Share Button

فعل الطرب في القرآن

بقلم : د. مجدي إبراهيم

العلاقة بين الطرب والوجد من ناحية، والفهم والفكر من ناحية ثانية؛ علاقة تركيبية في غاية الغرابة والتعقيد؛ وإنّما نقول تركيبية لأننا بإزاء حالتين من الوعي بالقرآن هنا أولهما : طرب السامع لمجرد سماعه القرآن استسلاماً لحركة الوجد الطارئ عليه دون أن يتحقق من فهمه، ولكنه يمضي على فعل الطرب من أثر النغمة العلويّة والإيقاع المباشر من غير أن يكون هنالك فهم ولا حتى معرفة باللغة، ويخضع ذلك لفاعلية الوجد في الإيقاع الذي ينفذ إلى صميم الشعور ويصيب بؤرة الوجدان حقيقة، فيستشعر أن هذا الكلام مُراد لذاته، فيه خصائص ذاتية تحكمه وتنظم حركته العلويّة الباقية وتجعل وقعه على القلوب مختلفاً عن أي وقع سواه، ليس بالعادي ولا يجري مجرى العادة أبداً ولكنه يترقى بالشعور إلى أعلى منافذه وإلى صميم أغواره. هذه الحالة تتعلق بالإيقاع الداخلي ولا تتعلق بسواها، وبالصفاء الباطن في المستقبِل نفسه، وهى من الندورة بمكان.  

أمّا الحالة الثانية: فيأتي الطرب والوجد فيساوقا ذلك الفهم : خاصّة ذاتية تعرفها الحالة الروحيّة، فتشرق في القلب قبل الظاهر المحسوس، ويكتشفها في نفسه المتحقق بها، يقاربها ويتذوقها، ويستشعر آفاقها المتسعة في أجوافه الباطنة، وبين ضلوعه وجوانحه، وتكون مع ذلك كالطلاسم المُبهمات لمن لا يدرك لها معنى، ولا يصيب منها تحقيقاً : (ولكلٍ درَجَات ممّا عملوا).

وقد يترادف الفهم تحقيقاً مع الفكر، ويقابله مقابلة الشبيه مقابلة واضحة لا غموض فيها. وبما أن الشبيه يدرك الشبيه كما يُقول الفلاسفة؛ فالفهم يدرك الفكر ويؤدي إليه من أقرب طريق، ويمدُّ الفكر الفهمَ بأواصر القربة لا محالة؛ فما الفكر هنا إلا الفهم. وما فكر مَنْ فكر إلا مَنْ فهم، وعن الفهم تصدر حالات الوجد والطرب، ولا تصدر مطلقاً بغير فهم ولا تفكير ولا تدبر يحيل فاعلية الباطن إلى ظاهر ملموس، باستثناء الحالة الأولى : حالة الإيقاع على بؤرة الشعور، وهى حالة نادرة لا تعميم فيها ولا تعليم.

ولكن الذي يطرب لمعنى آية من آيات التنزيل في العموم هو بلا شك كان قد فهمها في السابق؛ فاتّسع معناها لديه من كثرة التفكير فيها، فطرب لها شعوره وَوَجِدَتْ لديه قواه الباطنة. ومن هنا جاء “الوجد” علامة رُقيِّ الفهم الذي يصحب حالات التلاوة على الحضور. فالوجد والطرب حالتان في باطن النفس يتقدّمهما الفكر أو الفهم ولا تتقدّم هاتان الحالتان على الفكر أو الفهم بوجه من الوجوه؛ فالذي يجد ويطرب لا يجد ولا يطرب من غير فهم ولا فكر، ولكنه يفهم أولاً، أي يفكر ثم يطرب لما عساه يفكر فيه، وهو لا يطرب حين يطرب لغير فهم سابق ولا تفكير متقدّم، وإلا سيكون طربه عَرَضَاً لحالة نفسية مضطربة مجهولة غير مفهومة ولا معلومة؛ لأجل ذلك كان العلم في القرآن بداهةً مُقدّماً على ما عاداه، وكانت المعرفة سابقة على الوهم الذي يعجز معه الاستبصار؛ إذْ ذاك يطرب الواجد لمعنى يحسّه في قواه الباطنة بعد أن يكون قد فهمه وفكر فيه؛ ليتسق الفكر مع الشعور فلا يوحي بتناقض يفصل الحالة عن الفكرة.

الفكرة في القرآن سابقة (متقدِّمة)، والحالة لها تابعة (لاحقة) ما في ذلك شك، ولا يحدث العكس أبداً؛ لأنه إذْ ذَاَكَ إنْ حَدَثَ يلغي الفكر والعلم والفهم، ويحذف كل المفردات والعناصر الفاعلة التي تقوم عليها المعرفة وتستند القيم العليا للإنسان عليها وتبطلها من أساسها. ليس هذا فقط؛ بل وتقدَّم الجهل والخرافة والوهم والتضليل على العقل والنور والذوق والاستبصار.

كان “الزرْكَشِي” شَرَطَ في “برهانه” شروطاً قاسية حيث قال : “أصلُ الوقوف على معاني القرآن التَّدَبُّر والتَّفَكُّر. واعْلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي حقيقةً، ولا يظهر له أسرار العلم من غيب المعرفة وفي قلبه بدعة أو إصرار على ذنب، أو في قلبه كِبْرِ أو هوى، أو حُبّ دنيا، أو يكون غير متحقق الإيمان، أو ضعيف التحقيق، أو معتمداً على قول مُفَسِّر ليس عنده إلا علم الظاهر، أو يكون رَاجعَاً إلى معقوله. وهذه كلها حُجُب وَمَوَانع، وبعضها آكد من بعض…”.

وممّا يؤيد نص “الزرْكَشِي” هذا، ويشدّد عليه، أن السيوطي نقل عن أبي طالب الطبري في أوائل تفسيره عند (القولُ في أدوات المُفسّر) : “اعلم أنّ من شرطه صحة الاعتقاد، ولزوم سنة الدين”. ثم خاض السيوطي في هذا الجزء الذي عنونه بـ “معرفة شروط المفسّر وآدابه”، بما يتفق ونصّ الزركشي المذكور.

وقد سَبَقَتْ الإشارة إلى أن فهم القرآن هو أول ما يُقَابلنا؛ ليُشكل بجانب الحضور أركان الذاتية الخاصَّة للقرآن، وإنما المُرَادُ من فهم القرآن أن تريده وحده، هو عينه المُراد من الخاصّة الذاتية له، وفي تلك الخاصَّة الذاتية بشرى ورحمة :” فبشر عباد، الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، أولئك هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب ” (الزمر : آية 17 – 18).

فإذا وصفهم سبحانه بأنهم أولو الألباب، كان هذا الوصف وصفاً على المدح العاقل لفهم، من جانبهم، للخاصّة الذاتية في استماع القول وإتباع أحسنه؛ فهو من جهة حدَّد الإطار النظري في كلمة “استماع القول”، ومن جهة أخرى قَرَنَ النظر بالتطبيق تَوَخِّياً للفاعلية العملية (المعاملة)، أي جَعْل القول مناط “العلم” أولاً، ثم جعل العمل والسلوك سياجاً حافظاً في المسارعة إلى مَحَابّ الله وتجَنّب مساخطه.

هذه إرادةُ مُغيِّرة تأتي كما لو كانت لبنة جذريّة وأساسية تشكِّل ذاتية القرآن الخاصَّة، إذْ تستحقُ الوصف بالهدى مدْحاً غير منقوص ووصفاً بالعقل الذي هو اللب. وذلك ضربُ لا شك فيه من الاعتقاد السَّاري دوماً في فهم القرآن على الصفة المَخْصُوصَة بذاته لا بسواه، ولذاته لا لغيره، من أجل ماذا؟

 من أجل “إرادة التغيير”.

(وللحديث بقية)

بقلم : د. مجدي إبراهيم

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *