Share Button
              
بقلم : د. مجدي إبراهيم
من تاريخ الثقافة العربية والغربية يتبيَّن أن الثقافة وحرية العقل والتفكير، مطلبٌ إنساني رفيع يطلب لذاته لا لغرض من أغراض التظاهر والإدعاء؛ فالذين يتثقفون يزدادون حياة جديدة فوق حيواتهم, ويرتفعون بهذه الحياة كلما ارتفعوا في موازين الإحساس والشعور، يزدادُ نصيبهم من هذا الميزان الخلاق؛ وأعني به ميزان الثقافة والوعي والإدراك، ذلك الميزان الذي لا يُعلى عليه ميزان في تقييم الإنسان ولو داهمته ألوان المشكلات.
وهذا ما يجعلنا نحلل بعض الجوانب الثقافية المتعددة التي جالت فيها الخواطر والعقول النابهة؛ فأدركت منها ما ينبغي أن يُدرك على كل مثقف واعد له نصيب من الوعي والتفكير. وليست الجوانب الثقافية المتعددة إلا قدرة خاصة في العقل بصفة عامة والعقل العربي على التخصيص؛ فقد كان القدماء من المفكرين العرب وغير العرب سواء، يمتازون بالثقافة الشمولية الواسعة بحيث لا تقف عند حدود التخصص بل تتعداه إلى مجالات أوسع، وربما أنطبق هذا القول على العقل الفلسفي في الإسلام الذي أختص بالشمول والحيطة والاتساع في ميادين النظر والآداب، واشتملت بحوثه على علوم الفقه وقواعد اللغة، والتاريخ، والطب، والأدب، والفلسفة، والفلك، والرياضيات، والعلوم البحتة، وتقويم البلدان إلى كثير مما لو تعقبناه لطال بنا المقام، وإلى كثير من المصنفات العلمية والأدبية الدقيقة التي من شأنها أن تقيم الدليل على ارتقاء عقلية الباحث العربي خاصة.
وإنه لمن نافلة القول؛ أن نذكر أن تاريخ الفكر العربي حافل بالأعلام والمفكرين الذين تميزوا بالجوانب المتعددة بالقدر الذي تميزوا فيه بحياة خصبة فى كل جانب من جوانبها المتعددة منهم : الفارابي وابن سينا في المشرق العربي, وابن باجة وابن طفيل وابن رشد في المغرب العربي، ومفكرين كُثُر غيرهم كالفخر الرازي, وأبي البركات البغدادي، والجاحظ، والتوحيدي، وأبي العلاء المعرى، ممن حملوا على عاتقهم تبعة الوعي بالتراث الإسلامي العربي.
وفي العالم الغربي بدءاً من الفلسفة اليونانية كان سقراط وأفلاطون وأرسطو ممن تتسم ثقافتهم بالشمول والاتساع لا يغفله باحث يقرأ كتاباً واحداً عن الفلسفة الإغريقية. وجاءت العصور الوسطي, فإذا بالقديس “توما الأكويني” يمثل ثقافة مُلآنة بعمق الفكرة وبعد النظر وصلابة البنيان. ومن أخصب المفكرين الغرب تحليلاً للثقافة وتشريحاً لقيمها ومزجاً لأصولها وتوصيلها لمجموع المثقفين ذالكم هو المفكر خالد الذكر ” شكسبير”؛ أديب متعدد الزوايا تتلاقى في كتاباته فلسفة النظر مع حكمة الحياة, يحلل السلوك البشري, ويشرِّح الدوافع الإنسانية تحليلاً وتشريحاً يدلان على عقلية حادة الذكاء لم تتوافر لأحد قط إلا لمن جرى على مجراه بمثل هذه الطاقة الواعية.
وليس أدَلُّ على الثقافة الموسوعية في عصور النهضة من ذلك العبقري الفنان “ليورنادو دافنشي”, لم يترك مجالاً من المجالات إلا ونبغ فيه نبوغ المتخصص, كان طبيباً وموسيقياً, وفناناً, ورساماً, وفيلسوفاً, وأديباً, ومهندساً, ونبغ في ذلك كله بغير استثناء, والباحثون في نظرية الإبداع الفني لم يستشهدوا بأحدٍ قدر ما تمثل لهم هذا العبقري الفنان؛ فإذا هو مثال الدهشة لهم في مثل هذا الشمول الثقافي الفريد.
قَصَدْنَا من هذه الإلمامة الموجزة : كيف تمثلت الثقافة للعقل البشري, فكانت شاملة لا تعرف التخصص من جهة إلا أدركها الشمول من جهة أخرى. ويبدو في المسألة إشكال لا يزول وبخاصة إذا كان العصر عصر المتخصصين في فروع العلم وجزيئات المعرفة : إشكالٌ بين التخصص والشمول, وإشكالٌ بين الثقافة الموسوعية والثقافة الدقيقة.
لكن هذا الإشكال يتهافت تماماً إذا نظرنا إلى تاريخ الثقافات في الحضارات المختلفة, ووجدنا أن أناساً من عمالقة الفكر والثقافة لم يتخصصوا إلا حين تثقفوا ثقافة موسوعية كانت لهم ولم تزل بمثابة القاعدة العريضة أو “الخميرة الفكرية” أعانتهم على التأمل والنظر البعيد تجاه مشكلات البحث في موضوعات التخصص التي يبحثونها وهم يواجهون بها دقائق العلوم. نبغ ابن سينا في الطب والفلسفة, فأعانته قاعدته العريضة من الثقافة الموسوعية, وإلمامه الشديد بالحكمة اليونانية مما كان حصله في السابق من علوم الأوائل, ومما كان هضم وأستوعب تراث السابقين من القدماء. كانت هنالك مصادر شكلت خميرته الفكرية, وكونت بفضل تحصيله ودأبه على المعرفة عقليته ومنهجيته المتميزة.
ونبغ ابن رشد في مجال الإلهيات والفلسفة الأولى فوق نبوغه في الطب والفقه والشروحات الأرسطية التي تضمنت آراءً له خاصة؛ فكانت المباحث الفرعية تراثاً هائلاً يهديه إلى سُبُل الرشاد في هذا الميدان أو ذاك؛ إنه “ابن فرحون” هو الذي كان يقول في “الديباج المذهب”: ” مال ابن رشد إلى علوم الأوائل وكانت له فيها الإمامة دون أهل عصره, وكان يفزع إلى فتياه في الطب كما يفزع إلى فتياه في الفقه مع الحظ الوافر في الإعراب والآداب والحكمة”. وقد كشفت كتابات أستاذنا المرحوم الدكتور “عاطف العراقي” منذ أكثر من أربعين عاماً, بمنهجية علمية دقيقة كانت المحاولة الأولى من نوعها في تطبيق فلسفة المذاهب, وأهمها في هذا الصدد كتابه “النزعة العقلية في فلسفة ابن رشد”, عن هذا الاتجاه الموسوعي للثقافة الرشدية مندرجاً تحت ما أسماه بــ “المنزع العقلي”, فعلى الرغم من الشروح المستفيضة التي قدمها ابن رشد لمعلم اليونان الأول أرسطو, غير أنه تميز فيما شرح وعلق برأي ورؤية واتجاه فلسفي متفرد يمثل نسقه الفكري في عديد هذه الشروح بالإضافة إلى كثير من الكتب والمصنفات الخاصّة به, والتي من خلالها يتضح مذهب ابن رشد العقلاني المتميز في الفلسفة العقلية؛ ككتاب “تلخيص ما بعد الطبيعة” الذي استقل فيه بالرأي عن أرسطو, فأختلف معه حول طبيعة المعاني الكلية التي يستنبطها العقل البشري من المدركات الحسية ويجردها تجريداً ثم يفرضها على الأشياء فرضاً من جديد.
وكتب ابن رشد في الفقه “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” عنواناً دالاً على تمكنه من التراث الديني الفقهي. ولم تظهر محاولاته في التوفيق بين الدين والفلسفة – بغض النظر عن نجاحها أو فشلها – إلا لتؤكد على عمق الثقافة الإسلامية والموسوعية، وعلى شمول العقل الفلسفي العربي ممثلاً في هذا الفيلسوف العملاق.
* * *
علام يدلنا ذلك؟
إنما يدلنا على أن الشمول والتنوع في المذاهب والمواهب كان سمة من سمات العمالقة في الزمن القديم, وأصبح التخصص في هذا العصر المخبول سمة الأقزام والمتطفلين وبخاصة في مجال العلوم النظرية. لو اعتبر الباحثون بتقسيم الفارابي للعلوم الفلسفية إلى قسم يتصل بالفلسفة التي أطلق عليها “نظرية”, وهى ثلاثة من الأدنى إلى الأرقى : الطبيعيات ثم الرياضيات ثم الإلهيات أو الميتافيزيقا. أمّا الفلسفة التي سمها “بالعملية” فهى الأخلاق وتخص (الفرد), والسياسة وتخص (المجتمع). أقول؛ لو اعتبر الباحثون بهذا التقسيم لعرفوا أن دراسة الفلسفة على هذا النحو ثقافة لا بد منها, وأن التخصص فيها لا يلغي الشمول, لذلك كانت الفلسفة بحق هى أم العلوم؛ لأنها كانت القاعدة التأسيسية التي تبني المثقف في ضوء هذا التقسيم وتشكل من ثمَّ عقليته.
كان السياسي أدبياً, وكان الأديب سياسياً وفيلسوفاً وشاعراً ولغوياً ومؤرخاً ومطلعاً على الآراء والأفكار البشرية في عيونها الأصيلة ومصادرها الأم. كان المزاج العصبي في المقروء والمكتوب موزَّعاً بين فرع المعرفة, فإذا الكاتب حين يكتب, ينقلك إلى روضة بهية ممتعة من رياض المعرفة تتنقل فيها كما تشاء، ولا تسأم ولا تمل؛ لأن مزاجه العصبي منوع المواهب؛ كاتب هو بالطبع والعادة ومصقول بالخبرة والاكتساب, يؤدي رسالته بإخلاص من عالم الفكر أو من عالم الطبع دون أن ينتظر من يأتي ليقول له : عَرَفْتَ شيئاً وغابت عنك أشياء, وهكذا يقرر شيوخ الأدب في الأزمنة القديمة.
بالله عليك خَبّرني : أين كتّاب هذا الزمان وأدباؤه من تلك المعاني؟ أتراهم يقفون على معنى واحد من هذه المعاني يتمثلونه ويتوسمونه ويهضمونه فيسري إلينا في ذوق جديد وبأنفاس جديدة؟ لا والله لا يفعلون!
كان كتَّاب الأجيال الماضية ذوى عقائد فكرية وأدبية يكتبون بضمائرهم وعقولهم, ما ظنكم بجيل كان من رواده محمد عبده, وسعد زغلول, وقاسم أمين, وتوفيق البكري, وأحمد تيمور, ومحمود تيمور, وإبراهيم المويلحي, ومحمود سامي البارودي, وعبد الله فكرى, والكواكبي، وعلي يوسف, وعبد العزيز جاويش, ومصطفي كامل, ومصطفى لطفي المنفلوطي, ورشيد رضا, ويعقوب صروف, وجرجي زيدان, وفرح أنطون, وشبلي شميل, وسلامه موسى, وأحمد لطفي السيد. وما ظنكم بجيل خلف تلاميذ أمثال : مصطفي عبد الرازق, وعلي عبد الرازق, ومحمد حسين هيكل، ومحمد غلاب، ومحمد فريد وجدي, وطه حسين, وعباس العقاد, وإبراهيم المازني, وزكي مبارك, وأحمد أمين, وزكي نجيب محمود, وعثمان أمين, وتوفيق الطويل, وأحمد فؤاد الأهواني, وغيرهم وغيرهم مِمَّن جمعوا بين الثقافة العريضة والمتخصصة, ومِمَّن وهبوا أرواحهم لأخلاق القلم ومطالب الضمير.
وللقلم أخلاق, وأخلاق القلم من أخلاق الكاتب تنبعث, ومطالب الضمير الحي تكشف عنها تعبيرات الكاتب ومفرداته. ومن أجل ذلك يُراعى في حملة الأقلام الجادة من منتجي الثقافة في عصرنا أن يصدقوا على الدوام, فإنْ لم يكن هذا الصدق مع أنفسهم, فعلى أقل تقدير يكون مع القراء؛ فمن الرأفة بجمهور القراء في بلادنا أن نكون معهم صادقين, وقراء الصحف على وجه الخصوص قلَّ أن تجد فيهم من يكذب كل ما تقع عليه عينيه بل فيهم من يصدّق كل ما يقرأ, ولا قدرة لديهم ولا وقت لنقد ما يقرئون؛ فلو كان الناس جميعاً قادرين على نقد ما يقرئون لهان الخطر وخف البلاء, وإنما الناس في بلادنا لا يزالون أميين وخصوصاً أمية المثقفين, تلك الأمية التي يمليها “التخصص” في فرع واحد ضيق من فروع المعرفة لا يتجاوزه “المتخصص” بحال. أمية يفرضها التخصص فيجئ صاحبه لا يعرف إذا هو عرف غير ما تخصص فيه ضارباً عرض الحوائط أجمعين كل تخصص سواه, وهو من بعدُ, زاعم أنه من أفذاذ المثقفين.
أقول هذا بمناسبة الكتابة المتخصصة والكتابة الشاملة؛ فإن تكن الثقافة الموسوعية هى بداية التخصص الدقيق, فإن التدريب على الكتابة الشاملة هو بداية الدخول في عالم الكتابة للتخصص الدقيق. وما ينطبق على الكتابة ينطبق بالقدر نفسه ويزيد على الثقافة المتخصصة والثقافة الشاملة.
يمكن القول بأن الثقافة الموسوعية – من أجل هذا – بداية للتخصص الدقيق, وحين يتخصص أهل هذا الزمان في مجال كمجال الأدب مثلاً لم يكن يسيغهم أن يتناولوا فرعاً واحداً وكفى, ولكنهم يلمُون وينبغي عليهم أن يلموا, بقواعد الآداب العالمية وتواريخها وأصولها ومعطياتها النظرية, ويطلعون على ما حَدَثَ فيها من علاقات متشابكة وأواصر مرتبطة بينها وبين فروع المعرفة الأخرى؛ وبما أن الأدب ليس شعراً ولا نثراً ولا هو بكلمات تلفظ ولا بجمل ترص, فقد جاز أن يكون أقساماً تكاد تكون شاملة لفروع المعرفة الإنسانية بما تتضمنه من خصائص تاريخية ونفسية ووجدانية واجتماعية تتصل بالعصر وبالبيئية التي تفرزها, وبالمحيط الثقافي الذي تنشأ فيه. وعليه؛ فالذي يشتغل بدراسة الأدب مثلاً, يشتغل به وهو عالم بمصادره وفروعه, وعالم بعلاقاته مع العلوم الأخرى, وعالم بما يحتويه من آداب قصصية ومقارنات ونقد وشعر ونثر وبلاغة ومسرح, وتراجم ذاتية إلى غير ذلك أو نحوه من فنون الآداب التي وعتها ذاكرة الزمان, ونتاج الوجدان, وبيان الألسنة على مرِّ التاريخ.
ولا بد من التطور؛ فإنه فضيلة إنسانية عجيبة, لا يغفلها مجهود العقل البشري كلما عرف قوانين التحصيل والإبداع وأدرك مفهوم التفرد في النزعات الإنسانية, وبما أنه عقل قادر على تحصيل المعرفة وإبداعها وإنتاجها والتفرد فيها, فهو لا يهمل الثقافة الخالدة بل منها ينطلق, ويضيف عليها جديداً بحكم دلالة التطور العقلي الواعي, وبحكم البصمة الخاصة بالحقب الزمنية التي يفهم منها خصائص التوليد والإبداع.
أما الذي يدعي الإبداع من غير ثقافة موسوعية شاملة, ويدعي التفوق في التخصص الدقيق دون إلمام بالقواعد العامة وإحاطة بأصوله وجذوره, فلا مكان له – فيما يقول المفكر الأمريكي “وِل ديورانت” في قصة الحضارة – إلا في مستشفي الأمراض العقلية؛ لا لشيء إلا لأنه أنطلق من فراغ, وبدأ من لاشيء, وهانت عليه ملكاته الذهنية والعقلية يبخسها تمام النمو والإنضاج.
ومن ها هنا تختلف العقول وتتباين الأمزجة وتتفاوت قدرات الهضم والاستيعاب؛ فالعقول كالنساء : فيها الأصيل الولود, وفيها العقيم الذي لا يلد مهما أستقبل من أسباب الحياة. والفرق بين التخصص والشمول في الثقافة هو فرق من الدرجة الأولى بين العقول الأصيلة والعقول التي لا أصالة لها, فليس التخصص في الثقافة بمانع للعقل عن الحيطة والشمول, وليست شمولية الثقافة بحاجبة للعقل عن الدقة والتخصيص؛ إنما العقل الأصيل الولود له قدرة غريبة وفريدة على استقبال أسباب الحياة الفكرية والثقافية من هضم واستيعاب؛ تماماً كالمرأة التي تستقبل أسباب الحياة في جوفها فلا يدور عليها حول السنة إلا وهى منجبة تظهر من غرسها جديداً في سنن الحياة.
وكذلك العقول البشرية كالنساء : ما لم تستقبل أسباب الحياة الثقافية لا تبدع جديداً يُعترف به بين جادة المثقفين. والعقول العقيمة كالمرأة العقيم : تستقبل ليل نهار من أسباب الحياة في جوفها, ولا تنبت غرساً, ويدور عليها ما يدور من السنين والدهور وهى عقيم. وكذلك العقول التي تدعي الثقافة تستقبل ولا تبدع, تقرأ كثيراً ولا تبدع شيئاً, لكأنها ما قرأت, ولا استمكنت القراءة منها في بؤرة الشعور, ولا استفادت مما قرأت؛ فلئن هى أبدعت فإبداع هو كالحمل الكاذب, لا وجود له في سُنن الحياة : إبداع لا يفيد, هذا إنْ جاز أن نطلق عليه اسم إبداع !
رأيتني أقرر لك أن العقول نوعان : عقل يستقبل ثم يرسل. وعقل يستقبل ولا يتعدى حدود الاستقبال بحال؛ فالعقول تتأثر بالأفكار والمذاهب ومختلف الآراء والاتجاهات, منها الذي يستقبل ويرسل فيبدع من عالم الاستقبال ثم من ذاته, ومنها ما يتوقف عند حدود الاستقبال, وليس يجد في ذاته قدرة على الإبداع والتفرد والاستقلال؛ لأنه لم يقدر على بلوغ غاية من غايات البحث الدقيق أو التحرر من قيود الأفكار السوابق التي تكبله فلا تُبقي له ذاتية يضيفها في عالم الإبداع.
ومن الناس من يجعلون عقولهم عقيمة بتعطيلها عن الثقافة والنظر الحر وحرمانها من نور الحياة؛ فإذا تخصصوا في فرع من فروع العلم يمنعهم ضيق العقل وفقر الأفق عن الانطلاق الرحب من التخصص إلى الشمول, ومن الدقة – إنْ جاز وصف تخصصهم بالدقة – إلى البحث في المصادر والجذور, وعلاقة ذلك كله بقوانين الحياة والمجتمع.
إن ما يفيد الإنسان ويقوي ملكاته الذوقية والتحليلية والنقدية هو تلك العلاقة القائمة سلفاً بين فروع العلم المختلفة, وهو تلك الانطلاقة الرحبة تعتمد في المقام الأول على الثقافة الموسوعية بالإضافة إلى اعتمادها على ثقافة التخصص الدقيق ثم تفريع هذا التخصص الدقيق؛ ليكون متجهاً إلى الوحدة والتعميم, شاملاً عاماً بما فيه الكفاية؛ وفوق الكفاية.
أما بعدُ؛ فإن التخصص مزية العلم ومعقل أبحاثه وتجاريبه, وأن التنوع مزية العقل البشري, وأن الشمول مزية الثقافة العقلية الحرة التي تكرع من ينبوع الشعور المتدفق بفنون الحياة الخصبة فلا مناص من تحصليها لكل طالب للحياة الرفيعة وذائق للأدب الرفيع, وباحث عن الثقافة الحقة والتفكير السليم.
Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *