Share Button

غفوة أبدية

 

كتبت ريم خالد

 

صعدتُ القطار، كانت تلك هي المرة الأولى التي أصعد فيها على متنه.. كان يرافقني القدر كما ظننته آنذآك، فتى يحمل – صفاته الغامضة والهادئة– معه كلما رحل.

جلسنا في مقعدين يقابل كلّ منا الآخر على أقل من رومانسيته..

بصوت عالٍ يلمسهُ الفرح أخبرته “انه تحقق أحد أحلامي وهاأنا بعربة القطار ”

تبسّمت عيناه ظل صامتا كما عهدته يحملُ الغبن داخله غير مؤمن بالبوح.

 

أأنا ثرثارة؟…

سؤال تلزمه صراحةٌ في غير أوانها

 

تبسم مجددًا وهمس نحوي بصوتٍ شبه خافت: لا

 

عانق الصمت أرجاء المكان لا نسمع سوى دوي العجلات بالرغم من انزعاج الجميع منها إلا أنني كنت أسمعها كسمفونية تراجيدية عذبة لم تعزف لأحدٍ سواي.

وبينما أنا هائمة بمعزوفتي تلك وقانون المكابح يضع لمسته أيضا..

قاطعني صوته مجددًا وأردف قائلا: لستِ ثرثارة أحب حديثك.

قرأتْ عينيه حينذآك، أنا، تلك الفتاة التي لا تقرأ سوى الروايات وتعيش في الأحلام كيف لها أن تقرأ عيني أحدهم هكذا؟ تساءلت في سري..

 

ظلّت محاولة استكشافه لردهة، صببت تركيزي على عيناه، ولكن كل ما كنتُ أراهُ هو أنا، انعكاس وجهي على بؤبؤ عينيه، والجميل في الأمر أني لم أراني بهذا الجمال قط، فخفت أن أغدو نرجسية، أجميلة أنا؟! أم جميلٌ هو ؟!

قطعت صفارة القطار حيرتي وقتها…

وأخبرنا مسؤول التذاكر أننا على بعد 600 قدم من “بيلون”

عاد الفتى إليَّ، وسألني إن كنت أعرف بيلون

أجبته بـ “لا”

بينما عيناي تخطف من النافذة روعات تلك الطبيعة الآسرة روعةً روعة.

 

عزز سؤاله السابق بسؤالٍ آخر: ماذا عن “روشيفورت إن تير”؟

ضحكت واكتفيت بهز رأسي دلالة على عدم معرفتي، بينما عيناي لا زالت واقعةٍ في حب تلك الهضاب والاخضرار الذي يكسوها.

 

يبدو أن ضحكتي أبدت انزعاجه، سألني مجددا بملامحة الباردة: لماذا ضحكتِ؟!

أخبرته أنني لم أستطع نطق اسم تلك القرية فكيف لي أن أعرفها ؟

أكمل حديثه قائلا: أنها إحدى أجمل القرى السياحية في فرنسا، خاصة وهي تتمتع بمباني تاريخية تعود إلى القرن السادس عشر مع مشاهد طبيعية خلابة تأسر القلوب.

و تشتهر أيضا بصنع البسكويت اللذيذ، وتقيم في صيف كل عام مهرجانات متنوعة تستضيف فيه الكثير من السياح.

أردت مجاراته وقتها وابراز عضلاتي بالحديث متفاخرة عن مهارتي: ” أتعلم.. في صنعاء بل في قريتنا خاصة أنا من أشتهر بصنع البسكويت اللذيذ”

تعالت ضحكته مما جعلني أشعر بالخجل الشديد ..

تفادى محاولا عدم إحراجي: حسنا عندما نصل ستصنعين لي البعض منها وسنرى الفرق

أجبت بـ حسنا، ثم عدت إلى عالمي خلف تلك النافذة.

مرت ساعتان على رحلتنا..

عاد فيها لصمته

وعدت أنا لحيرتي منه

 

تمالكت نفسي كثيرًا ولم أستطع الصبر…

 

أتسمح لي أن أسألك؟

أجاب: أنا كلي لكِ

 

شعرت بالخجل قليلا من رومانسيته الهادئة تلك..

ثم سألت: لم أنت صامتٌ على الدوام؟

أنها طبيعتي وستعتادين عليها.. أجابني بهدوء

‏مرت بضع دقائق ذهبت أنا للصمت بدلا عنه، وذهب هو لحيرتي.

 

نعم أن ترتبط بإنسان لا تربط حياتك معه فقط، بل انفعالاتك، وطباعك أيضا.. أخبرته ذلك بقسوة

ثم سرقت صمته وعدت أحدق في الطريق..

إنها مدينة جميلة، جمالها ينتشلني من بؤسي الذي أتيت به.

ولكن كم كانت ستكون رحلتنا أجمل لو أنه بادلني الحديث وتعالت أصوات ضحاكتنا..مؤسفٌ حقا.

مضت أطول ساعة في حياتي، نسيت فيها من أنا وأني أسافر وفي أجمل أيام عمري.

بدأت الدموع تتلألأ على جفنيَّ، أهذه حقا أجمل أيامي..!

شعرت بالملل كانت الرحلة إلى” خولان “مع صديقاتي ستكون كفيلة بزرع السعادة في قلبي لو اني ذهبت، ما هذه الرحلة المملة..!

استوقف وابلُ الشتائم داخلي قوله أنها تبقى ساعة واحدة على “بيلون”

ثم نظر إلى قدماي وقال: عليكِ أن تبدلي هذا الحذاء العالي بأخر ليس ذو كعب، لأن المشي بهما سيكون متعبا، وعاد يمجد المدينة لدقائق أنها قرية محمية من ظواهر التطور هي للسياحة فقط وطريقها وعرة ويوجد فيها حيوانات نادرة….. إلخ

سنتجول كثيرا أحتاج إلى حذاء مريح للمشي، كانت هذه الجملة نقطة النهاية في ذلك الكتلوج الذي يملكه.

مرت 30 دقيقة كأنها ثلاثون يوما من حياتي كأنها ثلاثون عاما من الصمت والوحدة ..لست وحدي ولكنني أشعر بذلك، تورطت كثيرا، والأبشع من الوحدة هو الارتباط بشخصٍ يشعرك بالوحدة.

لثلاثين دقيقة فكرت فيها بثلاثين سبيل للهرب وثلاثين طريقة لجعله يتحدث عن ثلاثين موضوع أفتحه لجعله يتمتم بقول شيء.

نظراته ما بين الطريق وبين النظر إلي ونظرتي نحو يديه وعينيه وشعر لحيته وطريقة التفاتاته كانت كفيلة لصنع مشهدا دراميا لا بأس به.

التفت إليّ.. ماذا بك؟

“لا شيء”

كانت إجابةٌ صارمة لسؤالٍ كهذا.

أنت تنظرين إلي وكأني أول رجل ترينه؟.. رد متعجبا

ضحكتُ وهممت بقولي: أنها أسوأُ رحلة في حياتي

تفاجئ وتساءل أن كان قد أزعجني نوعا ما..

أخبرته أن صمته هذا يخيفني جدا…

ضحك هادئا ثم قال: أهذا الخوف كله ناتج عن صمتي، هذه طبيعتي وقد اعتدت عليها.

خرج الدمع من عينيَّ مرةً أخرى ليلقي نظرة وازدادت مخاوفي حد الرجفة.

قام من على مقعده وجلس بجانبي، بجانبي جدا، ثم قال:

الإنسان يُجبرُ أحيانا على أشياء لا يريدها فالنبي صلى الله عليه وسلم أُجبِر على فراق مكة بد….قطعت حديثة بسؤال يجب حضوره

وهل ستُجبرُ على فراقي ؟

لا …انا مجبر على الصمت.. أجاب، ثم أكمل

ولكن عندما نصل سأثرثر كثيرًا وأكسر القيود فأنا معك فقط.

 

كم بقي حتى نصل؟.. سألت

عشر دقائق فقط وسأكون بابا ثرثور.

اسمه بابا سنفور.. قلت هادئة

ليس مهما المهم أني سأصبح ثرثار.. قالها مازحا وعدنا لنضحك على كلينا.

كيف يمكن للمرء أن يطمئن بمجرد كلمة!

ما عشته في 30 دقيقة كان قاتلا وكيف تحولت مشاعري من حالة غضب واستياء ويأس من هذا العالم إلى انتظارٍ وأمل وحلم بشخص أمطرني بسهام من الخوف، هرع خوف إلى داخلي كي أهدئ من روعي

‏ أخبرته انني أود النوم قليلا

‏تبقت 5 دقائق فقط على بلوغنا المحطة وسنرتاح هناك.. أجاب

‏رجوته كثيرا لأني مرهقة.

 ‏ بعد موافقته وسرعان ما أغمضت عينيَّ لوهلة، كنت أشعر أنها غفوتي _الأبدية والخالدة_ إذ بي أسمع صوت ارتطام قوي، صوت عجلات القطار توقفت أيضا، وصوته الذي لا يعلو سمعته أيضا ينادي ويصرخ بإسمي ، يئن أشعر بألمه، لكني لم استطع رؤية ما حدث، ولم أستطع الحراك ولا التنفس أيضا، وظللت صامتة للأبد “غفوة لا يقظة منها “.

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *