Share Button

كتب/سليم النجار
تجليات التجّريب اللغوي في الرواية العربيّة الحديثة متنوعة وعديدة . فهذه الرواية للكاتبة هديل رحامنة والموسومة ” مواسم التين ” تضعنا منذ البداية أمام حيرة كبرى تتعلّق بطبيعة العمل الرِّوائي : فهل نحن إزاء خرافةٍ من الخرافات الشائعة عندنا ؛ أم اننا إزاء قصة من قصص الخيال الاجتماعي ؛ أم أننا كذلك إزاء قصة واقعية ؟ .
أم أننا أمام تجريب لغوي في هذه الرواية إذ تدخل الكاتبة عَبْرَ سَارِدِهِ مغامرة اللغة عبر منعرجاتها ونتواءتها ؛ الى درجة أن النّص أحياناً يتحوّل الى سَبْر في أغوارِ مُفْردَةٍ مِنْ مُفْرداتِه ؛ فتعوض المؤلفة في البحث عن مدلول كلمة ” التين ” ؛ التي تدعو المتلقي البحث في معاجم اللغة ؛ وبذلك يتجلى مفهوم التجريب لدى الكاتبة الرحامنة في إثارة إشكالية التّشخيص ؛ فلم تَعُدْ الرواية تشخّيص واقعاً موصوفاً بل أضحى همُّها تشخيصَ اللغة المكتوبة والمكتوب بدرجة أساسية . ولذلك تتنادى النُّصوص : سفينة جبرا وغرفة الأخرى ؛ وحدَّث أبوهريرة قال المسعدي ؛ وكتاب التجليات لجمال الغيطاني ؛ ولسان العرب لابن منظور ؛ ؛ وأزاهير الشر لبودلير ؛ وأغاني الصادق ثريا ؛ وكتاب المستجاد في أخبار الجموع والآحاد ؛ مرجعية جديدة ؛ وهي المرجعية النصيّة لُيحيل النصّ على النصَّ وتستنجد اللغُّة وتؤكد ذاتها بذاتها ؛ ( وعمّان التي لا نقدر الحِيَادَ عنها ؛ تُوجُّهُ قلبَنا إلى حيث يريد ؛ وصباحات آب مدللة ؛ من حيث يقطر الندى عقب ليلٍ بعيد؛ إنه رعشة العتمة كلما جاء الفجر مقبلاً عليها من جديد ؛ يُلقي كل النهار في صباح واحد … ص١٧) .
ومع ذلك تظلّ الشخصيات والأحداث التي تمارسها قلقة إزاء ذاك الكائن المستبدّ بالنّص القائم به وهو السارد. إنّه البطل الرئيسيّ بدون منازع ؛ وشخصيته الرئيسية هي اللُّغة ؛ ليتحوّل النصُّ الموسوم ب ” مواسم التين ” إلى مهرجان للغةٍ حول ذاتها ؛ : ( تلك السماء لا تنتهي ؛ إنها جميلة ؛ فهي لا تتغير حتى تُشعرك بأي نهاية ؛ على عكس الأرض تماماً ص٣٧) .
قالت هديل رحامنة التي تكاد تنطق في مقاطع سرديّة عديدة : ليلي كتابا يحمل قصّة .
امرأة تقرأ بجانب رجل نائم !
… متى تقرأ المرأة ؟
ومتى ينام الرجل ؟ ص٣٧) .
ثم تنزل اللغة من عليائها لتعانقِ تلك اللهجة العمّانية العتيقة كما صاغها كتّاب الرواية في عمّان الخمسينات عبر سرد اجتماعي مضمنة تعَوَدتْها الآذان والأسماع ؛ ثم تخرج من جلدها تماماً لتستنجد بلغاتِ شمال المتوسِّط ؛ ايطاليّة وفرنسية أدبية لشعراء معروفين مثل رامبو ؛ تتقاطع مع لغة الضاد عبر أسلوب المعارضة أو التضمين . ومن خلال التعدد اللُّغوي تتواشج نصوصٌ عديدة بعضها مُعْلن صريحٌ وبعضها مَخفي ؛ بعضها قديم عتيق وبعضها الآخر حديث معاصر ؛ : ( المستحيل ليس بالأشياء الصعبة التي لا يسهل حدوثها ؛ بل إنه في الحصول على الأشياء المتوقعة في الوقت الأخير ص٨٠) .
إنّ هذا العالم المتخيّل الذي ينشدّ من خلال اندراجه في الجنس الروائي الى سنّة مستحدثة بتجاذبه قطبان على طرفي نقيض : هما التاريخ والمكان . فالتّاريخ يقسر الرواية على ان تَخضع للمرجع وتتقيد بقيوده ؛ على أنّ القطب الثاني وهو المكان لهذه الصورة الامتثالية . ف مواسم التين ليست تاريخاً ؛ ولا هي رواية تاريخية ؛ بل هي ليست رواية واقعيةٌ تستند الى خلفية تاريخية . ذلك أنهّا تفتح شبابيكها على عالم القاهرة وتقطع مبدأ المشاكلة الذي هو قوام الواقعية في الرواية ؛ : ( … ليلى تجوب معه بعض

تفاصيل المدينة سيراً على الأحلام ؛ كلما توغلتفي المكان تناولت الحياة على سجيّتها ؛ واسهبت في الحب والكلام ص٨١) .
إنّ هذا التماسّ المتنوع الأشكال يَصدم الحساسيةَ التقليدية التي تتخذ فيها الأشياء حدوداً مضبوطة لاتعدها . ومن ثم فإنّ التقلُّب المستمرّ والتنقُّل المتواصل بين الأجناس والمذاهب يستفز في القارئ رغبته في تدجين هذا النصّ النَّفور والوقوفِ على كنهه : أهو نثرٌ أم شعر ؛ رواية أم مكان واقعي ؟ فلا يستقرّ من ذلك على رأي .
– الرؤبة : يأتينا هذا النَّص من خلال أصوات متعدَّدة أهمُّها صوت المكان ؛ : ( في مصر كحال أي بلد عربي نحن نقدّر الأمور أكثر من صناعتها ؛ كل شيء لدينا مصنوع ؛ جاهز ؛ حتى الهواء والماء وأنفسنا ؛ عندما نستخدمه يصير ملكنا ؛ إما نلوثه أو نبقيه نظيفاً ؛ نحن نملك الحرية في استخدام المكان والأشياء … لكننا لا نقرر وجودها ص٨٢- ٨٣ ) .
ولذلك فمهما كانت مستويات البناء تقليدية ؛ فإن ذلك لا يمعننا في الختام القول بأن رواية ” مواسم التين ” روايةٌ راهنتْ على بعض الأسئلة التحوّل والمغايرة ضمن سؤال الحداثة في الرواية في الأردن . ويبقى أهم سؤال احتفت به الرواية في نظرنا ؛ هو سؤال المتعة الذي أفتقدته تجارب كثيرةٌ مِن التجارب الروائية في الأردن خلال العقدين الأخريْن وتراهن الآن على تنصيبه في مقدمة انشغالاتها الجمالية .

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *