Share Button
فى طريق النور ومع مسلم بن عقيل ( الجزء الثالث )
إعداد/ محمـــد الدكــرورى
ونكمل الجزء الثالث مع مسلم بن عقيل، وقد وقفنا عندما أعتذر الرجل للغلامين من التقصير معهما مع مالهما من المنزلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لهما، اذا جنّ الليل أفتح لكما باب السجن، وخذا أي طريق شئتما، ولما أن جاء الليل أخرجهما وقال، سيرا في الليل، واكمنا في النهار حتى يجعل الله لكما من أمره فرجا، فهرب الغلامان، ولما أن جن عليهما الليل انتهيا الى عجوز كانت واقفة على باب دارها تنتظر ولدا لها، فوقفا عليها وعرفاها بأنهما غريبان من عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يهتديان الى الطريق واستضافاها سواد هذه الليلة، فأدخلتهما البيت وقدمت لهما الطعام والشراب فأكلا، وشربا وباتا راجيين السلامة، واعتنق أحدهما الآخر وناما، وفي تلك الليلة أقبل الولد ابن العجوز وقد أجهده الطلب للغلامين وقص على العجوز هرب الغلامين من سجن ابن زياد، وانه نادى عسكره من أتاه برأسيهما فله ألفا درهم.
فحذرته العجوز من العذاب الأليم، ومخاصمة جدهما محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه لافائدة في دنيا ولاآخرة معها، فارتاب الرجل من هذا الوعظ، وظن الغلامين عندها، ولما ألح على أن تخبره بما عندها وهي كاتمة عليه أمرهما، فأخذ يفحص البيت عنهما فوجدهما نائمين، فقال لهما من أنتما؟ قالا إن صدقناك فلنا الأمان؟ قال نعم، فأخذا عليه أمان الله وأمان رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم جعلا الله عليه شهيدا ووكيلا فأوقفاه على حالهما، وعند الصباح أمر غلاما له أسود أن يأخذهما الى شاطئ الفرات ويذبحهما ويأتيه برأسيهما، فلما أخذهما الغلام قالا له يا أسود ما أشبه سوادك بسواد بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتقتلنا ونحن عترة نبيك، وقصّا عليه قصّتهما في السجن وما لاقياه من النصب حتى أضافتهما العجوز، فرقّ الغلام لهما واعتذر منهما ورمى السيف وألقى نفسه في الفرات وعبر الى الجانب الآخر فصاح به مولاه، وقال له عصيتني؟
فأجابه قائلا، أنا في طاعتك ما دمت لا تعصي الله فاذا عصيت الله فأنا بريء منك، فلم يتعظ الرجل ولا رقّت لهما بل دعا ابنه وقال له، إنما أجمع الدنيا حلالها وحرامها لك، والدنيا محرص عليها فاضرب عنقي الغلامين لأحضى برأسيهما عند ابن زياد، ولما وقف عليهما الولد قالا له يا شاب أما تخاف على شبابك من نار جهنم ونحن عترة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، فرقّ الولد لهما وفعل مثل العبد، فقال الرجل، أنا أتولى ذبحكما، فقالا له الغلامان، إن كنت تريد المال، فانطلق الى السوق وبعنا ولا تكن ممن يخاصمك محمد صلى الله عليه وسلم في عترته، فلم يرجع عن غيّة، فقالا له انطلق بنا الى ابن زياد ليرى فينا رأيه، فأبى، فقالا له ألم ترع حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في آله، فأنكر قرابتهما من النبي صلى الله عليه وسلم، فاستعطفاه لصغر سنهما فلم يرقّ قلبه لهما، فطلبا منه أن يصليا لربهما سبحانه وتعالى.
فقال لهما صليا إن نفعتكما الصلاة، وبعد أن فرغا رفعا أيديهما الى الله سبحانه وتعالى وهما يقولان” يا حي يا حليم يا أحكم الحاكمين إحكم بيننا وبينه بالحق” فقدّم الأكبر وذبحه فتمرّغ الأصغر بدمه وقال ” هكذا ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا مخضّب بدم أخي، ثم ضرب عنقه ورمى ببدنهما في الفرات وأقبل بالرأسين الى ابن زياد وقص عليه ما شاهده منهما، فاستجاب الله تعالى دعاءهما وحرمه الدنيا والآخرة إذ قال ابن زياد له، إن أحكم الحاكمين حكم بقتلك، وأمر به فأخذ الى الموضع الذي قتل فيه الغلامين فضربت عنقه ونصب رأسه على قناة والصبيان يرمونه بالحجارة ويقولون هذا قاتل ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قيل عن الغلامين أنهما من ولد جعفر الطيار وكان اسم أحدهما محمد والآخر ابراهيم، وقد وصل مسلم رضى الله عنه، إلى الكوفة، في الخامس من شوال سنة ستين من الهجره.
فنزل في دار المختار بن أبي عبيدة الثقفي، وأقبلت الناس تختلف إليه، فكلما اجتمع إليه منهم جماعة، قرأ عليهم كتاب الإمام الحسين رضى الله عنه، وهم يبكون، وبايعه الناس، حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألف، وقد كتب مسلم رضى الله عنه، كتاب من الكوفة إلى الإمام الحسين رضى الله عنه، وقد جاء فيه ” أما بعد، فإن الرائد لا يكذب أهله، وأن جميع أهل الكوفة معك، وقد بايعني منهم ثمانية عشر ألف، فعجّل الإقبال حين تقرأ كتابي هذا، والسلام” وقد أرسل العملاء إلى يزيد رسائل تخبره عن مجيء مسلم رضى الله عنه، ومنها ” أما بعد، فإن مسلم بن عقيل قد قدم الكوفة، وبايعته الشيعة للحسين بن علي بن أبي طالب، فإن يكن لك في الكوفة حاجة فابعث إليها رجلا قويا، ينفذ أمرك، ويعمل مثل عملك في عدوك، فإن النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعّف” وقد كتب يزيد بن معاوية رسالة إلى واليه في البصرة عبيد الله بن زياد.
يطلب منه أن يذهب إلى الكوفة، ليسيطر على الوضع فيها، ويقف أمام مسلم رضى الله عنه، وتحركاته، ومنذ وصول ابن زياد إلى قصر الإمارة في الكوفة، أخذ يتهدد ويتوعد المعارضين والرافضين لحكومة يزيد، ولما سمع مسلم رضى الله عنه، بوصول ابن زياد، وما توعد به، خرج من دار المختار سرّا إلى دار هاني بن عروة ليستقر بها، ولكن جواسيس ابن زياد عرفوا بمكانه، فأمر ابن زياد بإلقاء القبض على هاني بن عروة وسجنه، ولما بلغ خبر إلقاء القبض على هاني بن عروة إلى مسلم، أمر رضى الله عنه، أن ينادى في الناس، يا منصور أمت، فاجتمع الناس في مسجد الكوفة، فلما رأى ابن زياد ذلك، دعا جماعة من رؤساء القبائل، وأمرهم أن يسيروا في الكوفة، ويخذلوا الناس عن مسلم، ويعلموهم بوصول الجند من الشام، فلما سمع الناس مقالتهم أخذوا يتفرقون، وكانت المرأة تأتي ابنها وأخاها وزوجها وتقول، انصرف الناس يكفونك.
ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه ويقول له، غدا يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشر؟ فيذهب به فينصرف، فما زالوا يتفرقون حتى أمسى مسلم وحيدا، ليس معه أحدا يدله على الطريق، فمضى على وجهه في أزقة الكوفة، حتى انتهى إلى باب امرأة يقال لها، طوعة، وهي على باب دارها تنتظر ولدا لها، فسلم عليها وقال، يا أمة الله أسقيني ماء، فسقته وجلس، فقالت يا عبد الله، قم فاذهب إلى أهلك؟ فقال يا أمة الله ما لي في هذا المصر منزل، فهل لك في أجر ومعروف، ولعلي أكافئك بعد اليوم؟ فقالت ومن أنت؟ قال أنا مسلم بن عقيل، فأدخلته إلى دارها، مقاتلته لجيش ابن زياد، وفي الصباح عرف ابن زياد مكان مسلم رضى الله عنه، فأرسل جماعة لإلقاء القبض عليه، ولكن مسلم أخذ يقاتلهم قتال الأبطال، وهو يقول أقسمت لا أقتل إلا حرا، إني رأيت الموت شيئا نكرا كل امرئ يوما ملاق شرا، أخاف أن أكذب أو أغرا حتى أثخن بالجراحات.
وبعد أن بعث ابن زياد العيون للبحث عن مسلم رضى الله عنه, وبعد ان عثروا على مكان تواجده في بيت طوعة, تجهزت الجيوش لاعتقال مسلم رضى الله عنه, إلا أنه لم يسلم نفسه, فتجهز لملاقاة تلك الجموع غير آبه بعددهم وعدتهم, وأخذ يجندل الأبطال, ويكسر الكتائب, فبعث ابن الأشعث لابن زياد يطلب المدد, فاستغرب ابن زياد لعنه الله ورد قائلا، اني ارسلتك لرجل واحد، فرد ابن الاشعث قائلا أتحسب أنك ارسلتني إلى دهقان من دهاقنة الكوفة, لقد ارسلتني إلى بطل من أبطال العرب ولم تصمد الجيوش أمام بسالة وإقدام مسلم رضى الله عنه, فعمدوا إلى الحيلة والغدر, وهذه شيمتهم, فحفروا حفيرة في الأرض وغطوها, ولما مر مسلم رضى الله عنه, عليها سقط فيها, وأجهز عليه القوم طعنا بالرماح, ورميا بالنبال, وضربا بالحجارة, حتى إذا خارت قواه أوثقوه وبعثوا به لابن زياد لعنه الله، فألقوا عليه القبض.
وأخذوه أسيرا إلى ابن زياد، وقد دخل مسلم رضى الله عنه، على ابن زياد، فأخذ ابن زياد يشتمه ويشتم الحسين وعلى وعقيل رضى الله عنهم أجمعين، ومسلم رضى الله عنه، لا يكلمه، ثم قال ابن زياد، اصعدوا به فوق القصر واضربوا عنقه، ثم أتبعوه جسده، فأخذه بكر بن حمران الأحمري ليقتله، ومسلم يكبّر الله ويستغفره، ويصلي على النبي وآله ويقول ” اللهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا ” وهكذا فقد أمر بن زياد بقطع رأس مسلم رضى الله عنه, وأن يرمى جسمه من أعلى قصر الإمارة, وأن يمثل بجثته, وأن تسحل بالحبال في أسواق الكوفة, وما هذه الأوامر من ابن زياد إلا دليل على بعد هذا النكرة عن قيم الإسلام الأصيلة, وعن القيم الإنسانية, وتعكس الهوة الأخلاقية بين مسلم الذي رفض الفتك بابن زياد غدرا, وبين ابن زياد الذي يقطع الرؤوس ويمثل بالجثث، ثم أمر ابن زياد بقتل هاني بن عروة فقتل.
وجرّت جثتا مسلم وهاني بحبلين في الأسواق، وقد استشهد مسلم رضى الله عنه، في الثامن من ذي الحجة, وفي رواية في التاسع من ذي الحجة, أي يوم عرفة, ورميت جثته من أعلى القصر, وسحلت في الأسواق بالحبال, وراح شهيدا حميدا ناصحا لله ولرسوله, مؤديا الأمانة التي كلفه بها الإمام الحسين رضى الله عنه، فكان نعم السفير الناصح، فسلام عليك يابن عقيل, يوم ولدت ويوم استشهدت وهكذا فقد استشهد مسلم رضى الله عنه، ودفن في الكوفة، وقبره معروف يزار إلى يومنا هذا.
Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *