Share Button

بقلم : د. مجدي إبراهيم

عطرُ الأحبار كعطر الأحباب : جَمالٌ تستنشقه الرّوح، لكنه يعزُّ ..!
ليس في المقدور أن ينال في كل حال، ولا في أي حال! مَنْ ينال عطر الروح يتألم ويعاني. والمعاناة ليست حالاً دائمة وكذلك الألم .. إنّ الصبابة التي تنبعث من الألم هى غُصَّة روحيّة يكابدها من يعانيها، ومَنْ يتذوق الجمال الذي تدركه الروح يتذوق في الوقت نفسه نسمات عطره الفوَّاح برائحة طيبة زكية تتجاوز الأبدان لتنفذ إلى أعماق القلوب.
هذه الرائحة العَطرة الزَّكية هى الرائحة التي يتذوقها من يعاني تجربتها. العطر هنا هبة موهوبة تهبُّ عليك فيضاً من نَسَمَات الروح! فكما أن للعطور المادية أشكالاً وألوناً، فكذلك عطور الروح هى كذلك أصناف وألوان : كلُّ يألف اللون الذي تستقبله روحه وترتضيه، على ديدن التذوق وصبابة العشاق.
فالذي يتذوق شذى نوع ما من العطور، يتنسَّمه ويرتضيه : يتذوَّقهُ؛ لا يلزمك أن تصرفه إلى غيره، فليس في مثل هذا التذوق إلزامُ من خارج، وكذلك عطور الأرواح هى أعلى في الخصوصية وأخص في الدلالة؛ لأنها صادرةٌ عن معاناة صاحبها مستمدة من تجربته الخاصة المخصوصة به وحده دوناً عن سواه، فليست من ها هنا مُلزمة لأحد، ولا من حق أحد أن يفرضها على أحد.
فما يَصْدُرُ عن الرُّوح هو عطرها الخاص يميزها فتمتاز به عن غيرها، فلا تتشابه ولا تتشاكل مع هذا الغير لا في رائحة ولا في شذى ولا في لفتة ولا في ملمح ولا في خصلة من خصال التفرُّد والامتياز.
طول التعامل مع الشيء يجعلك تألف أسراره .. لا بل قد يكشف لك عن أسراره ما دُمْتَ قد ألفته وألفك، فتلك معرفة بعد الألفة لا قبلها. المعرفة هنا ليست مُتَاحة ولا هى ميسورة بمُجرَّد العبور عليها عبور الكرام، لكن يلزم أنْ تألف طريقها أولاً، ثم بعد الألفة تجيء المعرفة؛ لتأتي على التوالي مرحلة التكشُّف عن السرِّ الكامن فيها. هذه معرفة نوعية؛ خَاصَّة إلى أقصى درجات الخصوصية، الشيء الذي تألفه فتدركه قد تُصيبك منه رائحته، تصيبك في روحك، وفي قلبك، وفي أعمق أعماقك لترى عطره الفوَّاح يجود عليك فيما لا يستطيع أن يجود عليك به شيء آخر سواه!
ماذا أقول؟ فهل من حقي أن أقول إنني هكذا أستنشق رائحة الحبر الذي استخدمه وأكتب به على الدوام؛ لتجيء نفَّاذة مليئة بالمعاناة، كرائحة المعاناة نفسها التي يعانيها القلم حين يكتب، وما امتلأت عندي بالمعاناة إلا لأنها ملآنة على الدوام بالمعاني مُترعة بفيض عجيب يُذَاقُ ويصفو في عالم التجريب.
إنّ المعاناة الحقيقية من أجل فكرة علوية نافعة لا تضيع، وأن مقاساة التجربة على مستوى النظر والتفكير تُشْبِه مقاساتها على صعيد العمل والممارسة؛ وأن فعل الكتابة نفسه هو من صميم التجربة الروحيّة مع المقروء والمكتوب؛ فلئن كانت المُعاناة ذاتها تجربة، وكانت “الكتابة” معاناة صاحبها؛ فلا أقلَّ من أن تأتي آثار تلك المعاناة تعبيراً عن خصوصية الكاتب فيما يمرُّ به من أحوال تماماً كما أن صاحب التجربة الروحيّة تمرُّ به أحواله في الطريق.
إنّ تدوين التفكير من أصعب ما يمكن فيما لو كان التفكير تجربة ومعاناة، وفيما لو كانت الفكرة حياة صاحبها ولا تزيد. هنالك تجد الكاتب في أغلب حالاته مُغيَّباً عن الواقع الذي يعيشه مع وجوده فعلاً في الواقع العملي، تنتابه حالات تشبه الغيبوبة أو هكذا يُخيَّل إلى من يراه، ولا أحد يدري كوامن ما في صدره من مراجل تغلي وتفور، شأن الشاعر فيما يحسُّ به وفيما يشعر، وشأن الموهوب فيما يعمل فيه وفيما يقْدِم عليه، وشأن الأديب في معاناته مع التجربة ومعاناة التجربة له. وبمقدار انفصاله عن واقعه يُبْدع حين يرى ما لا يراه الآخرون ممَّن ينغمسون في الحياة العامة والخاصّة انغماساً لا يتيح لهم ولو للحظة واحدة فرصة التأمل داخل ذواتهم كيما يدركوا منها ما لا يدركه سواهم، يدركوا منها المعنى الكبير لهذه الحياة الإنسانية العامرة بالفعل الإلهي العجيب.
لكن التأمل في الحياة – كما كان أبو تمام يقول – يزيدُ أوجاع الحياة، ومعنى أن تزيد فيك الحياة بأوجاعها لهو هو المعنى نفسه الذي يحيطك منها بكثير ممَّا لم تكن من قبل قد أحطت به علماً ومعرفة من طريق النظر والتأمل، فضلاً عن الإدراك والتحقيق. بيد أن ضريبة هذه “الإحاطة” قاسية جداً، هى الزيادة في الوجع وفي الألم وفي المعاناة ناهيك عن ضريبة التَّحقُّق ذاتها : سحب النفس بالجملة عن مجراها الطبيعي، وخروجها عن التمحور حول ذاتها أو حول الواقع الذي تعيشه بكل ما فيه ومَنْ فيه، والإلقاء بها في مَرَاجل التأمل التي تَغْلي وتفور لتفعل فيك تجربة الروح والفكر والتأمل فعلها الذي ينتظرك على موعد منه وعلى لقاء!
التجربة في هذه الحالة هى التي تقودك، ولست أنت القائد ولن تكون. التجربة هى التي تفعل، ولست أنت الفاعل ولن تكون. هنالك يكون التخلي عجباً من أعاجيب القدرة : أعني التخلي عن وهم تمثل في الوعي المحفوظ دوماً بالأنانية، واستبداله بمحيط السلامة النفسية بداية حين تتحلى بمجموعة “قيم علوية” تعتقدها وتدين لها بكل الولاء، وشيئاً فشيئاً تصبح عادة التحلي طبعاً لا يقبل الانفطام ولا التخلي عنه بحال.
بَقَاءُكَ مرهون بعقيدتك في هذه الحالة ما في ذلك شك، وَتَقَدُّمُكَ موقوف على الولاء كل الولاء لما تدين ممَّا عَسَاَكَ تحلَّيت به في السابق وتزكيت.
* * *
سَهْلٌ جداً أن ينطلق لسانك بما تفيض به جوانحك من مشاعر وأحاسيس، لكن هذا كله شيء، والمعاناة شيء آخر. إنّ هذه المعاناة هى في الواقع تاريخ يحمل تجربة، فتحمل التجربة تذوقاً، فيتولدُ عن التذوق شذى يعطي رائحة فلست تعرف أيَّاً منها هو الأعلى أو هو الأدنى هو النافذ بسحره إلى الأعماق أو المتبقي على السطح بلا نفاذ، كلها درجات عالية متساوية في الشعور، وإنْ كانت متباينة في الإدراك.
هذه الرائحة الشَّذيَّة النَّديَّة ليستْ صادرة عن لا شيء، بل صادرة عن التاريخ المُعبَّق بعبق الروح، عن تراكم فكري ومعنوي طويل، عن تجارب قد لا يجود بها الزمن أبداً لمن لا يعرف لها قدراً ولا ينصف لها في معطياته حكماً.
إذا ارتبطت المعاناة بالألم، تصورنا على الفور كيف ترتبط رائحة الحبر الزكية بالنسمة التي تَرف عليك كما ترف عليك نسمات العليل في يوم قائظ ليس فيه نسمة تهفو ولا ترفو!
فكما أن المعاناة مقاساة تندفع عن ألم يعيشه ذلك الذي يُعاني تجربته؛ فكذلك مثل هذه الرائحة الشَّذيَّة المُعَطرة إنْ هى إلا ترياقُ للألم الذي تعاني، حين لا تجد ترياقاً آخر تشفي به غُلَّة الشوق إلى فردوس مفقود : بمجرَّد أن تستنشق عبيره الفوَّاح يتلطف لديك الألم وينزاح.
وإذا كان ألمُ المعاناة همَّاً من هموم الفكر علوياً هو، قد يتسبَّب في آلام بدنيّة ومادية وأوجاع جسديّة، ففي تلك الرائحة التي تنبعث من حبر المحبرة وتتقطر من قطرات القلم كذلك شذي علوياً يَتَسَرَّب إليك من طول الألفة وحنين المعاشرة؛ ليطفئ لديك أوجاع الروح بل يشفيها حين يُرضي عندك القناعة بما تعمل فيه وتعمل لأجله، إذْ تحسُّه في روحك وتدركه في قلبك، وتتلقاه في أعمق أعماقك، وهو مادة، ثم تستشعره شعور الأحياء؛ وهو ميت أو فيما يُشبه الموات، وما من عجب؛ فإن كل شيء تتناوله الروح ويعانيه الفكر وتُبَاشره التجربة، لم يعد في عرف تلك الأقانيم العلوية مادة، ولكنه ينعكس من فوره لتتغلب الروح فيه على الشيء، فيصبح هو نفسه روحاً ولو كان شيئاً مادياً فيما يبدو في الظاهر.
وليس هنالك من عجب؛ إذْ ليس في التجربة عجباً .. كل مُعاناة حقيقية مُخلصة على الأوراق هى حياة، لكنها ليست ككل الحيوات؛ لأنها الحياة العقلية والروحيَّة التي تنحصر في نقطة مُركّزة يتجمَّع فيها كل ما في الإنسان من أعصاب وخلايا ومدارك وأذواق وتجارب ومشاعر وإحساسات ثم معارف وثقافات؛ كل ما في الإنسان على التعميم؛ لا .. بل كل ما في الإنسان على التخصيص.
خصوصية الإنسانية فيه هى التي تعطي عصارة تفكيره ومداركه وأذواقه ومواجيده خالصة ومُعَبِّرة .. الخلاصة الإنسانية التي يمكن أن تُعَبِّر بدقة عن معنى الإنسان تتركز في هاته “النقطة” ليمضي العقل من فوره في أن يخرجها على الورق حياة رُوحيّة وعقلية وشعورية خالصة ومُعَبِّرة؛ لكنه حين يخرجها لا يخرجها مُجَرَّدَة عن عطرها الفوَّاح، بل يخرجها ممزوجة برائحة علوية كريمة ونبيلة، هى بغير شك رائحة “عَرَق المعاناة”؛ مشهوداً في ذلك المداد الأسود الداكن الكثيف الذي تألفه ويألفك، ويعيشُ معك وتعيش معه كما لو كان طعاماً لك وشراباً، لا بل هو أغلى وأعز وأبقى من كل طعام وشراب؛ ذلك لأنه مداد الروح بأعجب ما تنفردُ به الروح من حيوية خلاقة واتصال بالملأ الأعلى نادرٌ وعجيب !
د. مجدي إبراهيم
Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *