Share Button

بقلم د. مجدي إبراهيم

للتدين أشكالٌ وألوانٌ، وكل شكل منه وكل لون، يتخذ لنفسه طابعاً يميزه، أو إن شئت قلت : طريقة للتعبير عن نمط ثقافي ينظمه في إطار مجموعة قيم ومقولات تحدّد نوعية هذا النمط وانتماءاته المعرفية، فهنالك التدين الحرفي، وهنا التدين الفقهي، وهذا تدين سلفي، وهذا تدين مذهبي أو طائفي، وذاك تدين نظري، وهكذا قل الشئ نفسه في كل شكل من الأشكال وفي كل لون من الألوان، الأمر الذي يجزم معه المرء أن التديّن إن هو إلا نمط ثقافي تحكمه خلفية أيديولوجية يتعدد ويتنوع بتعدد أنواع تلك الأنماط وخلفياتها الاعتقادية.
خذ مثلاً ذلك “التدين الوصولي” الاحترافي، احتراف التسوُّل باسم الله : نوع مجرم من أنواع خلل العلاقة بين العبد والرّب واهتزاز روابطها الشعورية وأواصرها النفسية هو ذلك النوع الذي يتخذ من الدين ستاراً لبلوغ أغراضه ومطامعه الدنيويّة. وصاحب هذا النوع من أنواع التدين المرضي ربما يكون خطيباً في مسجد يتيه على الناس صلفاً وغروراً من فوق منبره بورعه وتقواه، ويقول ويكثر القول، ولا يمسُّ قوله شغاف القلوب، ذلك لأنه دعيّ لا يعوّل عليه في قول ولا عمل.
وكما يقع هذا لدى أئمة المساجد ممّن لا خلاق لهم، يقع كذلك في أدعياء المعرفة وأدعياء التفكير في كل حقل وفي كل مجال ممّن يملئون الدينا ضجيجاً بما يقولون وليس لهم حظ لا من معرفة ولا من تفكير، ومبلغ علمهم من ذلك العويل الصارخ هو الفيصل بين الخصومة والعداء من جهة والصداقة والموالاة من جهة أخرى، فلا فيصل أقوى لديهم من المصلحة ولا أمضى؛ فالصداقة هى المصلحة إذا حصّلوها وافقت ما لديهم، وإذا لم يتاح لهم تحصيلها بلغت من المعاداة ما يبلغه أخصم الخصماء. يكاد أحدهم يقبّل حذائك في سبيل تحقيق هدفه وغايته، ولربما يجعل منك إلهاً يُعبد إذا كانت له مصلحته، وعرف أنك ممّن تُقدره على تحقيقها، ولا يكتفي بذلك بل يقرأ ويكتب عن الخُلق الرفيع والتدين الراقي والحقيقة الباقية بما لست أدري له توظيفاً خارج نطاق النفاق وسذاجة الدروشة والتطبيل.
واذا غابت تلك المصلحة فقد القيم التي يدعو إليها وهي بلا شك قيم ساقطة؛ لأنها إذ تصدر منه، تصدر في البدء ساقطة ولا تنتهي في المجمل إلا إلى سقوط.
هذا التدين الاحترافي المُغرض شكلٌ بشعٌ من أشكال الوصولية والانتهازية، يتخذ من الدين رداء تخلف ورجعية ولا يزيد، وإن زعم كاذباً أنه يصلحه ويهذّبه ويرقيه. يوجد في المسجد كما يوجد في المدرسة وفي الجامعة وفي حقول العلم ومعاهد التعليم ناهيك عن المصانع والمتاجر ومرافق المجتمع على تنوع مرافقه واختلاف ميادينه الحيويّة. فالتدون إذن نمط ثقافي خاضع لقناعات باطنة سرعان ما يتحوّل فجأة مع تحوّل تلك القناعات.
إذا كانت معاجم اللغة تشير إلى أن أصل “الوهم” هو التُّهَمة. والتهمة : هى توهّم الإنسان أن أخاه قد أساء إليه أو تجاوز حَدَّاً من الحدود، وأصلها الوُهَمة، وعلى ذلك يصبح الوهم تهمة ووهمة؛ فكل موهوم متهوم وكل متهوم متوهم أو موهوم؛ فإن ثقافتنا العربية على هذا الأصل متهومة عندنا؛ لأنها مؤسسة على الوهم مستندة على تصورات هى في الغالب قائمة على الوُهمَة.
آفة الثقافة العربية؛ إذا هى لم تستطع أن تفعِّل “عقيدة التوحيد” على صعيد التذوق والتبْصرة أو على المستوي العقلي والفكري والثقافي، وأن تصل من النزوع إلى الفصل، ومن المباعدة إلى الانخراط في وجوب الوحدة بحيث تقرن الأشباه والأضداد وتربطها بعضها مع البعض الآخر بما يجعل منها وحدة توحيديّة واحدة في غير تنافر تفرضه شكلية الأداء أو تناقض يجيزه منطق المحسوس …
أقول؛ إنّ آفة الثقافة العربية إذا لم تقتدر أن تجعل من التوحيد غايتها ومطلبها؛ فهى لا شك تنطلق في أغلب أحولها وتعدد مواقفها من وهم، وتعود على وهم، وتتصوّر الحقائق على الجملة فضلاً عن التفصيل بفاعلية الوهم المعشعش في أدمغة منتجيها؛ ومنتجو الثقافة لا يبلغون من الحقائق المجرَّدة مبلغهم من العلم بفاعلية الوهم أبداً، وإنما يبلغونها بالتجرَّد وببذل النفس طواعية في سبيلها؛ لكننا محكومون في أفكارنا وآرائنا وأحكامنا ومنطلقاتنا الفكرية والشعوريّة بالهوى لا بالعقل المروض على التفكير البصير.
ومن شأن حكم الهوى أن يُملي علينا خيوطاً متشابكة ومختلطة بخليط عجيب من “الوهم”، ويظل الوهم يلفنا لفاً لا فكاك لنا من خيوطه الكثيفة المتشابكة، حتى ليملأ صدونا بالتضخم، وعقولنا بالاعتقاد التقليدي المنبوذ، وذواتنا بالفراغ والسطحية، وسلوكنا بالتصرف الرزيل المشين، فيبدو كل ما نقوله أو نفعله إلى الوهم المتفشي في أعماقنا أقرب وأدنى من بلوغنا للحقائق التي يسبقها جهادُ للنفس شريف.
ومتى تغلغل الوهم في أفكارنا ومعتقداتنا؛ مضينا مع “الهوى” إلى غايته، فيسوقنا الهوى إلى ضروب متشابكة لا شك فيها من الأنانية وحبّ الذات وتضخم “الأنا” … إلى كثير من الصفات التي يغلب عليها حكمه فينا، ولا يغلب عليها فينا حكم العقل المقيد بضبط الأهواء ومجاهدة الآفات؛ وبلوغ الحقائق من ثمَّ بمقتضى هذا الجهاد لا بفاعلية الهوى الذي يتحكم فينا تماماً كما تتحكم فينا العادات، والمألوفات، والمرذولات، تحكم الأغلال تغلنا عن الحركة، وعن الحرية، وعن الاعتقاد الحر النزيه عن الأغراض : اعتقاد التوحيد، وفهم التوحيد، وإدراك التوحيد، وتصحيح التوحيد، وتفعيل التوحيد في حياتنا الباطنة قبل الظاهر منها لبصر الشاهد العيان.
هذا هو الاعتقاد الذي يعلو متسامياً عن كل عقيدة مقيدة بقيود الوهم بلا هداية يرومها قصد السبيل؛ فنحن – والله – واهمون في أقوالنا وأحكامنا وثقافتنا وعقائدنا؛ لأننا محكومون فيها بالهوى، مسيَّرون فيها بالأنانية وحبّ الذات، ناشطون النشاط كله في بلوغ الأهواء منا مبلغ العقائد الثابتة؛ ونحن – في ثباتها وتحققها في الحق – واهمون !
فأي غربة غريبة تستشعرها الذات العربية أغربُ من كونها تنمي قدراتها على “الوهم” وتُرْبي إرادتها على الزيف؛ وتصل إلى الأمور من طريق “الوهم” لا من طريق “الحقيقة” وتنطلق بادئ ذي بدء من حكم “الهوى” لا حكم “الإرادة العاقلة” ثم ماذا؟ فإذا بذواتنا العربية تتشتت وتتفرَّق حيث لا يجمعها رابط من التوحيد وطيد.
حتى إذا شئنا نقد أنماط التدُّين وجدنا من أكبر المشاكل التي تواجه ضمير المتدين : عزل التوحيد عن واقعات الحياة، حتى ليتسأل المرء إزاء هذه الانقسامات التي تشهدها صباح مساء : إذا لم يكن التوحيدُ معزولاً عن الواقع الديني أصلاً لما أضحى معزولاً كذلك عن الواقع النظري والفكري ثم الواقع الفعلي بكل ما فيه من تفرّق وتمزق وتشتت وانقسام.
الأمر الذي جعل الإيمان الديني لدى المسلم قشرة سطحيّة تخلو أو تكاد من المضمون العملي؛ ذلك “المضمون” الذي لا نشك لحظة واحدة في أنه ينتج لغة ومدنية وعلماً وفناً وحضارة. ولو كان تدينه بالفعل مرهوناً ببصيرة التذوق الدافعة إلى العمل والإنتاج؛ لربط كل الأشباه والأضداد وصعد بها عارجاً إلى توخِّي الوحدة.
ولكن الواقع الثقافي العربي الحالي يقول لك بأبلغ لسان : إن هذه البصيرة الذوقية مفقودة أو تكاد، هى مفقودة نعم! وعندي من الأدلة على فقدانها أولاً قراءة هذا الواقع قراءة مستبصرة جيدة ومتابعة الأحداث الجاريّة فيه من قريب، والانغماس فيها، وتحليلها والوعي بملابساتها ونتائجها في العقل والشعور، وهى مفقودة ثانياً؛ لأنها في الأصل ما وجدت تامة، نشيطة، فعالة، وحيويّة، إلا في فرع واحد من فروع الثقافة العربية والإسلامية، وأعني به الفرع الذي يضم علوم التزكية سواء كانت تزكية خُلقية إنْ على مستوى الفرد وإنْ على مستوى المجموع، أو معرفية في أصل عناصرها الرفيع. وهذه العلوم بالنسبة للوعي العربي والإسلامي كانت ولا تزال تمثل تراثاً مهجوراً، يُنْبَذ اليوم من العقل العربي كما كان قبلاً منبوذاً بالأمس؛ ولو قدِّر لهذا الفرع أن يجري في حياتنا الفكرية والثقافية مجراه الطبيعي، وأن يُنظَّر له كما نظِّر لفروع أخرى غيره، لكانت تلك “الرؤية الموحَّدة” أو أحادية الرؤية الغائبة عن ثقافتنا الإسلامية من أولى اهتمامات العقل العربي قاطبة : تنقذه من الضلال.
الواقع الإسلامي يغلي بالتيارات الإسلامية المتشددة المضطربة العفنة؛ والتي أساءت للإسلام من حيث أرادت به الإحسان، فهلا جربتم سماحة التصوف وهو مقام الإحسان في الإسلام؟
ماذا تقول يا رجل؟ التصوف ! ألم تقرأ اليوم في رسالة علمية ضخمة نتيجة غربية عجيبة يستخلصها باحث أو ينقلها عن آخرين مفادها أن الغرب أهتم بنشر التصوف بين المسلمين لإسقاط العقائد الصحيحة ! فأي تصوف هذا الذي تعوّل عليه طلباً للإصلاح؟! ثم ألم يكن تدين المتصوفة نمطاً كسائر الأنماط الثقافية التي تتخذ لنفسها شكلاً من أشكال التدين ينتهي آخر الأمر إلى توجّهات أيديولوجية؟ فلم تنحاز إليه رافضاً سواه، هل هذه موضوعية الباحث يتوخاها بغير تزيد ولا مبالغة؟
فأمّا عن تلك النتيجة الغريبة العجيبة المستخلصة أو المنقولة؛ فهي نتيجة متخلفة غارقة في التخلف إلى أبعد الحدود، لأن المستشرقين الذين نشروا ذخائر التراث الاسلامي، الصوفي والفكري، وقاموا بتعريف المسلمين بتراثهم العقلي والروحي هم أولى بتقديم واجب الشكر لهم من نقيصة النكران، ثم نأتي نحن لدراسة آرائهم مع ما فيها من غلو لنقدها وتقيمها لا أن نقول فيها ما يقوله الجاهلون المتخلفون.
وأمّا كون تدّين المتصوفة نمطاً ثقافياً كسائر الأنماط الثقافية الأخرى للتديُّن يجوز نقده تماماً كما يجوز نقد غيره، فهذا ممّا لاشك فيه عندنا، لكنه النقد الذي يفحص الفوارق بين الأنماط المختلفة ويقيس مقياس التدّين بمطابقته للاعتقاد الصحيح ولممارسته للقيم البناءة؛ فالتسامح وقبول الآخر المختلف مثلاً فارقٌ نقدي ظاهر بين نمط ونمط؛ فإذا توافر في شكل من أشكال التدّين واختفى في سواه قبلنا ما هو متوافر ورفضنا النمط الذي يدعو إلى ضدّه، ويظهر نماذج التشدّد التي تضرُ بالعقيدة عموماً بمقدار ما تقدح في المنتسبين إليها من أقرب سبيل.
وعليه، فالمثقف الذي يدّعي أنه يتمتع بكل ثقافة رفيعة؛ لن يكون مثقفاً في تقديري وهو يكره الثقافة العرفانيّة، ولا يريد شيوعها في بلادنا العربية مع أن التصوف الذي هو في الأساس ثقافة عرفانيّة تتأسس على المحبة والمعرفة؛ ليحمل بالمطلق خُلق الإسلام السمح الطهور.
أما بقيّة فروع الثقافة الإسلامية؛ فهى على انتشارها وسعتها وكثرة الطالبين لها، الداعين إلى تزكيتها وتفضيلها، الآخذين على عاتقهم بفرضها قسريّاً على واقعنا الفكري والثقافي؛ فهى السبب المباشر في تعطيل النظر إلى “أحادية الرؤية”، فداعية إلى الفصل والمباعدة، وذاهبة إلى التجزيئية الغارقة في غير معنى، والفاقدة لعناصر التجمُّع والائتلاف، والذاهبة إلى التفاصيل والجزئيات دون الارتداد إلى وحدة تجمعها في مبدأ واحد عام مشترك.
ما معني أن تكون متديناً بدين التوحيد الذي فطرت عليه تمارسه شكلاً دون أنْ تجريه واقعاً فكريّاً وثقافيّاً ومعنويّاً وروحيّاً؛ ليكون هو عينه مجري التجربة على المستوى الفعلي والتطبيقي؟
على أن هناك خلطاً ظاهراً عند كثيرين بين الدين والتدين، يجعلهم لا يفرّقون بينهما لا على مستوى العقيدة ولا على مستوى الخطاب، فحيث يوجّه النقد للتدّين يفهمه البعض منا على أنه نقد للدين، الأمر الذي يترتب عليه أن كثيراً من الآراء تصدر عن فهم مغلوط. كنتُ قد طرحت هذه الفكرة من قبل فجاءني يومها التعليق التالي من الفاضلة (سهيل أحمد بهجت) لتقول : ” تحياتي للكاتب العزيز؛ أعتقد – وهذا رأيي الشخصي – أن الأديان التي تملك آلهة متعددة، والتي يسميها الإسلام “شركية”، هى أكثر تسامحاً وتقبلاً للآخر، وكمثال نجد كيف قضت المسيحية على ثقافة متنوعة في الإمبراطورية الرومانية، وكذلك الإسلام الذي قضى على تعدّد الأديان والثقافات في الجزيرة العربية”.
وقد فهمت الفاضلة أن النقد هنا موجّه للدين في ذاته وبالتالي تصورت لنفسها رأياً يخرج عن المقصود ممّا أشرت، فكان ردي على التعليق : أين هو التسامح في هذا كله : التاريخ الأوروبي الأمريكي الشمالي – على الرغم من اعتناق المسيحية – ليـس إلاّ تـاريـخ الـغـزو والأبـَّهـة والتكبر والجشع. وأعظم قيمنا – كما قال عظمائهم – هى أن نكون أقوى من الآخرين، وأن نغزوهم ونقهرهم ونستغلهم.
وهذه القيم تتطابق مع المثل الأعلى “للرجولة”. فليس رجلاً إلا من كان قادراً على القتال والغزو والقهر. وإذا كانت اليهودية والمسيحية والإسلام أدياناً كتابية فليس فيها في الأصل ما يدعو إلى التباغض والعنف من حيث هى دين، ولكن من حيث هى خطاب وسلوك، فالعنف فيها مادة يخلقها التحريف. وأي شخص غـيـر قـادر على استخدام العنف إنْ هو إلاّ شخص ضعيف، أي “ليس رجلاً”.
هذا خطاب لا اعتقاد! فكرة تقوم في رأس صاحبها على غير اعتقاد صحيح؛ فيخيل لمن يشهدها أنها عقيدة من عقائد التنزيل فينسب الغلط والفهم المنكوس إلى الدين في ذاته، لا إلى أشكال التدين المغلوط .
لسنا بحاجة إلى إثبات أن تاريخ أوروبـا هـو تـاريـخ لـلـغـزو والاسـتـغـلال والقوة والإخضاع والقهر. لا تكاد توجد فترة أو مرحلة من التاريخ الأوروبي
إلا كانت هذه سماتها، ومعظمها قائم على التحريف أو قائم على العقائد الملوثة. لا يستثنى من ذلك طبقة ولا جنس.
لا توجد جريمة إلا ارتكبت بما في ذلك عمليات الإبادة الجماعية لشعوب بأسرها مثل ما حدث للهنود الحمر. حتى الحروب الصليبية التي جعلت من الدين سـتـاراً لها لم تكن استثناء. فهل كان الدافع لهذا السلوك اقـتـصـاديـاً أو سـيـاسـيـاً فحسب؟ هل كان تجار العبيد وحكام الهند وقتلة الهنود الحمر والبريطانيون الذين أجبروا الصينين على فتح أبواب بلادهم لتـجـارة الأفـيـون ومـثـيـرو حربين عالميتين، وأولئك الذين يحضِّرون لحرب عالمية ثالـثـة … هـل هـؤلاء مسيحيون مؤمنون حقاً؟
هل يُقاس القتل في تاريخ الإسلام بمثل هذا التاريخ الدموي قديماً وحديثاً ؟
ومع ذلك : أقولُ؛ إن افتقار العربي المسلم المفطور على غريزة التوحيد، لم يتمكن في ذاته أن يُفعِّل هذه الغريزة على المستوى العقلي والثقافي، ولكنه ينتكص على عقبيه ويعودُ أدراجه مستغرقاً في التجزيئية المُفرطة، ولم يهيئه توحيده الفطري لأن يجري عليه ممارسته العمليّة والواقعية؛ فأضحي تدينه في كفة، ونشاطه الفكري والثقافي والعلمي في كفة أخري؛ فجاءت عقليته عقلية فصل ومباعدة لا ربط فيها ولا توحد بين أجزائها، وليس بمقدورها أن تصل إلى الوحدة التي هى غريزتها الأصيلة المفطورة عليها، لكأنما العربي لم يستطع أن يفهم : ماذا عَسَاهَا تكون غريزة التوحيد، وماذا عَسَاهَا كانت تكون فطرة الوحدانية؟
لكأنه لم يستطع بعدُ – لأجل تدينه الساذج البسيط – أن يكوِّن لديه “رؤية موحَّدة”؛ يجريها علي الواقع الفكري والنظري تماماً كما يجريها على الواقع الفعلي والتطبيقي كما هى مقررة قبلاً في الواقع الديني بالفعل؛ إذ أن فكرة “الرؤية الموحدة” تلك؛ إنمّا هى فكرة دينية بالأساس مصدرها الدين لا الفلسفة؛ فلو صحَّ أن الفلاسفة نادوا بها أو قصدوها فيما نادوا فهي مٌستلهمة من الدين؛ وليس للعقل فضل فيها إلا فضل الشرح والتحليل.
ليس صحيحاً أن العقل أنضج من القلب أو أصدق، بل الصحيح هو أن القلب أصدق من العقل وأنضج، ولو عرفنا لعلمنا أن العقول أدنى من القلوب؛ وأن حظنا من معارفنا القلبيّة أقل بكثير من حظنا من علومنا العقلية. (وكل كلام يبرز وعليه من كسوة القلب الذي منه بَرَز) كما تقول إحدى حكم المحققين النبهاء.
يصدر الكلام عن القلب وهو تعبيرٌ عمَّا في القلوب مباشرة، وإنما جُعل اللسان على الفؤاد دليلاً. حقاً صدق الله العظيم:” إنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور”. وربك رب قلوب فانظر ماذا خالط قلبك؟ وعلى هذا يكون صحيح التدين، بالنظر الدقيق في فعل البصيرة القلبية.
وليس صحيحاً أن كفة العقل هى على الدوام في رجحان؛ بل القلب أرجح في أغلب الأحوال. القلب دليل العقل في أكثر الأحايين؛ وعمى القلوب أشدُّ وأنكى من عمى العقول والأذهان .
د. مجدي إبراهيم

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *