ أحداً لا يقدر، من بعدُ، على فض بكورة معنى من المعاني الباطنة لإشارات العارفين ما لم يكن مُوَفَقاً من عند الله موهوباً هذه القدرة، وهذا الاستعداد، وهذا التوفيق.

تجارب العارفين إنّما هى حصون منيعة أقوى وأمنع من أن يتصدّى لها ضعيفٌ مهزول. وإشاراتهم أعلى وأرقى من أن يفسرها متعالم جهول. هذه التجارب العنيفة الشاقة في قهر النفوس على الالتزام لا يمكن أن تؤخذ هكذا مأخذ التقرير السّلبي أو التفسير العلمي الذي يقبل ما يراه جديراً من وجهة نظره، ويرفض ما لا يرى فيه – من وجهة نظره كذلك – جدارة القبول.

إشارات الأولياء رمزية، والرمز إشارة مغلقة لا يفتحها إلا عارف بمجريات ما أغلقت عليه؛ فأفرض مثلاً إنك سمعتَ كلاماً عن “الشوق” “والمحبة” “والعشق” “والوصال” “وتلهب القلوب” “واحتراق الأحشاء” “وتقطع الأكباد” ممّا يجري به كلامهم بالعادة وأخذته على عُلّاتِه، وفهمتَ منه أنه يشير إلى دلالة حسيّة قريبة، فاعلم من فورك أنك لم تتدَرَّب، بعدُ، على الغوص في عالم المعاني، كيف تفتح مغاليقه؟ ولا على تذوق العبارة كيف تستخرج منها لغة الإشارة؟

فالأصلُ في العبارة الرمزية أنها تنطوي على مجموعة من القيم مخزونة داخل العبارة كما تنطوي القيم الرياضية على الحروف، كل حرف منها يشير إلى دلالة خاصّة وإلى معنى خاص. وهكذا الرمز في إشارات الأولياء كأن يقول قائلهم :”علامة الشوق حُبّ الموت مع الراحة”، افتح هذا الرمز لو استطعت. أو يقول قائلهم :”المحبةُ استهلاكٌ في لذة، والمعرفةُ شهودٌ في حيرة، وفناء في هيبة”.

وهكذا إلى كثير من الإشارات الرمزية في جميع المقامات والأحوال عند العارفين، لا بد في معرفتها، على وعي، من عقل بصير.

* * *

وإذا كانت هذه هى خَاصَّة المحبّة عرفانية في الأساس؛ فإنها لتندرجُ في المعرفة، فيجيء بمقتضاها نطق العارف مخبراً عن كل شيء، فقد سُئل عبد الرحمن الفارسي عن كمال المعرفة فقال :”إذا اجتمعت المُتفرقات، واستوت الأحوال والأماكن، وسقطت رؤية التمييز”؛ وعلق السرَّاج الطوسي على تلك الإشارة حيث قال :”ومعنى ذلك أن يكون وقت العبد وقتاً واحداً بلا تغيير، ويكون العبد في جميع أحواله بالله ولله مأخوذاً عمَّا سوى الله، فعند ذلك يكون هذا حاله”؛ بمعنى أن تصير جميع الهموم هماً واحداً بلا تغيير، وتسقط جميع الشواغل إلا شاغل الحق واحد هو تحقيق العبودية لله، وهى التي عبر عنها ذو النون المصري بعدم الالتفات إلى الخلق فقال :”إنْ التفت العارف إلى الخلق عن معروفه بغير إذنه، فهو مخذول بين خلقه “، مخذول؛ لأنه مادام قد أختار طريق العرفان ثم ألتفت فقد خَان. والخيانة خُذلان؛ ولأنه في هذه الحالة لن يكون مشغولاً بالتحقيق في مقام العبودية، وسيكون في الغالب موزّع القوى مشتت الهَمِّ غير مجموع بالعين ولا هو بالمأخوذ كلية، وستكون فيه بقيّة من اختيار لا توصله إلى درجة العارف كصفة خاصة مخصوصة به.

وهنا قد نصل بالعرفان إلى مذهب “إسقاط التدبير” في تصوف السَّادة الشاذلية عامة، وتصوف أبي العباس المرسي وابن عطاء الله السكندري خَاصَّة؛ فلن يكون اختيار العارف في تلك الحالة القصوى من العرفان إلا بُمراد الله لا بمراده، وقد قال يحيي بن معاذ الرازي (ت 258 هـ) مادام العبد يتعرَّف (أي لم يبلغ درجة العرفان بَعْدُ) فيُقال له : لا تختر شيئاً، ولا تكن مع اختيارك حتى تعرف (أي حتى تبلغ من العرفان مبلغه)؛ فإذا عرف وصار عارفاً بمعنى أنه تحقق من العرفان؛ فيُقال له إذْ ذَاك : إنْ شئت اختر وإنْ شئت لا تختر؛ لأنك إنْ اخترت فباختيارنا اخترت، وإنْ تركت الاختيار، فباختيارنا تركت، فإنك بنا في الاختيار وفي ترك الاختيار”.

وبعدُ؛ أَفَكَثيرٌ على العارف – وهذه حالته على هذا الوصف – إذا هو نطق، نطق عنك وأنت ساكت؟ كلا! إنّ حركته وسكونه بالله، فمن نطقه ينطق بالله، وكذلك في سكونه يخبر عن المسكوت عنه فيما لو كان مأذوناً له بالنطق فيه وبالإخبار عنه، وذلك لأنه في الحركة والسكون ليست له إرادة وليس له حظ فيهما.

هذه الصفة، “صفة العارف” هى التي عبر عنها الإمام الشاذلي أيضاً لما أن قال : من انقطع عن تدبيره إلى تدبير الله، وعن اختياره إلى اختيار الله، وعن نظره إلى نظر الله، وعن مصالحه إلى علم الله لملازمة التسلم والرضا، والتفويض والتوكل على الله؛ فقد آتاه الله حُسْن اللب وعليه يترتب الذكر والفكر وما وراء ذلك من الخصائص”.

لكأنما الذكر والفكر من المراحل التالية لصفاء اللُّب بترك الاختيار النفسي وإسقاط شواغله إلى حيث اختيار الله تعالى وموالاته على الصفاء، فهما العلامتان اللتان يدلان على معقول النظر واستقامة العمل كما وصفهما بحُسْن اللُّبّ. غير أن هذه الصفة في المطلق لا تتأتى أبداً بغير تحقيق الإيمان ولا تأسس إلا عليه في أول مقام.

ليت شعري : ما الذي يُقدّمُه الإنسان على أسمى جزء موجود فيه، إذا انعزلت عنده مَدَارك الذَّوْق وراح يدرك كل ما يناله ببصر المحسوس والملموس، ويكتفي بذلك فقط، وينكر ما دونه من مدارك وأذواق؟ إنه ليبدو مخلوقاً تافهاً حقيراً إذا لم تكن المعرفة منذ البداية قد وَقَرَتْ فيه، وإنّه لينقلب من فوره إلى وضاعة ما بعدها وضاعة إذا هو لم يقدر وجوده الروحي، ولم يعرف أن هذا الوجود هو في الأصل مُقَدَّمَاً – وينبغي أن يكون مُقَدَّمَاً عنده – على كل وجود سواه، وأن وضاعته لتزداد، وشرهه المادي ليتفاقم إذا هو لم يعد يمتلك قدرة التحقق بأسس العرفان.

إنما قصدتُ هنا تحديداً ذلك العرفان الذوقي بهذا الوجود الروحي أو بتلك الطبيعة الموجودة فيه : طبيعة الروح السامية المتعالية التي تستقر في محيط الإيمان.

إنها من غير شك لطبيعة روحانية تسمو على كل طبيعة سواها، ترتفع ما ارتفع الإيمان في معدن الذات المؤمنة، وأزدان.
وللحديث بقية مع خطابات التأنيس.

د. مجدي إبراهيم

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *