Share Button

رمزية العلم عند أوائل الصوفية

بقلم : د. مجدي إبراهيم 

في كتاب “السِّر في أنفاس الصوفية” لأبي القاسم الجنيد المتوفى سنة 279هـ بتحقيقنا، وهو إشارات رمزية لكبار السادة الصوفية ممّن صحبوا أبا القاسم الجنيد مثل أبو الحسين النوري، وأبو العباس بن عطاء، وأبو بكر الشبلي، وأبو على الرَّوْذَبَارِيِّ، ورُوَيْم بن أحمد، كانت لهم في الإشارة علوم تتوقف على الأنفاس واللحظات؛ بل هم  أول من أسس لعلم الإشارة الصوفية، وأول من تحدث فيه، ورمز إليه، منه مثلاً ما قاله أبو العباس ابن عطاء :   “العِلْمُ أربعة : عِلْمُ المعرفة، وَعِلْمُ العِبَادة، وَعِلْمُ العبُوُدِيّة، وَعَلْمُ الخِدْمَة “. ويمكن قراءة الإشارة على الوجه التالي :”العلم أربعة : علم المعرفة بالباطن، وعلم العبادة في الباطن، وعلم العبودية في الباطن، وعلم الخدمة في الظاهر”.
ومن خلال التأمل في الإشارة ترى أن الثلاثة الأولى : علم المعرفة وعلم العبادة وعلم العبودية كلها من شأن الباطن؛ فهى علوم يختص بها الباطن. أمّا علم الخدمة، فلاشك في أنه من شأن الظاهر ممّا يسري على مراقبة الجوارح. وللباطن شأنٌ عظيمٌ في التصوف؛ بل لا يكاد لفظ التصوف يذكر إلا ويذكر معه علم الباطن، فإذا كان الظاهر يعبر عن لسان الشريعة؛ فالباطن يعطي لسان الحقيقة، ولكن ليس معنى هذا أن الشريعة تخلو من علوم الباطن؛ بالطبع لا. الباطن كامنٌ في العلم الشرعي كمون النار في الهشيم.   
فمن المعلوم لدينا بالضرورة أنّ للشريعة ظاهراً وباطناً كما كان يقول بعض الأكابر منهم، بمعنى أن لها فقهين : فقه الظاهر، وهو معرفة الأحكام المتعلقة بأفعال الجوارح فيما يخصّ المكلفين في أنفسهم، أو يعُمُّق هذا الحكم الظاهر نفسه من عبادات وعادات وغيرها من الأفعال الظاهرة، وهذا هو المسمى بالفقه في المشهور، وحامله الفقيه؛ وهم أهل الفتيا وحرسة الدين.
والنوع الثاني : وهو معرفة الأحكام المتعلقة بأفعال القلوب، وما يخصّ المكلف في نفسه من أفعال الجوارح في عبادته وتناوله لضرورياته، ويسمى هذا فقه القلوب، وفقه الباطن، وفقه الورع، وعلم الآخرة؛ وعلم التصوف.
على أننا لا نترك مسألة الظاهر والباطن هذه بغير تأصيل شرعي يتنزه عن لوثة الباطنية، بمقدار ما يتنزه عن هذه اللوثة مفهوم الباطن كما هو في الدلالة الصوفية الشرعيّة. فمن المحقق أنّ كمال النجاة إنّما هو في التلبس بالتكاليف والإتيان بها على أتم وجوهها وأكمل أحوالها على اتفاق الباطن والظاهر، ثم مراعاة الباطن ومراقبته حتى لا تتخلله غيبة ولا يشوبه فتور. ودون ذلك مرتبة أخرى، وهو الإتيان بها كاملة في الظاهر متفقاً مع الباطن، إلا أنها تخللته غيبة وفتور؛ فليست هذه كالأولى، لكنه ربما يؤول أن النجاة غالباً فضلاً من الله ورحمة.
وأدنى مراتب التكاليف الإتيان بها كاملة في الظاهر فقط، مهملة في الباطن جملةً فلا يعتد بها، وليست من النجاة في شيء، ولكن الشارع لم يجر على هذا الحكم التارك جملة؛ إذْ لم يجعل على البواطن سبيلاً، ووكل المكلف إلى نفسه فهو أعلم بذاته، ولما عَسَاهُ يُرجى فيما بعد من صلاح الباطن بصلاح الظاهر … وعلى تفاوت هذه المراتب الثلاث يتنَّزل التفاوت بين الإسلام والإيمان والإحسان في التكاليف كلها؛ فإنّ مقام الإسلام هو العمل من حيث ظاهره في قبوله، وسقوط التكليف به أو ردّه.
ومقام الإيمان هو اتفاق الظاهر والباطن في أداء العبادة مع تخلل الغيبة، وفي هذا رجاء النجاة. ومقام الإحسان هو اتفاق الباطن والظاهر مع المراقبة في جميع العمل حتى لا تتخلله غيبة بوجه من الوجوه؛ وهذا هو الأكمل في حق النجاة.
وتجري هذه المقامات الثلاثة في جميع العبادات والتكاليف. وهذا معنى قول الصوفية : إنّ للشريعة ظاهراً وباطناً؛ بمعنى أنّ لها حكماً على المكلفين من حيث ظاهر أعمالهم، وحكماً عليهم من حيث باطن أعمالهم، لا ما يُمَوه به “الباطنية” وينشرونه في كتبهم، ويزخرفونه من أقوال ناقضة للشريعة تقتضي أنّ الشارع أظهر حكماً وأبطن آخر. لا ليس هذا بالطبع هو المقصود عندنا .
للباطنية أقوال تنقض ميزان الشريعة. وللباطن في أودية التصوف حكماً يتلازم مع الشرع تلازم الضرورة والواجب. وعلى هذا لابدّ للشريعة من حكمين الأول : حكم الظاهر على العمل وينبغي معرفته والإتيان به. والثاني حكم باطن على العمل وهو أعلى وأهم من الأول؛ لأن فيه النجاة.
وفي إشارة للجنيد يقول فيها :” مَنْ عَرفَ قَدْرَ نَفْسِهِ هَانَتْ عَليْه العُبُوديَّة “. أي من عَرَفَ قدر نفسه هانت عليه العبودية؛ وذلك حين يأخذ من نفسه مُنْصفَاً حق الله منها، بمعنى من عرف نفسه عرف ربه كما تؤكده ظلال الحديث المروي عن سيدنا رسول الله صلوات الله وسلامه؛ فمتى عرف المرء ربه، وأنه سبحانه القاهر عرف نفسه بأنه المقهور بالقهر الإلهي. وبمقدار معرفته أن وجوده متوقف على الله، وعدمه ينتهي في مصيره إلى الله، وحركته وسكونه بقدرته تعالى تهون عليه العبودية فلا يجد فيما يأتيه إزاءها مشقة ولا عنت، فيعلم أنه عبد مكلف وليس عليه إلا أن يحترم مجرى قضاء الله فيه، ثم من عرف أن نفسه فانية عرف أنّ ربه باق أبداً، فالفناء يحيط بعمل العقل البشري وكل الصفات الإنسانية، والبقاء صفة إلهية ليس يطمح الإنسان في الحصول عليها. ومن لم يدرك أن معرفة النفس أصل العبودية تدور في فلكها حضوراً وغياباً، لم يعد يدرك تباعاً أن الرضا عن النفس هو في الأساس معول هدم لكل بناء للحقيقة الإنسانية الباطنة بمقدار ما فيه بعدٌ عن مهام العبودية وضياعها من عمل الإنسان؛ لأن مشاغل العبد الدنيوية وانغماسه في الشهوات الحسية والمنالات القريبة تتأسس على الغفلة. ومن استولت عليه الغفلة صرفت قلبه لا محالة عن التفقد لخواطره والمراعاة لأسرارها، فليس يجد من المراقبة –  نظراً لغفلته – ما يدفع به شهواته الثائرة ودواعيه الغلابة دوماً على نفسه، ومن غلبته نفسه وقع في المعصية التي تغضب الله.
من ذلك ترى؛ أن الأصل في كل معصية وغفلة وشهوة هو الرضاء عن النفس؛ وأصل كل طاعة ويقظة وعفة؛ عدم الرضا منك عنها – كما قال ابن عطاء الله السكندري – ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه، خيرٌ لك من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه؛ فأي علم لعالم يرضى عن نفسه؛ وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه؟
ليس المطلوب إذن هو الرضا عن النفس، ولكن المطلوب هو الرضا عن الحال. والرضا عن الحال غير الرضا عن النفس. الرضا عن النفس ادّعاء وربوبية. والرضا عن الحال انكسار وعبودية؛ لأن الحال وارد من الله تعالى والرضا عنه من رضا الله. أما النفس ففي رضاها في الغالب مَسْخَطة الله.
رمزية العلم عند أوائل الصوفية لها شرط الحضور في بطن التجربة، وكل إشاراتهم المستسرة توحي بذلك من الوهلة الأولى؛ فللمعرفة علمها ولكنه ليس كأي علم ظاهر، بل هو العلم الذي يأتي من مباشرة التجربة الدينية ولا يتوقف فقط على المكتوب والمقروء؛ وإنما هو دلالة جوانية باطنة تباشرها التجربة وتخضع لمفعول الحال. هنالك تملي على العارف بالله أحواله وأذواقه؛ فيتأتى قوله رمزاً لا تصريح فيه. وهو رمز؛ لأن مُعادل التجربة الصوفية لا تسعه عبارة عادية أو لفظ معتاد. هنالك تصبح المفارقة بين الحالة والتعبير عنها بادية؛ لأن ما هو منقوش بالخيال خاضع للتجربة؛ فالتعبير عنه باللفظ المعتاد هو من الصعوبة بمكان، فلا مناص من اصطناع الرمز تعبيراً عن الحالة الروحية الباطنة. ولذلك كانت العلوم الثلاثة الأولى في إشارة إبي العباس بن عطاء السالفة : عِلْمُ المعرفة، وَعِلْمُ العِبَادة، وَعِلْمُ العبُوُدِيّة، باطنة تستوفي حكمها الباطن في ظلال التجربة.
أمّا عَلْمُ الخِدْمَة فهو العلم الظاهر الذي لا مزيد عليه، حكمه حكم الظاهر من العلم الشرعي ومع ذلك تجب معرفته والإتيان به لا إهماله أو التقصير فيه. غير أنه علم لا تحصل به النجاة مالم يكن علم الباطن كمالاً له في ميزان الشرع وفي حكمه المعوّل عليه .

بقلم د. مجدي إبراهيم 

 

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *