Share Button

كان الطبيب الفرنسي جانيه هو أول من عرف حالة إزدواج الشخصية عام 1889 وربطها بالصدمة النفسية في مرحلة الطفولة
واضطراب ازدواجية الشخصية هو أحد الاضطرابات التي تصيب شخصية الإنسان حيث تظهر لديه شخصيتان في جسد واحد ويملك المصاب هويتين أو شخصيتين أو ربما أكثر ويمكن أن تكون الشخصية الأولي متناقضة مع الثانية فتكون الأولي مثلاً خارجة عن القانون والثانية مسالمة تحترم الأعراف الإجتماعية أو شخصية خجولة والثانية جريئة جداً ورأي البعض أن إزدواجية الشحصية هي آلية للتأقلم يقوم فيها المصاب بفصل نفسه عن موقف أو تجربة مؤلمة مر بها ولا تستطيع ذاته الواعية تقبلها أو استيعابها (تراجع موسوعة ويكيبيديا).
ولقد عرفت في شبابي طبيباً نابها كان إنموذجاً لهذا المرض إذ كان يحمل بين دفتي نفسه شخصيتين متناقضتين متنافرتين، فهو أمام الكافة صاحب خلق رفيع إذ كان يبدو موطأ الأكناف له حس شاعر وفكر فيلسوف وروحانية متصوف، ثم هو في شخصيته الأخري متهتك فاجر لص للأعراض لا يرعي في أحد إلاَ ولا ذمة لم يلتزم بشرف مهنته وحنث بقسم ابقراط ومارس كل ألوان الابتزاز والفجور علي مريضاته اللآئي أوقعهن سوء حظهن بين براثنه، بل ومارس ذلك علي كل من التقاه من بنات حواء ولو علي سبيل الصدفة.
ضبط يوماً متلبسا بجريمة عرض بقرية مجاورة لقريته فنال منه أهل تلك القرية وأوسعوه إهانة وأوجعوه ضرباً وأحدثوا به كسرواً مضاعفة في كل أنحاء جسده لكنه حاك عن ذلك قصة وهمية استخدم فيها مكره ودهاءه ليقنع الناس بإصابته بحادث أليم ورغم أنه كان متزوجاً من زميلة له كانت آية في الجمال ونموذجاً رائعاً في الخلق والإحترام إلا أن نفسه الخبيثة طمحت به إلي نوع ردىء من النساء ظل يطوف بأحلامه فبدأ في إنشاء علاقات محرمة مع الغواني والساقطات اللآئي بذلن له المتعة الرخيصة بكل شذوذها وانحطاطها حتي دفعه ذلك للزواج بإحداهن بعد أن كانت زوجة لصديق له أدمن المخدرات فطلقها بعد أن أدمنت الهيروين الذي كان يكلفها بيع جسدها آناء الليل وأطراف النهار حتي تستحصل علي الجرعة التي تقيم أودها وتغافل عن كل سقطاتها وظل غارقاً في سفالاته ونزواته معها ثم ما أن بدأت في المطالبة ببعض الحقوق المالية بعد أن طف الصاع وطفح الكيل حتي سارع بالتخلص منها إلي غير رجعة، ثم تسلل كالضباع الغادرة إلي حياة قريب له ليقيم مع إمراته اللعوب علاقة محرمة وقفز بعد ان طلقت من قريبه طلاقاُ بائنا ليمثل دور المحلل وأرتضي لنفسه أن يكون التيس المستعار حتي يطفيء نار شوقه وظل غارقا في إنحرافاته معها غير آبه بسيرتها التي تلوكها الألسن ولا بطابور المعجبين الذين سبقوه إليها، ثم رماها كغيرها بعد ذلك.
العجيب أنه كان يلبس قناع الشخصية الأخري الجادة الوقورة التي أبدع في تصوريها والتي جعلت منه الظروف شخصية عامة إذ انتخب عضواً بارزاً بالنقابة ومتحدثاً رسمياً بإسمها فذاع صيته وطبقت شهرته الآفاق وأحاطه زملاؤه وكثير من الناس بالإعجاب إذ كان بارعاً في تمثيل هذا الدور حتي ساقته الأقدار إلي علاقة مع فتاة عذراء صديقة إحدي بناته ولم يفلت الفرصة فأقام معها علاقة غير مشروعة أفقدتها عذريتها بعد أن مارس عليها كل ألاعيبه المضللة حتي وقعت في حبائله وكان منه ما كان فبكت وملأت الدنيا صراخاً ورجته إصلاح الأمر إلا أنه أبي فاستحالت دموعها صواعق ضربه الله بها فسقطت عنه كل الأقعنة التي برع في إرتدائها وألقي القبض عليه ليودع غياهب السجون آماداً طويلة جزاء ما إجترحت يداه (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم) وكنت أتعجب من أمره إذ كان يعيش في إهاب الشخصيتين المتناقضتين كلتيها وكيف كان بارعاً في أداء الشخصية الجادة الوقورة كما برع في تمثيل دور الفاسق المتهتك لص الأعراض وبدا أنه كان كالمهرج الذي يتقافز علي كل الحبال في سرك الحياه.
إنها الحالة المرضية التي تلبسته وأحاطت به إحاطة السوار بالمعصم فكان يحيا بكل خلجاته في الشخصية ونقيضها دون معاناة أو قلق أو ندم او اضطراب أو عتاب مع النفس أو تأنيب للضمير أو مراجعة لخطاياه ذلك أنه إذا رحل الحياء من ديار النفس حل بها البلاء بكل فحشه
ولعل العقوبة التي نالها هذا المهرج بإيداعه السجن لسنوات طوال ما يكفي لإصلاح ما أعوج من نفسه الليئمة وطبيعته الغادرة ويمنحه الوقت الكافي لمراجعة كل آثامه وخطاياه فالسجن تأديب وتهذيب وإصلاح وهو خير علاج لأمثاله.
وهذا آخر عرفته في فجر حياتي كان رجل مهاباً يتستر بعباءة الدين ويتسربل بملامحه الحادة ولحيته الكثيفة البيضاء ومسبحته الطويلة وعبائته السميكة الفاخرة ذاع صيته وامتدت شهرته حتي طبقت الآفاق وزاد عدد مريديه وأتباعه كان متلونا منافقاً يستطيع أن يعيش أكثر من شخصية كان بارعاً في أداء دوره علي مسرح الحياه يلبس كل الشخصيات ويرتدي كل الأقعنة حسب الظروف كان يملك سطوة روحية علي النفوس بحلو حديثه وحفظه لأبيات من الشعر العربي وبعض آيات من الذكر الحكيم، لم يتلق تعليماً في حياته لكنه كان خطيباً مفوهاً بالفطرة وكان صاحب حضور قوي وتأثير بالغ علي كل من يلقاه كان سخياً يبسط الموائد لضيوفه ريائاً وانتشرت أخباره في أرجاء المعمورة علي أنه الشيخ الوقور حتي بلغ سماء لا يطار لها علي جناح ولا يسعي علي قدم. وصفه أحد معاصريه النابهين بأنه كان إماما ورعاً إن أراد وناسكاً قطباً إن أحب وشيخاً وقورا إذا ابتغي ذلك وفيلسوفاً منظراً حين يرغب وخطيباً مفوهاً حين يتحدث يسلب القلوب والألباب وبهلواناً كبيراً في سرك الحياه يرقص بخفة ويتقافز برشاقة علي إيقاع منتظم الخطو ويبدل جلده حين ينتوي ذلك ويعزم عليه ولأنه كان علي الحقيقة مزدوج الشخصية فلم يكن يوماً مخلصاً لفكره أو منحازاً لمبدأ كان يغير آراءه وافكاره ومبادءه كما يغير جواربه ونعاله إذ أنه في حقيقته لم يقم وزناً لا لقيم ولا لمبادىء وكان يستطيع بدهائه ومكره وحسن أحدوثته أن يتبني فكره ثم يعدل عنها لنقيضها بذات الحماس كان يشارك مرابياً شهرياً في تجارته الرائجة سراً وشاءت الأقدار ألا ينكشف أمر صاحبنا إذ لم تنزل الأقدار بساحته قوارع العقاب ولم تطله أيدي المسائلة بل ظهر ذلك واضحاً جليا في جل أبنائه بعد أن رحل عن دنيا البشر وشيعه الالآف معتقدين طهره مؤمنين بنقاء صفحته وحسن سريرته إلا أن أولاده عاثوا في الأرض فساداً وانغمسوا في الملذات الحرام بكل ألوانها وأشكالها وبلغوا حداً من التسفل والإنحطاط ما يعجز عنه الوصف حتي انحدروا إلي مهاوي الهلاك فتحققت فيهم المقولة الخالدة (الولد سر أبيه)
وهكذا فإن إزداوج الشخصية كمرض يهبط بالمريض لأسفل درك فيضحي كالعبد الآبق الذي فر من أنس سيده ومن طهر شخصيته الأولي إلي قذر شخصيته الثانية وفحشهاوهنا ندرك أن البشر كالبحار لا يستوون البته فهذا عذب فرات وذاك ملح أجاج فليس كل بديع المظهر نقي المخبر وليس كل رائع القول جميل الخصال حسن الفعال وليس كل حسن البداية جميلاً حتي النهاية فالثبات علي المبدأ وإلتزام الخلق القويم جهاد لا تسطتيعه إلا الأنفس العالية التي جمل الله وجوهها برقة النسائم وطيب ذكرها بطيب المسك فالأخلاق هي الروح الخالدة التي لا تموت بعد الرحيل والتي تسير في الناس يفوح منها العطر الجميل وتسكن أرواحها حياة دائمة الإشراق وتسقي قلوبها إيماناً متصل الوثاق فتحيا حياة الأنقياء الأصفياء وذلك نهج الأنبياء وأخلاق النبلاء وديدن الشرفاء الذين عافاهم الله من هذا البلاء.
عافانا الله واياكم من هذا البلاء
المستشار عادل رفاعي

Share Button

By ahram misr

رئيس مجلس ادارة جريدة اهــــرام مــصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *