Share Button

كثيرةٌ هى مزايا التصوف، البديل الفعلي للإرهاب، غير أنها تتفرَّق بين الأولياء والعارفين والصوفيّة، ويتفرَّق النزوع إليها والإعجاب بها، مشاربَ وأذواقاً، بين الدارسين والباحثين. وقد يحرم الصوفي إحداها أو أكثرها وهو من بعدُ صوفيُّ لا شك في صوفيته؛ لأنه يُحسن ضرباً من الصوفية تصحُّ بها صوفيته ولا يشك فيها أحد.

فقد يُعجبنا من كل متصوف خصوصية فيه ومزيّة ينزع إليها، ويصنف بين الصوفية وفق تملكه إيّاها واتصافه بها؛ فالذي يتميز به أبو طالب المكي غير الذي يتميز به الغزالي، والذي يتميز به هذين غير الذي يتفرد به الجنيد والحكيم الترمذي أو البسطامي أو الحلاج أو ابن عربي أو الجيلي أو السّهروردي أو ابن سبعين. والذي يستحق به كل واحد منهم صفة الروحانيّة غير الذي يستحقها به البقيّة، فيما لو أخذنا بتصنيفات “الباحثين” – لا تجارب العارفين – بين تصوف سّنيّ أو سلفي أو إشراقي أو فلسفي أو شبه فلسفي على اختلاف الضروب واختلاف التقسيمات.

غير أن المزيّة التي لا غنى عنها والتي لا يكون الصوفي صوفياً إلا بنصيب منها وافر هى مزيّة واحدة لا خلاف في الرأي عليها : “التجربة الصوفيّة”، وطلب المعرفة الإلهيّة من طريق الذوق والتبتل، وهو مطلبٌ عادل للذات المؤمنة لا شك فيه ولا غبار عليه.

فكما تكون “الطبيعة الفنية” مزيّة الشاعر المطبوع لا غنى عنها ولا يكون الشاعرُ شاعراً إلا بنصيب موفور منها، كما يقول الأستاذ “العقاد” في مقدّمة كتابه عن “ابن الرومي حياته من شعره”؛ كذلك تكون “التجربة الصوفيّة” التي هى حياة الأولياء والعارفين، مزيّة الصوفي الأصيل، ولا يكون الصوفيُّ صوفياً على الحقيقة إلا بنصيب منها.

تعمدتُ حقيقةً أن أستخدم نفس الألفاظ والكلمات التي استخدمها الأستاذ العقاد عند الحديث عن ابن الرومي في مقدمة كتابه وهو بالمناسبة من الكتب التي يعتز بها مؤلفها، وتعمدت أن أسلخها من هناك لألبسها ثوب اللغة الصوفية هنا؛ للمقاربة البادهة بين الطبيعة الفنية لدى الشعراء والتجربة الصوفية لدى كبار صوفية الإسلام، وبما أنها مقاربة عجيبة فعلاً فيها امتياز واختصاص، فتكاد تنطبق الأوصاف التي تطلق على الشعراء من أصحاب التجارب الفنية على الأوصاف التي تنطبق على الصوفية من أصحاب التجارب الروحيّة.

فقد أراد العقاد أن يستخرج من أقوال ابن الرومي حياته التي تدل عليها من الوهلة الأولى أشعاره، لكأنه يريد أن يقول إنه ما من بيت من قصيد الشاعر إلا وعليه من قيم الحياة الحيّة الفاعلة ما يوافقه ويدل عليه ويسمح باستخلاصه في مصدر الشعور ومنبت الضمير من حياة الشاعر نفسها، إذ الطبيعة الفنية هى الحاكمة الفاصلة فيما يصدر عن شاعرية الفنان، وليس يقدح شئ في شاعريته من بعدُ إلا أن يكون خلواً منها.

وبنفس المقاييس، تجئ التجارب الصوفية هى الفواصل الفارقة العاملة في معطيات الإشارة الصوفية التي تستقى من عين التجربة، فالمقول يتحد مع الحالة بلا ريب في بطن التجربة الصوفية، فلا تسمح التجربة الصوفية عند الصوفي بمعطياتها إلا بما تسمح به الطبيعة الفنية لدى الشاعر بمقوماتها، كلتاهما حياة تظهر أسرارها مع الشاعر المطبوع والصوفي الكبير تحت ظلال التجارب والطبائع.

فإذا كانت الطبيعة الفنية من الضرورة بمكان بالنسبة للشاعر، فالتجربة الصوفية من الأهمية بمكان بالنسبة كذلك للصوفي الكبير، كلتاهما اتحاد في المبدأ يقوم على منبت الشعور ويتغذى من قرارة الوجدان ويصدر عن الصدق فيما يقال عنهما من شعر الشاعر أو عبارات الصوفي واشاراته.

وليس هناك من عجب أن يتلاقى الشاعر المطبوع مع الصوفي الأصيل؛ فما أقرب الصلة الوثيقة بين الشعر والتصوف، أو بين التجربة الصوفية والطبيعة الفنية، وما أبعد الخلاف بينهما في غور التجربة ويقظة الإحساس بجوانب الحياة المختلفة، مع الوضع في الاعتبار فارق “التوجه” وفارق “التعلق”، ومع الاحتفاظ بالمصدر الشعوري واليقظة الروحية في كلتا التجربتين. فإذا كان الصوفي يتوجه مباشرة بوحدة قصده إلى الله ويتعلق بالوسائل التي توصّله إليه، فالشاعر يتوجه إلى فكرة أو معنى يعيشه ويحسه كما تعاش الحياة الحيّة وتُحس، ويتعلق في الغالب بمحبوبة في عالم الحسن ينزع بها وجدانه من المحسوس إلى المعقول، ويروم قصداً من وراء ذلك غير الذي يرومه صاحب القصد الأول ويتوخّاه.

وربما توصّل الشاعر بقصده المحسوس إلى ما يعلو على الحس ويرتفع في المثال؛ لينشد الحقيقة التي ينشدها الصوفي من أقرب طريق، فقد يتوصّل إليها إذ ذاك بشعوره الخالص المُجرد؛ ليجيء مصدر الشعور ها هنا توحيداً بين تجربة الصوفي وتجربة الشاعر رغم فوارق التوجه والتعلق، فالذي يتعلق بالله ويتوجّه إليه ليس كالذي يتعلق بمحبوبة عشقها وتبتل إليها في عالم الحس، ويتوجه إليها من بعدُ ويكنى عنها بالشعر أو بالنثر أو بما شاءت له قريحته أن يكنى.

ويبقى بعد ذلك ما لا خلاف عليه من تجارب المحبين وصبابة العشاق، وهو أن الطبيعة الفنية لدى الشاعر المطبوع تكاد تقترب من التجربة الصوفية عند الصوفي الكبير، تأخذ عنها وتتوحد بها حتى لا تكاد تفرق بينهما، يظهر هذا في العلاقة بين الحب والموت.

إنما الأمرُ هنا لا يتوقّف عند حدّ العلاقة بين الحب والموت وكفى، بل يتعدّاه إلى ما بعده، وهو بقاء القصائد الشامخة في الوجدان الراقي، الصافي النقي، لتشرح العلاقة بين الحبّ والموت، وتجلو الصلة القويّة بين الحبّ الحسّي والحبّ الروحي، إذ كان الأول مقدّمة للثاني. ولا يفهم من الثاني (الحب الإلهي) إلا ما يستقر عليه الفهم حقيقةً من الحب الأولىّ، (الحبّ الحسيّ)، فلم تبدع رابعة العدوية في ميدان الحبّ الإلهي إلا بعد تجربة ممضّة مع الحبّ الحسيّ، ولم تكن الصبابة التي يعانيها المحبون في الأودية الحسية إلا مذقاً إنسانياً صادقاً من ظلال التجربة الروحيّة.

واهمٌ من يتصوّر أن هذه القصائد أو تلك تخاطب محبوبة وكفى، لتكون مجرّد علاقة حبّ بين طرفين ليس أكثر .. كلا بل في القصيدة التي يقولها الشاعر الممتاز ظلال صوفية خالصة، ليس أيسر من نقلها على الفور من الأودية الحسيّة إلى الأودية الروحيّة في لحظة تجرّد صادقة، الأمر الذي يتأكّد معه أنّ المحبين في المحسوس هم أنفسهم المحبُّون في المعقول، في عالم الروح. وأنّ معاناة التجربة في المحبّة الحسيّة هى نفسها معاناة التجربة في المحبّة الروحيّة، وأنّ القادرين على تذوق الحبّ الحسّي هم أنفسهم القادرون على تذوق الحبّ الإلهي من وراء الأشباح والظلال.

فارقُ التجربة الشعوريّة هو التوجُّه، ولكن نهايات التجربة في الحبّ الحسّي تكون في الغالب بدايات التجربة في الحبّ الروحي الخالص، وربما يختلط الأول بالثاني وليس من ريب، وتكون التجربة واحدة، وتزول الفوارق الشعوريّة بين التوجُّهات وتذوب، فلا يعرف المُحب في أي واد من الأودية يتوجّه فيُسلم قياده؛ لأنه لا يلمس فارقاً باطناً في أصل المحبّة ولا يكاد يقف عليه.

وشعراء بني عُذرة كجميل بثينة، وقيس لبنى، وغيرهما من شعراء التبتُّل والعفّة كانوا أكثر الناس دلالة على هذا النوع بالحبّ إلى الموت؛ لوجود علاقة رُوحيّة صافية بين الحبّ في الأودية الحسيّة والحبّ في الأودية الروحيّة. وصبابة العشّاق لوعة مُخامرة هى نفسها تكاد تكون الصبابة التي يعيشها أصحاب الأذواق والمواجيد.

الحُبّ الإلهي أصلُه في الانسان محبّة جزئية محدودة بوقوف الهوى على المُحبّ، تفاصيلها نزوع الوجدان إلى الأصل، وكلما اقتربنا من الأصل زالت الفوارق وذابت الحواجز والمحاجيب، وحلّت من ثمّ الوحدة محلّ التعدُّد والكثرة، فليس يبقى إلّا الواحد على الدوام.

(إنّ الغرام هو الحياة، فمُت به صبّاً، فحقّك أن تموت وتعذرا)

هكذا كان ابن الفارض يقول. هذا ظل ثابت في وجدان العشاق من ظلال التجربة الصوفية لا يمكن تغافله أو صرف النظر عنه بحال.

وعليه، فلا يوجد صوفي واحد له رأي أو مذهب أو أثر من آثار الكتابة والتدوين ولا تكون له تجربة روحيّة ينطلق منها ويعتمد عليها ويتذوق آثارها فيما يرى أو يقول؛ فلئن فاتته التجربة فلم يستطع خوضها وركوب متاعبها؛ فلا يخلو من شرط التعاطف معها على أقل تقدير.

ولأجل هذا تجئ التجربة الصوفية دائماً أسبق لدى الأولياء والعارفين من الفكرة الفلسفية. وما الفكرة الفلسفية في ظلال التجربة الحيّة المعاشة إلا بمثابة شرح العقل النظري لتجارب العمل والإنشاء في إطارها. ولولا وجود التجربة الصوفيّة معتمد الأولياء والعارفين ما صَحَّتْ على الإطلاق أذواقهم ولا مشاربهم ولا أحوالهم، وما صَحَّ لهم حال ولا سرُّ ولا معرفة ولا علم ولا نظر، بل ولا مذهب ولا نظرية ولا رؤية ولا استقام لهم طريق؛ إذْ التجربة الصوفية مناط الثورة الروحيّة في الإسلام ومستندها الفاعل بغير شك، وأساس الثمرة المرتقبة من وراء المذاهب والآراء.

وعلى هذا الأساس، لا على أساس غيره، ينبغي أن تُفَسَّرَ كل الآراء الصادرة عن المتصوفة في إطارها ولا تُفَسَّرُ في إطار سواها. وعلى هذا الأساس، لا على أساس غيره كذلك، تجيء “مطالب الذات المؤمنة” خاضعة خضوعاً تاماً لمعطيات تلك التجربة الصوفية تُفَسَّرُ من خلالها، تأخذ منها وتعطي من عساه يشعر بها ويحس معها شعور التعاطف وشعور الترقي في مدارج المعرفة ومعارج الاتصال بالحقيقة الإلهية.

بقلم : د. مجدي إبراهيم
أستاذ الفلسفة الإسلامية

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، و‏‏نظارة‏‏‏

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *