Share Button

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء الرابع مع أبرهه الأشرم، وقد توقفنا مع جزيرة العرب، فقد كانت في عزلة عن تلك الصراعات والضلالات الحضارية والانحرافات، وذلك بسبب بعدها عن المدنية وحياة الترف، مما قلل وسائل الانحلال الخلقي والطغيان العسكري والفلسفي في أرجائها، فهي وعلى ما كانت عليه من انحراف، كانت أقرب إلى الفطرة الإنسانية، وأدعى لقبول الدين الحق، إضافة إلى ما كان يتحلى به أهلها من نزعات حميدة كالنجدة والكرم، والعفة والإباء، والأمانة والوفاء، هذا إلى جانب موقع جزيرة العرب المميز، إذ كان موقعها الجغرافي وسطا بين تلك الأمم الغارقة التائهة، فهذا الواقع والموقع جعلها مؤهلة لنشر الخير وحمله إلى جميع الشعوب بسهولة ويسر، وبهذا تجلت الحكمة الإلهية في اختيار العرب وجزيرتهم مهدا للإسلام، إذ كانت بيئة أمية لم تتعقد مناهجها الفكرية بشيء من الفلسفات المنحرفة، بل كانت أقرب لقبول الحق، والإذعان له، إضافة إلى أن اختيار جزيرة العرب مهداً للإسلام فيه دفع لما قد يتبادر إلى الأذهان من أن الدعوة نتيجة تجارب حضارية، أو أفكار فلسفية، ناهيك عن وجود البيت العتيق، الذي جعله الله تعالى أول بيت للعبادة، ومثابة للناس وأمنا، واللغة العربية وما تمتاز به، وهي لغة أهل الجزيرة، ولا بد من الإشارة إلى أن الله تعالى اختار العرب وفضلهم لتكون الرسالة فيهم ابتداء، وهذا تكليف أكثر مما هو تشريف حيث إن من نزل عليه الوحي ابتداء مكلف بنشره وأخذه بقوة، وليس هذا أيضا تفرقة بين العرب وغيرهم بل الكل لآدم وآدم من تراب، وأكرم الناس أتقاهم لله.

ولهذا كان في الإسلام بلال الحبشي، وسلمان الفارسى ولذلك كله وغيره كان العرب أنسب قوم يكون بينهم النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، وكانت جزيرتهم أفضل مكان لتلقي آخر الرسالات السماوية، فالحمد لله الذي أكرم العرب بهذا الدين العظيم، وشرف جزيرتهم، فجعلها مهبط الوحي المبين، وقد نزلت فى هذه الواقعة سورة الفيل، حيث تعد سورة الفيل من السور المكية بإجماع الفقهاء والمفسرين، وبالتالي فقد نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، وهي السورة التاسعة عشرة في ترتيب سور القرآن الكريم من حيث النزول، فقد نزلت بعد سورة الكافرون وقبل سورة الفلق، كما ورد أيضا أنها نزلت قبل سورة قريش حسب ما ذهب إليه الأخفش، وذلك لأن آخر آية في سورة الفيل يتعلق بأول آية في سورة قريش، ولأن أبي بن كعب قرأهما سورة واحدة دون أن يفصل بينهما ببسملة، وذهب البعض إلى أنها قد تكون نزلت بعد الفلق، وقد سميت سورة الفيل بهذا الاسم لأنها تناولت قصة أصحاب الفيل، وقد سماها بعض السلف حسب ما ورد في بعض كتب التفسير والحديث سورة باسم “سورة ألم تر” فقد روى القرطبي في تفسيره لسورة قريش أن عمرو بن ميمون كان يصلي خلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقرأ في ثاني ركعة سورة ألم تر أي سورة الفيل، وسورة لإيلاف قريش أي سورة قريش، وعنونها الإمام البخاري بنفس الاسم، إلا أنها في جميع المصاحف وجميع كتب التفسير تسمى سورة الفيل، وفى قصة أصحاب الفيل إظهار شرف الكعبة.

وكيف أن الله تعالى تعهد بحفظها وزادها شرفا ورفعة، لأنها أو بيت وصع للناس، وأيضا فى قصة أصحاب الفيل إظهار كيد الكافرين والمشركين الذي يتآمرون على بيت الله الحرام، وكذلك بيان تعظيم مشركين العرب لبيت الله الحرام لأن فيهم من بقايا ديانة إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام، وهم يعلمون جيدا مكانة هذا البيت وعظمته وقدسيته، وكذلك إظهار قدرة الله تعالى في قهر كل من يعتدي على حرماته، فالله تعالى لا يعجزه قوة أو عدد أو أي شيء، وكل شيء مسخر بامره، وظهر هذا واضحا في الفيل الذي رفض التوجه إلى الكعبة، وفي الطيور التي رمتهم بالحجارة، وإن تفسير آية “ألم تر كيف فعل ربك” في تفسير هذه الآية الكريمة التي افتتحت فيها سورة الفيل، أن الله تعالى حين قال” ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل” وجّه خطابه إلى النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم يسأله، ألم تنظر يا محمد وترى بعين قلبك كيف جازى الله تعالى أصحاب الفيل الذين قدموا لهدم الكعبة، فالخطاب هنا موجه للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم كي يرى ويتخيل بعين قلبه ليذكره الله تبارك وتعالى بحادثة أصحاب الفيل التي حمى الله بها بيته الحرام، ولقد جاء أبرهة إلى اليمن في الحملة التي أرسلها ملك الحبشة النجاشي أصحمة، بقيادة أرياط، لغزو اليمن والانتقام لمقتل المسيحيين في حادثة الأخدود على يد الملك ذي نواس، فصارت اليمن تابعة للحبشة، وتولى أرياط الحكم فيها في ظل ملكها الحميري السميفع، وتختلف الروايات في حقيقة العلاقة بين أرياط وأبرهة، فتجعل بعضها أرياط رئيسا على أبرهة.

وأخرى تجعله ندا له في قيادة جيش الحبشة، ثم نازع أبرهة أرياط في أمر الحبشة باليمن، وجرت بينهما مبارزة شرم فيها أرياط عين أبرهة وأنفه، فلقب لذلك بالأشرم، أما أرياط فقتله غلام لأبرهة، ويقال إن السميفع لم يكن على شيء من الحزم فتألب عليه الجند واتفقوا على تمليك أبرهة الذي استقل باليمن وتلقب بألقاب الملوك وامتنع عن إرسال الجزية للنجاشي، وحاول النجاشي أن يستعيد سيطرته على اليمن فأرسل تجريدتين لتأديب أبرهة أخفقتا وتجمع الروايات على أن النجاشي حلف ألا يدع أبرهة إلا أن يطأ بلاده ويجز ناصيته ويهرق دمه، فكتب إليه أبرهة كتابا فيه تودد واعتذار أرضى النجاشي فثبته على عمله بأرض اليمن، فأصبح أبرهة في حكم الملك المستقل وإن اعترف اسميا بسلطة النجاشي وأدى إليه الجزية، مما جعل الأحوال تستقر بينهما، وقد قامت في اليمن عدة ثورات على أبرهة في زمن حكمه الذي امتد نحو أربعين عاما استطاع أن يخمدها جميعا، وعقد معاهدات مع بعض أقيال سبأ، وتوافدت إليه الوفود من الحبشة وفارس وبيزنطة ومن غسان الشام مما يدل على المكانة والقوة التي وصل إليها، وقد عني أبرهة بالعمران، فأعاد ترميم سد مأرب الذي كان قد تصدع، ويدل على ذلك رقيم وجد عند السد، نقشت عليه كتابة تفسر كثيرا من الأحداث في حكم ابرهة، وقد خلف أبرهة على ملك اليمن ابنه يكسوم، وكان ظالما، فلما مات ملكها أخوه مسروق وكان أشد ظلما من أخيه، وفي أيامه دخل الفرس اليمن وانتهى حكم الحبشة، ولقد أثار فيل أبرهة فى الآونة الأخيرة العديد من الجدل.

وقيل أنه رفض الباحث العراقى فاضل الربيعى أن يكون أبرهة الحبشى هو الذى قد توجه أساسا لهدم الكعبة المشرفة، وبعدها تفاجأ بعض المؤمنين بأن أبرهة عندما توجه إلى مكة المكرمة ليهدم الكعبة علم بأن الفيل الذى يرد فى القرآن اسمه محمود، كأنهم يسمعونها للمرة الأولى مع أن كتب التراث الإسلامى ذكرت اسمه كلما ذكرت القصة، فكيف ذلك؟ فيحكى ابن كثير فى تفسير القرآن العظيم عن فيل أبرهة الذى كان فى مقدمة جيش ملك الحبشة لهدم الكعبة لكنه عندما وصل إلى هناك رفض هدم المبنى المقدس فتأهب أبرهة لذلك، وصار فى جيش كثيف عرمرم لئلا يصده أحد عنه، واستصحب معه فيلا عظيما كبير الجثة لم ير مثله، يقال له محمود، وكان قد بعثه إليه النجاشى ملك الحبشة لذلك ويقال كان معه أيضا ثمانية أفيال وقيل اثنا عشر فيل وقيل غيره، والله أعلم، ويعنى ليهدم به الكعبة بأن يجعل السلاسل فى الأركان، وتوضع فى عنق الفيل، ثم يزجر ليلقى الحائط جملة واحدة، فلما سمعت العرب بمسيره أعظموا ذلك جدا، ورأوا أن حقا عليهم المحاجبة دون البيت، ورد من أراده بكيد، ويقول القرطبى فى تفسيره فى الجزء العشرين فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله، وعبأ جيشه، وكان اسم الفيل محمودا، وأبرهة مجمع لهدم البيت، ثم الانصراف إلى اليمن، فلما وجهوا الفيل إلى مكة، أقبل نفيل بن حبيب، حتى قام إلى جنب الفيل، ثم أخذ بأذنه فقال له ابرك محمود، وارجع راشدا من حيث جئت، فإنك فى بلد الله الحرام، ثم أرسل أذنه، فبرك الفيل، وخرج نفيل بن حبيب يشتد، حتى أصعد فى الجبل.

وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا فى رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى، وهنا تتجلى عظمة الله وقدرته في الانتقام من أعدائه والانتصار لأوليائه، وتتجلى هذه العظمة في حماية رب العالمين للبيت الحرام عندما أراد أبرهة الحبشي أن يهدم الكعبة، فأرسل الله عليهم جندا من جنوده وهو الطير، ترميهم بحجارة قاسية، فأردتهم في الهلاك والخزي، وفى تفسير قوله تعالى ” ألم ترك كيف فعل ربك بأصحاب الفيل” يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، بأن الله ناصره كما نصر قومه على أصحاب الفيل، وتعد حادثة الفيل من الإرهاصات، كما أن اقتتال الأوس والخزرج يعد من الإرهاصات، وأعني من المقدمات بين يدي بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتوطئات لبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن قيل أن قصة أصحاب الفيل إنها لم ترد بسند صحيح لذاته، أي ليس هناك نص صريح إسناده صحيح لذاته يثبت حادثة الفيل بالتفصيل المعهود، لكن كتاب الله تعالى أثبتها إجمالا، وجاءت الإشارة إليها في بعض الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء عمرة صلح الحديبية، فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء يدخل مكة عام الفتح امتنعت ناقته من الدخول، فقال الصحابة، خلأت القصواء، وامتنعت من الدخول، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم ” ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل” يعني أن المانع الذي منع الفيل من دخول مكة هو الذي منع القصواء من دخول مكة، وجاءت جملة أخبار وأحاديث منقطعة ذكرها الطبري رحمه الله.

وذكرها ابن إسحاق كذلك في سيرته تفيد أو تذكر تفصيلا للذي حدث في هذا العام، ولأنها منقطعة نأخذ منها المضمون فقط الذي أيده كتاب الله وأيدته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالحاصل من القصص التي أوردوها في هذا الشأن أن أبرهة الأشرم وكان من ملوك اليمن، وكان قبل ذلك من الأحباش، وكانت اليمن خاضعة للأحباش، وكان نصرانيا، وقال القرطبى أنه عزم أبرهة على هدم الكعبة ونقل وجهة الحجيج إلى بلاده بدلا من اتجاه الحجيج إلى مكة حسدا من عند نفسه وانتقاما وثأرا لبعض شيء أصابه وأصاب بلاده من بعض العرب، فعزم على الرحيل لتدمير البيت الحرام ونقل وجهة العباد إلى بلاده، وأنه لما اتجه إلى مكة وقبل أن يدخلها أرسل إلى عبد المطلب بعد أن سلب منه النعم وسلب الإبل من سائر القرشيين، فجاءه عبد المطلب، فاستعطفه برد الإبل إليه، بينما أصر أبرهة على هدم الكعبة، فخرج عبد المطلب يدعو ربه سبحانه وتعالى الانتقام من هذا الرجل، فأرسلت الطير الأبابيل، هذا بإيجاز شديد لأن القصص لا يثبت لها إسناد، إنما هي مقاطيع وبلاغات وروايات معضلة، وقيل هل هو فيل واحد أم فيلة؟ وإن أكثر أهل العلم على أنها مجموعة من الأفيال، ولم تكن فيلا واحدا، ولكن أفرد الفيل وأريد به أعظم هذه الأفيال وهو الفيل الذي جندوه لسحب وتدمير الكعبة، ولقد جعل الله تكبرهم ومكرهم في إبطال وضياع، وأرسل عليهم الطير الأبابيل وهى الجماعات الكثيرة المتتابعة، ترميهم بالسجيل وهو الطين المتحجر القاسى، فجلعهم كالعصف المأكول، والعصف هو التبن وما تأكله البهائم، والمأكول هو الذي قد أكل منه، فأصبح روثا.

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *