Share Button

سيناء، جنوبها وشمالها، مطلق مفهوم الأرض، هى الأرض المقدّسة، النور والنار، من يعرف لهذه البقعة المباركة قداستها لا يفرط في شبر واحد فيها.
الموت فيها وعليها شهادة مؤكدة، والتمسك بترابها عمل الأبطال تماماً كما هو قداسة نبويّة، معراج للنور من طريق النار (فلمّا جاءها نُودي أن بورك مَنْ في النار ومن حولها) وهكذا يكون معراج الأنبياء بمناجاة الله رموزاً نورانيّة : النار، الشهاب، القبس، الخير حول النار، والاصطلاء بالنار، وفي دفئها ونورها، ثم إن البركة اقتضت أن تكون في النار ومن النار، وفيمن حول النار، وكل مصطل بالنار.

كل نار على أرض سيناء دلالتها نور، ولَكَ أن توسّع هذه الدلالة لتقول كل معاناة على الأرض المقدّسة محفوفة بالخير والبركة، وكل شكوى من أهالينا في سيناء اليوم من القتل والجوع وقلة الموارد ونقص الأغذية ومخاطر الحياة اليوميّة إنما هى أمور عرضيّة مؤقتة، لكنها في الوقت نفسه موصولة بعروج محقق نحو الأفضل بكل تأكيد.

لستُ أنا ولا غيري من يقطع بهذا، وإنما الذي يؤكده هو نور الإيمان بنصوص القرآن. رموز المعراج المقدّس على أرض سيناء المُقدَّسة إنما هى رموز نورانيّة (فلمّا قضى موسى الأجل وسَارَ بأهله أنس من جانب الطور ناراً قال لأهله امكثوا إني أنستُ ناراً لعَليَّ آتيكم منها بخير أو جذوة من النار لعلكم تصطلون، فلمَّا أتاها نودي من شاطئ الوادِ الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله ربّ العالمين).

لاحظ النار على جانب الطور في مكان عال، والخير حول النار، والجذوة من النار ثم الاصطلاء، وشاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة حيث تفيض المياه وينزل من السماء الغيث، لاحظ هذا كله وتأمل معراج الأنبياء، وتأمل الرمز بالنار والاصطلاء بها لتجده نوراً كله وخيراً كله وبركة كلها في أرض مباركة، وقد لا ندرك نحن على التحقيق طبيعة هذا الغيث، ولا فيضان المياه، كل ما هنالك أنه خيرٌ وبركة لا يحصيهما تصوّر الإنسان المحدود.

ربما يكون الرمز علماً أو يكون ثروة، وربما يكون غير هذا وتلك من رموز أو إشارات لا نقف عليها حقيقةً، المهم أنه رمز لخير ولبركة فيهما النور بكل تأكيد.

وعجباً : أي نورُ في ظل الحرب على الإرهاب الذي أستوطن الأرض، وفي ظل الشر الذي يريد أن يستبدل النور بالظلمات؟

الاصطلاء بالنار والاكتواء بها ضريبة النور في كل حال، فكما أن لكل شئ تبعاته التي يرتكز عليها، فله كذلك ثماره ونتائجه. ومقاساة المعاناة بنقصان الموارد واستشهاد الشرفاء الأبطال شيءٌ تفرضه تلك الضريبة، ومن وراء هذا كله نورٌ وحياة كريمة بكل تأكيد.

من منّا في السابق لم يكن يحلم صباح مساء بأنشودة الأمان على أرض الفيروز؟ من منَّا لم يبلغ به اليأس مبلغه لشهوده أن كل ما يفعله أو يشرع في فعله سرعان ما يتبخّر أمام مقتل جندي أو قائد أو رجل يمر عرضاً في طريق؟

ولكننا في الغالب في اللحظات الحاسمة لم نقو على نار الحرب، ولم نصبر على الاصطلاء بها على الرغم من أن ثمارها مؤكدة في ذلك النور الموعود.

قبل العملية العسكرية كنّا نطلب في العريش أنشودة الأمان فإذا كنّا فعلاً في حالة حرب، وأي حرب أنها حزب العصابات : الأعصاب فيها منهارة، والحقوق مهضومة، والنفوس محبطة، وكل ما تفعله أو تشرع في فعله سرعان ما يتبخّر أمام قتل الجنود أو القادة أو من يمرون عرضاً في الطريق؛ فما المطلوب منّا أكثر من الجهاد وسط التفجير والتفخيخ والانقضاض، وأكثر من الصبر على واقع يدفع المرء للقنوط، ومع ذلك يعمُّ اليأس كل اللحظات المفيدة التي توحي لك بالبقاء حياً مع الأحياء؟

في يوم من الأيام؛ قبل أن تبدأ العمليّة العسكرية الشاملة، أصابتني حالة غريبة من الكآبة والحزن وأنا بين طلابي أشرح لهم المحاضرة بحماسة معهودة، فإذا بهم يقابلونها بالفتور والإعراض؛ لينتابني شعورغريب بعدم جدوى العمل وجديته، وتحول اليأس من جانبهم في مثل لمح البصر إلى قنوط عندي لم أعهده في السابق، فهل يجوز العمل النافع في ظل الحرب والعدوان؟ متى يبلغ البنيان تمامه إذا كنت ما تبنيه غيرك يهدم ؟!

وانتهت المحاضرة، وإذا بجلسة مفتوحة مع الطلبة أسائلهم عما يدور بأذهانهم من خواطر حول الظروف الجارية، وأتلقى إجابات منوّعة تنقل لك ما يمكن أن يحدث في الشارع وفي المنزل وفي الحارة وفي الأسواق .. أفكار عجيبة كل العجب .. الطالب الذي كان منذ ساعة يخيم عليه الحزن ويصدّر الأسى حتى لينال من أستاذه المحاضر ينقلب فجأة إلى مفوَّه ثرثار لا تعرف كيف توقفه إلا إذا نهرته.

والطالبة التي كانت حزينة كسيرة مكتئبة تتحوَّل في لحظة إلى متحدّثة لبقة تجيد فنون القول البليغ.

الكلُّ يحكي عن الأحداث ولا أحد يعرف الحقيقة، والكل يحلل ويستنبط ويسمع ويرى ويقول، والكل يكذب ويضلل ويغرق في الكذب والتضليل، والكل يتوهم ويجري وراء الوهم في سباق عجيب، والكل يدافع ويستميت في الدفاع لأجل لا شئ .. لكن تبقى الحقيقة التي لا يكذبها الواقع الفعلي : استشهاد جنودنا الأبطال وقادتنا الشرفاء، يبقى سيل الدماء بالغدر واقعاً أليماً تتفجر منه مأساة إنسانية يعيشها الناس على هذه الأرض المقدسة.

قصص وروايات تهول وتروع .. حالة من عاصفة مرتقبة يسبقها شعور عام بالتجهيل المتعمد، مع يأس بلغ الذروة يصحبه فقدان لأهم مقومات الطاقة العاملة : (الأمان).

وإذا ضاع الأمان فلا علم ولا خلق ولا دين ولا دنيا ! وبما أن الحكم على الشيء فرع من تصوره كما يقول الأصوليون؛ حتى إذا ما تصوّرنا أن ضياع الإيمان أصلُ لضياع الأمان؛ فكذلك يكون فقدان الأمان سبباً لضياع كل شئ بما في ذلك الإيمان نفسه؛ ولأن الأمان أنشودة عذبة تتأسس على الإيمان تأخذ منه فيغذيها بروافده الوجودية فتنمو وتزهر وتثمر في ظله وتستطيب، فلا شئ يقيم السلامة النفسية غيره، ومتى نزعنا الأمان عن المجتمع والناس نزعنا عنهم الإيمان، وأبقينا محله الذعر والخوف والترهيب، وبالتالي نزعنا السلامة النفسيّة من الأفئدة والقلوب وأدخلنا عليها القلق الذي لا تقام حياة صالحة في ظله.

طلاّبُنا في قاعات الدرس الجامعي أستغرقهم الأمل في أن تحل السلامة النفسية على مجتمعاتهم ليقوموا بواجباتهم وليتفرّغوا لما هو أهم من الهدم والقتل والترويع والفزع الذي يحدّق بهم صباح مساء.

قل لي بربّك: كيف تقوم بواجباتك العلمية والتربوية وأنت محاصر من طلابك بنظرات قاسية من فقدان الأمل وتمكن الخوف واستقرار الترويع؟! ثم كيف تواجه الأم الثكلى التي فقدت فلذة كبدها وهو يدفع عن الإثم والعدوان عن بلاده؟

لم يكن الذين يعملون على هذه الأرض ليتمثل لهم الواجب الوطني والديني ويكون الدم هو المقدم للفداء بأقل عروجاً بالنار إلى النور.
كان من الممكن لأكثرهم، بطريقة أو بأخرى، أن يهرب من ميدان الجهاد، ولكن نظراً لواجبهم الوطني استمروا في مواقعهم وأعمالهم وجندوا أنفسهم لدعم القوات المسلحة ظهيراً للجيش المصري، وبخاصّة قيادات جامعة العريش وإسهاماتها في تخفيف المعاناة على المواطنين بعرض إنتاج كلية الزراعة من سلع غذائية في الأسواق كلما أتاحت الفرصة بأسعار التكلفة درءً لجشع التجار واستغلال الأقوياء للضعفاء والمحتاجين.

وممّا يزيد في غصّة الألم حقيقةً هو مدى التغافل عن فعل التعاطف من جانب المدن الأخرى عن تقديم الدعم الواجب لأهالي العريش. كيف جاز للمصريين أن ينعموا بما ينعم به الآمن المطمئن في بلاده وإخوانهم في سيناء يتألمون ويعانون؟!

حقيقةً تحيّة لجنودنا البواسل ولأبطالنا الشرفاء. فأما الشهداء فقد حيّاهم الله تعالى وأغدق لهم التحية بمقدار ما أجزل لهم العطاء.

وتحيّة لإخواننا وأصدقائنا وزملائنا المرابطين في نار المعركة على أن يثقوا أن النار سرعان ما تتحوّل إلى نور، وأن كل اكتواء بها واصطلاء هو في ذاته مع الصبر نور.

وسيأتي اليوم القريب الذي نحتفل فيه جميعاً، رئيساً وشعباً، بالقضاء على خفافيش الظلام، صُنّاع العار الوطني، خوارج هذا العصر، كلاب النار ومن وراؤهم من الدول والمنظمات .. لك الله يا أرض الفيروز، النار فيك ضريبة النور، وعد من الحق غير مردود ولا مفقود.

بقلم : د. مجدي إبراهيم

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *