Share Button

بقلم : د. مجدي إبراهيم

تجيء “رسالة الفكر” واضحة عندنا على حقيقتها من حيث كونها رسالة ذكر وفكر: إماطة اللثام عن الفكرة الجارية على القلب؛ لكشف حقيقة الإنسان.

كان على بن بكار يقول :” لم يكن إبراهيم بن أدهم، كثير الصلاة، ولكنه كان صاحب “تفكُّر” يجلس ليله يَتَفَكَّر”.

فالفكرة المقصودة هنا هى نوع آخر غير ما هو مُتَدَاوَلُ من مفاهيم بادية عن الأفكار : الفكرة المُرادة هنا هى :” سير القلب في ميادين الاعتبار “. وقد كان الجنيد بن محمد البغدادي يقول :” أشرف المجالس وأعلاها الجُلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد”؛ إذْ القلب الخالي من الفكرة خالي من النور، مُظلم بوجود الجهل والغرور، ومن ثمَّ كان ابن عطاء الله السَّكَندَري ينهج المنهج نفسه الذي نهجه الجنيد ويفي بحقوقه على الجملة حيث يقول :” الفكرةُ سِرَاج القلب فإذا ذهبت فلا إضاءة له “. وذكر في حِكَمِه الخالدة :” مَا نَفَعَ القلبُ شيءُ مثل عُزْلَة يُدْخَل بها في ميادين فكرة “.

هذه هى عندنا “رسالة الفكر” على حقيقتها، وتلك هى مهمَّتها المقصودة الباقية بالنسبة لَنا : التَّوَجُّه الواصب الدائم الموصول لإحياء طاقات المعرفة الحقيقية الأصليّة في الإنسان : حقيقة أنه روح وقلب وعقل وضمير وشعور ووجدان، لكنما الإحياء واليقظة والمعرفة لهذه الحقيقة أمور لا تتأتَّى بغير فكرة يسيِّرها القلب في ميدان الأغيار (المخلوقات)؛ ليكتشف الإنسان حقيقته الأصلية بورود الفكرة عليه.

الفكرة كما قال ابن عطاء الله السَّكنْدَري فكرتان : فكرة تصديق وإيمان، وفكرة شهود وَعَيَان؛ فالأولى لأرباب الاعتبار، والثانية لأرباب الشهود والاستبصار.

إنما يجيء سَيْر القلب في ميادين الأغيار على وجهين : وجه صاعد ووجه نازل. فأمّا الصاعد فهو لأرباب الاعتبار؛ والفكرة فيه ناشئة عن التصديق والإيمان، وهذا للسالكين، هو حال ترقِّيهم حين يصعدون عُرُوجاً بالفكرة من أدنى إلى أعلى مستدلين بالآثار على المؤثر. وأما النازل فهو لأرباب الشهود والاستبصار، هو للكمَّل من أهل التحقيق، وفكرتهم ناشئة عن الشهود والعيان، وهؤلاء هم الذين ترقوا من حضرة الإرادة والسلوك إلى حضرة العرفان، بمعنى أن هذا الوجه النازل هو نعت المستدلين بالمؤثر على الآثار.

فلئن كانت “رسالة الفكر” عندنا هى اكتشاف حقيقة الإنسان الأصليّة في كونه روحاً وعقلاً وقلباً وضميراً واتصالاً مع هذا، وبكل هذا، بالملأ الأعلى؛ “فالعدوان” هنا كذلك هو كل ما يأتي ضد هذا كله ممّا تراه الآن من عدوان بيولوجي أو حروب الجراثيم والفيروسات، ومما رأيته في السابق ولم تزل تراه من انطماس البصائر والقلوب، وغياب الضمائر والعقول والأرواح وغفلتها الواصبة عن حقيقة الإنسان الأصليّة : انطماسها عن الرؤية الشهودية الكشفية وغيابها عن العمل والفاعلية والتحقيق.

وللإمام القشيري عبارة مُعْجِزة من الإعجاز يقول فيها :” التفكر نعت كل طالب، وثمرته : الوصول بشرط العلم؛ فإذا سَلمَ الفكر من الشوائب وَرَّدَ صاحبه على مناهل التحقيق”. فالمُهم في التفكر هو الطلب، أي : الاستعداد والتهيؤ وتفريغ المحل لما ينبغي أن يحل، موضوعاً في الاعتبار هذه القاعدة :” إزالة ما لا ينبغي شرط في تفريغ المحل لما ينبغي”. على أن يكون الوصول دائماً بشرط العلم وسياسة النفس في المراقبة فيه لا شرط آخر سواه.

ومعناه : تتبع مسيرة السلوك الناشطة في عملية التفكر بامتياز كيما يَسْلم من كل شائبة تمهيداً لوروده مناهل التحقيق.

وعليه؛ فالعدوان المقصود هنا من العنوان “رسالة الفكر في زمن العدوان”، ليس هو العدوان السياسي أو العدوان العسكري فقط, ولكن أيضاً هو عدوان النفس على النفس، وظلم النفس للنفس، وشقاء النفس بالنفس، وقهر النفس للنفس، وتعاسة النفس من ذات النفس، وجهل النفس بالنفس، وخذلان النفس للنفس، واستبداد النفس بنفسها أو بنفوس الآخرين، وعدوانها على نفسها أو على الغير مِمَّن يحيطون بها أو يتعاملون معها من قريب أو من بعيد.

إن عدوان النفس على ذاتها لأشدُّ نكاية وخذلاناً من عدوان الغير عليها، والآلام التي تحصِّلها من جَرَّاء هذا العدوان لهى أخزى بكثير مما تتلقاه كرد فعل من عدوان الآخر عليها، وظلم النفس لذاتها لهو من أكثر الأمراض التي تصيبها في مقتل : أن تتألم على الدوام، وأن تشعر بالألم وقت الظلم وتحس بالمعاناة حين القهر أو الجهل أو العدوان، أو لا تتألم فتعتبر ظلمها لذاتها أو لغيرها كأن لم يكن؛ ومن ثمَّ فهى لا تشعر ولا تحس بشيء ممّا يقع عليها، فليس حكمها حكم من يحيا ويتعامل مع الأحياء.

بقلم : د. مجدي إبراهيم

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *