Share Button

عوائق تقدّم العقل العربي

بقلم: د. مجدي إبراهيم

إذا أردنا أن نبتغي “إصلاحاً” عاماً على الحقيقة لا من طريق المجاز، فوق ما نريده من الإصلاح “الفكري” على وجه الخصوص، علينا أن نحدِّد عوائق تقدُّم العقل العربي بدايةً قبل الدخول في مسألة إصلاحه، بمعنى إزالة هذه العوائق قبل غَرْسِ الجديد، أي إزالة ما لا ينبغي، تهيئة واستعداداً لما عَسَاه ينبغي، وذلك لأن كلمة “الإصلاح” كلمة جليلة مُهَابَة لا يقْدِم عليها سوى الأبطال، تعبَ المفكرون في تنظيرها وتوالت معطياتهم فيها عبر تاريخ الوعي العربي تترى من أجل خدمة أوطانهم ومعتقداتهم، ولكي يحفظ التاريخ آثارهم في الفكر والواقع، وفي تنظير الفكرة الإصلاحية، وتقنين مستوى الأداء على ذلك الواقع الذي يأملون تغييره، فيحوّلون زاريا السلب فيه إلى مزايا الإيجاب.

ولعَلَّ أول العوائق التي تعوق العقل العربي عن الرؤية الواضحة هو : ضبابية اللغة التي تكرس ضبابية الفكر من الوهلة الأولى، ثم التعبير عن هذا الفكر بلغة معقدة اصطلاحية جافة منقولة من الغرب لا هى بغربية أعجمية صرفة، ولا هى بعربية فصيحة قُحَّة، لا روح فيها ولا إحساس، لغة مُرَقّعَة أو قرعاء تصيب العقل بالغيبوبة الفكرية، ولا تقدّمه قيد أنمله نحو هدف الفاعلية التطبيقية، يستخدمها بعض المثقفين ليُقال عنهم جهابذة متفردين في تخصصاتهم ومطالعاتهم لكتب الغرب واصطلاحات كُتَّابه النّوَابِه !  

فلئن أفادت هذه اللغة بعض المتخصصين بين قاعات الدرس، فهى لا تفيد المجموع العريض مِمَّن يُراد لهم أن يفهموا، وأن ينهضوا، وأن يتقدموا، وأن يتحدوا، بل على العكس تصيبهم بالإحباط والتراخي ثم العزوف عن القراءة والتحصيل. هذه اللغة القرعاء تدلُّ من أول وهلة على أن الفكرة التي تريد توصيلها، والرسالة التي تنهض من أجلها هما كذلك فكرة قرعاء ورسالة قرعاء.

وإذا قطعنا النظر عن الترقيع في التعبير والتفكير عرفنا الفكرة إنْ هى إلا خاطر يخطر، ويتفاوت قوة وضعفاً حين يخطر، فإذا وجد هذا الخاطر مدداً من الألفاظ الدالة على خَطْرَته، صيغ بوضوح نفهم منه دلالة الفكرة في رحم العقل. أما إذا عبَّرتَ عن خواطرك بقلق واضطراب فيما تريد أن تعبِّر عنه من خواطر جاءت أفكارك وكأنها لا تمتُ إلى عالم التفكير بصلة، لكأنك التقطتها التقاطاً من ألسنة الناس وأفواه المتحدثين (كالثقافة الشفاهيّة لا تستند إلى حصيلة فكرية مقرَّرة بآثار التدوين)، غير مشيرة إلى ذات نفسك، ولا هى ماضية حسبما تريد إلى غايتها في باطن النفس كما أردت لها أن تكون؛ لأن قلق التعبير واضطرابه معناه قلق في التفكير واضطراب في تصورات الإدراك الذهني.

ونقطة أخرى نجليها في هذا الصدد وترتبط بقمة العمل الإبداعي، وهى أسبقية الشعور على الفكر؛ إذْ لولا فيض الشعور بحركة الانفعال ما كان هنالك إبداع أصلاً، وعلى الشعور يستند الفكر عندنا، لا العكس؛ فكم ألهمت العواطف والوجدانات كبار الكتاب صوراً ساحرة وألهمت الشعراء تشبيهات بديعة وأخيلة فاتنة خلابة، ربَّما ينتهي التفكير دائماً إلى لغة، هذا صحيح، بل لا سبيل إلى المنطقي والسامي منه بدونها، لكن التفكير نفسه يستند إلى فورة الشعور ودفقة الوجدان، ولا يستند الشعور على الفكر عندنا أبداً، وقديماً قال أفلاطون :” إنَّ التفكير كلامٌ نفسيِّ “؛ أي شعوري.

وهو ما أصابه الشاعر العربي تعبيراً صادقاً وحكمة جلية ساطعة بقوله :

إنَّ الكَلامَ لفي الفُؤَاد وإنَّما         جُعِلَ اللَّسَان على الفؤاد دَلِيلَاً

كل ما هو في الباطن من حوافز شعورية هو بمثابة الأصل الأصيل تقوم عليه عناصر اللغة : وجدان وعاطفة، وفكر ورأي، وبيئة ومجتمع، ومدلولات ودوال.

أي نعم! قلقُ التعبير واضطرابه معناه قلقٌ في التفكير واضطراب لاشك في الإدراك الذهني؛ إذْ مراعاة اللفظ لتوصيل المعنى لازم كمراعاة المعنى في حقيقة اللفظ. قِيمةُ اللفظ في أصالته ومعناه، وهو مع هذه الأصالة وذاك المعنى يُسَاير في الوقت نفسه عمليَّة التفكير. ومن التفكير العالي والراقي والمستنير ما يحتاج إلى ألفاظ خاصَّة (دالة) كيما تعبَّ فيها دلالات الوعي وأنشطة الفكر، ووهج العناء فيما تمخَّض عنه عقل المفكر وذوق البصير حين فكر كلاهما وأراد التفكير والتعبير.

والأمر الثاني الذي نراه عائقاً من العوائق التي تعوق مسيرة العقل العربي عن الرؤية الواضحة هو غيبة الإدراك للطريق إلى معرفة النفس، ومن ثم غيبة السعي فيه. والطريق إلى معرفة النفس ليس هو الطريق الذي يترائى لكل إنسان ولا لأي إنسان؛ فمعرفة النفس طريق معرفة الرَّب بغير مُنَازَع، ولكنه الطريق الذي يحمده كل إنسان يصلح لمعنى الإنسانية ويحملها حقيقة بغير مجاز واقعة حاضرة في جوفه.

مَنْ مِن الناس يجزم : أن معرفة النفس طريق سهل في جميع الأحوال أو في بعض الأحوال؟ إنه لمن الصعوبة بمكان معرفة الطرق التي نعرف بمقتضاها أنفسنا؛ إذْ أن معرفة النفوس لذواتها تقتضي مشقة “الجهاد”، وليس الجهاد في كل الأحوال بالأمر المتاح؛ لأنه يعدُّ النفس إعداداً لأن تقف وجهاً لوجه أمام رغائبها وشهواتها ورعوناتها وملذاتها، ثم يأمرها أن تتخلى عن ذلك كله أو بعضه؛ عَسَاها بما تفعل، تدرك أنها بلا شك مأمورة من قبيل العقل والإدراك العلوي بأوامر صارمة قلَّ أن تمكنها بالانصياع إلى ما تحب وتهوى من فنون التضليل.

وأحياناً كثيرة تكون النفس مفتونة بكل ما تأتيه من أعمال وأقوال؛ فلا يعز عليها شيء قط مقدار ما يعز عليها ويؤلمها “قانون الاحتجاب”. وقانون الاحتجاب هذا لهو أوفر ما يخلص النفس من أدرانها وآفاتها ومن مثالبها وسيئاتها، فهو قانون الإرادة الدامغ وقانون العزيمة، لا تحتاج النفوس في تقويمها أكثر من التشبث بهذا القانون سلاحاً تتخذه ضد عوامل الضعف والخنوع والاستسلام.

وحيث هى أرادت صادفها قانون الاحتجاب؛ فحجب عنها الهوى، وأوقفها أمام ذاتها مجردة عن ملابسة الأهواء، وحيث هى نزغت تولاها هذا القانون بالردع والتقويم والاحتجاز.

ولكن الضعف أمضى فتكاً بالنفوس من هذا القانون أحياناً كثيرة، تستمرئ النفس فيه ضعفها وخنوعها ولذائذها، ولا تقوى على فعل شيء من عمل الخيرات، كل ما هنالك أنها تقف خانعة مستسلمة أمام بطش النزوات، وكلما عالجتها بشيء أقرَّت فعل هذا الشيء وهناً في غير احتساب، وسَوَّفت، وماطلت، وأوهمت صاحبها أوهام الخذلان في كافة الأحوال.

ومن ها هنا؛ كان الطريق إلى معرفة النفس ومعالجتها العلاج الناجع أمراً بالغ الصعوبة. مَنْ ذا الذي يقتدر في نفسه على مواجهة الحقائق الناصعة ثم لا يدكدك فيه الهوى القدرة على المواجهة؟

ومَنْ ذا الذي يصوم بعض الدهر لا كله عن النوازع والرغائب والمشتهيات، ثم لا يجد في نفسه أعنف آيات التمرد والعصيان؟

إنّ الحرية الحقيقية هى حرية الروح في إدراك قوتها وسيطرتها على الأبدان؛ فما لم تكن في ذاتك قادراً على التحرر من أوهام النفس وجبروت الهوى فلن تكون حراً؛ فبمقدار حريتك عن الانسياق وراء أوهام النفس، تتحدد فيك المسئولية؛ إذْ معنى كونك حراً أنك مسئول مسئولية كاملة عن كل فعل، وكل قول، وكل حركة، وكل تصريف.

وقديماً قال ابن رشد : “إن قطع الشهوات شرطٌ في صحة النظر”، وليست الشهوات قاصرة على الشهوات الحسية فقط، بل ينضاف إليها الشهوات المعنوية وحظوظ النفس؛ وما أكثرها جناية على بني الإنسان. ومن أجل ذلك؛ صار قهر نوازع النفس يورث بالضرورة صفاء العقل، وعلى صفاء العقل تتحدد المسئولية. والعقول التي لا يتقرر فيها وعي المسئولية هى العقول التي تلبست بأمراض النفوس المستشرية لدى أصحابها، فوقفت أجوافها المسمومة بأمراضها اللعينة إزاء صفاء العقل، فأظلمت رؤيته الواضحة أو التي يُفترض فيها مسبقاً أن تكون واضحة، ثم تلبَّدت غيوم الحقيقة فصارت الغشاوة “جوانيَّة” قبل أن تكون “برَّانيَّة” : داخلية قبل أن تكون خارجية، باطنة خفيّة قبل أن تكون ظاهرة جلية. وغابت في هذه الظلمة النفسية الحالكة معالم المصارحة والشفافية بغياب الحريات بصفة عامة، وحرية التعبير ومن قبلها بالطبع حرية التفكير.

وينعكس ذلك كله على تلك الأحوال المتردية في الواقع الفعلي، فترى البلاد العربية تنطبع بطابع الاستبداد والاستعباد والقهر والتسلط، ويسهل بالتالي لانتشار الفساد، وشيوع قنواته المنظمة، ثم عبادة الاستبداد وتضخم الأنانية البغيضة؛ كل قوانين “الغاب” لتصل شعوب المنطقة في النهاية إلى حالة الانهيار والفقر والتفتت والتمزق والعوز والتخلف والعدوان ثم والحرمان من أدنى الحقوق كما هى عليه الآن.

هذا الضعف الروحي يقهر العقل العربي لا محالة، وهذا الفقر المعنوي يسلب من الوجود العربي أعز ما يملك، ويجعله فريسة سهلة أمام من يفتك به أو يريد الفتك به؛ ليكون، وهو في قبضة الاحتلال الأجنبي؛ سيادته مفقودة، وكرامته مهدرة، وإهانته متعمدة، وإذلاله واقع أسود ومرير. أوَ نَنْسَى ما كانت تفعله القوات الأنجلو – أمريكية مع العراق بداية من تعمد إذلال النساء علناً، والرجال، وبصورة قبيحة كما جرت قبل سنوات في “سجن أبي غريب”، وانتهاءً بتعمد ترويج الإهانة كما ظهرت في قصة الاعتداء الجنسي على الرئيس صدام حسين. أوَ نَنْسىَ واقعنا الأسود اليوم، وتدخل الدول الكبرى في شئوننا الداخلية للقبض على مقدراتنا واستلاب مواردنا وهتك سيادتنا على بلادنا، وتحالفها مع تركيا وإسرائيل ليكون الوطن العربي بلا كيان؟! أوَ ننسى تصدير الإرهاب وتدعيم مصادره واستقطاب خيرة الشباب؛ ليقتل المسلمون والعرب بعضهم بعضاً في غير إدراك ولا رحمة ولا بقية باقية من تفكير؟!   

وعلى أيه حال؛ ما كان ممكنا أن يحدث ذلك كله لولا الذي فعلنا نحن بأنفسنا؛ وإنه لمن الوهم العالق في الرؤوس المطموسة بما تمدها شراهة النفوس الطاغية؛ أن يتصور البعض منَّا أن الإصلاح يجيء دائماً مبتعثاً من الداخل في غير وعي من جانبه لمعنى هذه الإشارة ومرماها، إذْ كيف يجيء الإصلاح من الداخل والنفوس في الغالب خربة، والضمائر تلفانة، والأفئدة من جرّاء تعلقها بالزائل في كل حال، خواء في هواء لا تقوى مطلقاً على النهوض بالعبء الوطني، والعقدي، والفكري، والثقافي؛ وسائر الأعباء المفروضة عليها لا من الخارج، بل من قبل الواجب الخلقي على أقل تقدير.

يتوهم كثير من الناس أن نشدان الإصلاح في جميع مرافق الحياة، لهو الأمر الذي نرمي إليه في مستقبل الأيام الجديد، وبخاصة إذا جاء الإصلاح مفروضاً من الخارج، تراهم على صوت رجل واحد يجمعون على أن الإصلاح يبدأ من الداخل.

وهذا صحيح، ولكن لِمَ لَمْ يؤخذ ممحصاً في الاعتبار أن معنى كون الإصلاح إذا هو بدأ من الداخل أن تجيء معه النفوس في مجملها وتفاصيلها على استعداد نقيِّ لتلقيه؛ وأنها لبالفعل صادقة على أهبَّة الإخلاص في السعي فيه، وأنه إذا لم تكن في توخي عملية الإصلاح برمتها (أي سياسياً، واجتماعياً، وثقافياً، وخلقياً) على ذلك الاستعداد في الإخلاص، وقعت لا محالة في مفارقات عجيبة تواجه الباطن العميق والبنية الجُوَّانيَّة قبل أن تواجه الظاهر المرئي والقشرة السطحية والغلاف البرَّاني.

عائقان أحدهما ظاهر والآخر باطن، في نفس الوقت يحجزان العقل العربي عن المضيء قدُماً نحو فريضة الإصلاح. الأول : اللغة المتردية والإسفاف فيها، ثم تشجيع الابتذال وتكريم المبتذلين لكي يخربوا العقول ويفسدوا الضمائر تحت اسم “التجديد المختلق”، ثم تمنح لهم الجوائز نظير الفساد والتخريب!

والثاني : وهو الأمر الباطن : وجوب معرفة النفس وتنقية الضمائر؛ لتكون جديرة بتحمل التبعات. لا إصلاح بغير التنبّه المقصود لهذين العاملين، ولا تقدُّم للعقل العربي مطلقاً وهما خاملان لا ينشطان. أبدئوا بالتربية الروحية والعقلية قبل أن تشرعوا في محاربة الفساد من مؤسساتنا المعنية.

لأجل هذا – لا قبل هذا – فلا يتمَّ الإصلاح وعالم الإنسان الداخلي مصاب بلوثة فكرية وروحيَّة، يطفح بالوهم والمرض والاتّسَاخ وسائر ألوان الآفات؛ فتغيير النفوس، من ثمَّ، إذا لم تكن هنالك تربية روحية جادة وفاعلة، يكاد يكون من أمحل المحالات.

بقلم : د. مجدي إبراهيم

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *