Share Button

 

د. محمود محمد علي
مركز دراسات المستقبل = جامعة أسيوط

إن العقلانية Rationality بوجه عام – مفهوم يقول بسلطان العقل، ويرد الأشياء إلى أسباب معقولة ؛ والجذر الاشتقاقي الذي تشتق منهRational هو الاسم اللاتيني ratio ، ومعناه العقل Reason. وهكذا يفهم من كلمة الإنسان العقلاني Rationalist عموماً الشخص الذي يؤكد قدرات الإنسان العقلية تأكيداً خاصاً ، ولديه إيمان غير عادى بقيمة العقل والحجة العقلية وأهميتها .
والعقلانية أساساً هي الاتجاه التنويري الذي يثق في الإنسان وقدراته ، فيرفع كل وصاية عليه ويتركه يبحث عن الحقيقة بلا سلطة تفرضها ؛ حيث إن العقلانية ضد السلطة بكل أنواعها ، فقد حررت العقلانية الإنسان من الأفكار الدجماطيقية واللاهوتية والأفكار التسلطية والآراء التعسفية وأفكار ذوى النفوذ والسلطان والأيديولوجيات السياسية التي تقف حجر عثرة في سبيل الانطلاق بعقله إلى أفاق الحرية التي هي تاج التجربة الإنسانية ، ومن ثم دعوة نحو المذهب الإنساني الذي يقوم على دعامته الإنسانية ألا وهى الحرية الإنسانية .
وترتبط العقلانية في الفلسفة الغربية بالثورة على خضوع العصور الوسطى المسيحية الطويل لأرسطو والسلطة الدينية ، واتخذت شكلين يمثلان العقلانية الكلاسيكية، هما الاتجاه التجريبي مع ” فرنسيس بيكون Francis Bacon ( 1561- 1626 ) وأشياعه ، الذين يرون أن التجربة هي الوسيلة التي تمكننا من قراءة الحقيقة فتثق في الطبيعة وفى حواس الإنسان ليعتمد عليها في الوصول بنفسه إلى الحقيقة . والاتجاه الثاني هو الاتجاه المثالي الذي افتتحه ” رينه ديكارت Rene Descartes (1596- 1650) ” مؤكداً الثقة في العقل كوسيلة امتلكها الإنسان للوصول إلى الحقيقة.
ولكن مع العلم المعاصر وفلسفته تم إعادة النظر في التصور الكلاسيكي للعقلانية ، حيث تلاشت فكرة إدراك الحقيقة من اتجاه واحد وزاوية نظر وحيدة ، فما يطبعها هو تعدد اتجاهاتها في إدراك الحقيقة ، مما يؤدى إلى استدعاء مواقف وحلول فلسفية متنوعة ، ووجهات نظر مختلفة تحت شعار ” قيمة النقد وقابلية كل شئ للمراجعة Revisionable “؛ فأضحت العقلانية بفضل تطور العلم المعاصر ، لا تعترف بالبحث عن المبادئ والحقائق القاطعة والمطلقة التي تقوم عليها المعرفة الإنسانية سواء كانت عن طريق العقل أو الحواس ، لأن هذه المبادئ قابلة للنقاش والمراجعة المستمرة على ضوء التطورات العلمية المعاصرة .
وفي هذه المقالة سوف تكون عنايتا موجه نحو الكشف عن ابستمولوجيا ” ستيفن تولمن ” ، وبالذات مفهوم العقلانية العلمية لديه ، ولا أخفي علي القارئ أن سبب اختياري لتولمن هو ندرة الدراسات الفلسفية عن هذه الشخصية في عالمنا العربي ، مع العلم أن هذه الرجل كان يصول ويحول في محراب فلسفة العلم مثل كارل بوبر” Karl Popper ( 1902-1994) ، وتوماس كونThomas Khun (1922-1996) ، وإمري لاكاتوش Imre Lakatos (1922-1974) ، وبول كارل فيرآبند Paul Karl feyerabend (1924-1994)، وله صولات وجولات مع هؤلاء الفلاسفة . كما أنه يمتلك رصيد ضخم من الكتب والدراسات والأبحاث التي كتبها وما زال يكتبها حتي الآن .
بل لا أخفي علي القارئ أن هذا الرجل يستحق الدراسة وكنت أتعجب من تغافل طلاب الماجستير والدكتوراه في الكتابة عنه اللهم إلا قلة منهم . مع العلم أنه كان ولا يزال واحداً من كبار فلاسفة العلم الأنجليز المعاصرين الذين دافعوا بقوة وحماس عن الفكر الاصطلاحي – اللاوضعي بعد ” بيير دوهيم ” Pierre Duhem (1861-1916) ، و “هنري بوانكارية ” Henry Poincare (1854-1912) ، مؤكداً التسليم بالفائدة العملية للنظريات والقوانين بغض النظر عن صدقها وكذبها ، وليعلن ما سبق للاصطلاحية عرضه سواء كان علي مستوي المفاهيم والنظريات ، وكونها اصطلاحات متفق عليها ، أو كان الأمر يتعلق بالتجربة ودورها الإستشاري ، كما جاء ليؤكد ذلك ويشكل فلسفة أداتية تجعل من القوانين العلمية والنظريات خرائط جغرافية يتفق معها من حيث الهدف والوظيفة.
ولم يكتف هذا الرجل بذلك ، بل رأيناه يبين أن الفهم الوظيفي للنظرية مثل القانون يرتكز بداية علي التفسير ، وليس الوصف شأنه في ذلك شأن معظم المفكرين والفلاسفة الأداتيين ، فالعلم الفيزيائي في نظره لم يكن آلة حاسبة عقلية ، وإنما بالأحري نمط تشريحي أو تفسيري ، ومن ثم يختلف عن التاريخ الطبيعي مثلاً الذي يركز علي الوصف بدلاً من التفسير . وهذا ما يجعل الفيزيائي يبحث في صيغة أو شكل القانون أو النظرية بدلاً من أن يتتبع انتظاماً أو اطراداً لظاهرة ما أو أخري . إن كل العلوم الوصفية فيما يري ” تولمن ” هي في حقيقة الأمر علوم يصعب قبولها.
ومن جهة أخري رأينا ” تولمن ” يؤكد أنه ينبغي علي الفيزيائيين أن تكون لديهم ثقافة علمية تدعوهم إلي التفكير في نظرياتهم بطريقة تجعلهم لا يتجاهلون أن هذه النظريات ذات نجاحات تنبؤية في ضوء تاريخ العلم أو داخل إطار محاولات ثقافية تاريخية في المجتمع . والسبب في ذلك أن العلم كائن تاريخي ونشاط اجتماعي. إن تاريخ العلم يبدو في غاية الأهمية بالنسبة لنظريات العلم ، فهو أولاً يركز علي نمو الأفكار العلمية داخل العلم ، كما يهتم بالتداخل بين العلم ككل والمجتمع الذي يقتني هذا العلم ، ويندرج تحت كل ذلك القوة الاقتصادية والاجتماعية ، وأثرهما الفعال في نمو وتطور العلم . ثانياً، أن تاريخ العلم يساعد علي فهم وتشكيل العلم وطبقاً لذلك فإن تولمن يعتقد أن تاريخ العلم لم يكن فقط محتوي لتغيرات العلم في فترة ما، بل وفي أهدافه ومناهجه التي تتغير أيضاً .
وهنا ينصح ” تولمن ” فيقول في كتابه ” البصيرة والفهم ” أن يكون العالم علي وعي شديد بمسالة تاريخ العلم وأنه من الأشياء الضرورية بالنسبة لعمله أو بالنسبة لما يقوم به من دراسة “.
كما أمتد نشاط البحث العلمي عند ” تولمن ” إلي نظرية المعرفة ، ففي كتابه المعرفة والفعل حين يدرس تولمن العلاقة بين المعرفة knowing والفعل Acting ، نراه يلاحظ أن الفلاسفة كثيراً ما دأبوا علي اعتبار الموضوع والذات كائنين منفصلين ، وأن وجودهما معاً ينطوي علي التناقض . ولكن هذا التناقض سرعان ما ينجلي حين ندرك أن المقصود بالموضوع هو القيمة العملية التي له في تجاربنا .
وقد أشاد بقيمة وأهمية ابستمولوجيا ” ستيفن تولمن ” ، الدكتورة ” يمني طريف الخولي ” ؛ حيث تقول : ” وفي النصف الثاني من القرن العشرين يظل الإنجليزي ” ستيفن تولمن “- من أهم الفلاسفة المحترفين الذين أفادوا الأداتية وطوروها ، وجعلوها تدفع فلسفة العلم إلي أفاق مستشرفة بأعماله الكثيرة ، وأهمها ” فلسفة العلم ” و ” البصيرة والفهم” و ” الفهم الإنساني ” ، ويتميز تولمن بقدرته علي تجسيد وعي الأداتية الفريد بتاريخ العلم ، والذي ناهضته الوضعية المنطقية . لذلك سوف يحتل موقعه بين فلاسفة الردح الأخير من القرن العشرين الواعدين بأفاق مستقبلية لفلسفة العلم .
وفي فقرة أخري تقول ” يجمع تولمن الخير من طرفيه ، فهو أداتي بارز فيسهل عليه تأكيد أن صدق المعرفة العلمية في حد ذاته ليس موضع الاهتمام . ثم يلتقي مع بوبر بعد ذلك حين يؤكد أن الاهتمام فقط بنمو المعرفة وتطورها ، ويلتقي معه أكثر وأكثر حين يري المعرفة تنمو في ضوء النقد الموجه لها ، ولكنه أكثر من كارل بوبر وعياً بتاريخ العلم ، فهو يصغر بوبر بعشرين عاماً تمثل مزيداً من تقدم فلسفة العلم نحو الوعي بتاريخه . رأي ” تولمن ” – بحكم أداتيته – أن تاريخ تطور معالجات المشكلة المطروحة للبحث ، أهم بالنسبة للعالم الباحث من الانشغال بقضايا المحتوي المعرفي وإشكالية الصدق .
ثم تستطرد ، فتقول ” … وتولمن شديد العناية بنقد الوضعية المنطقية وتوضيح قصوراتها ، استند في هذا إلي ضرورة النظرة التاريخية للعلم ، وأن الوضعية المنطقية في تناولها لفلسفة العلم ابتعدت عن تغير التصورات الذي هو التقدم الحقيقي للعلم ، وحذفوا من الممارسات الفلسفية كل ما يتعلق بهذا وبعوامله . ويرفض تولمن تماماً النظرة للعلم من الداخل ، إذا كانت مقتصرة علي علاقاته المنطقية وأسسه المنهجية ، بحيث إن الجديد تنحصر جدته داخل الحدود والمصطلحات المطروحة . وفي مقابل هذا ينبغي علي العلماء أن يدركوا أفق تاريخ العلم ، ولا يتجاهلون أن نظرياتهم أتت في سياق نظري أخري سابقة هي محاولات ناجحة تمثل معالم بارزة في تاريخ العقل وتاريخ الحضارة وتاريخ الثقافة .. إن العلم كما ينتهي تولمن – هو أولاً وأخيراً كيان تاريخي ونشاط اجتماعي

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *