Share Button

 

كتب محمد درويش

هي تقف هناك على الضفة الأخرى، حيث الحشائش أكثر نضرة واخضرارا والجبال أعلى ارتفاعاً.

ويعلم أنه يعيش فى منفى وهي تعيش بمنفى. وبينهما رياح عاصفة وبرق وغيوم ورعد وثلج ونار، وهويعرف يقينا أن الوصول إليها اقل مايوصف به انه انتحار.

ويقف على شاطئ النهر هنا يضع قدميه في الماء ويستمتع بذلك استمتاع الطفل الذي دغدغت الأمواج أصابع قدميه لأول مرة.

وهى تنظر إليه مشفقة على حاله فينظر إليها بعينين ذابلتين من خلف نظارات سميكة. سهام عينيه تعجزعلى أن تصيبها وتخذله وتسقط في نهر الحياة بينهما.

 أما هي فبنظرة ساحرةمن عينيها وفى لمح البصر تخطف قلبه وتشتت عقله وتبعثر أفكارهوتؤجج الحب واللهفة اليها فى قلبه.

يحاول عبور النهرليصل اليها ولكن يجد ان النهرعميق، سريعة مياهه، متقلب مزاجه، كرجل كهل في أواخر السبعين من عمره، يرى الحب مراهقة والمغامرة فيه طيش، والذوبان في الأنثى قلة رجولة، وهل يذوب في الأنثى سوى الرجل؟

فيبدأ بقذف النهر بالحجارة الكبيرة، لعله يطوعه قليلاً أو يكسر من هيبته والخوف منه فيسمح له بالعبور، يرمي بضع حصى أخرى لعل موجه يرق ويرأف بحاله فيعطف عليه ولا يغرقه إذا حاول السباحة للوصول إليها.

أما هي فتجلس على الحشائش الاكثر اخضرارا هناك، تراقبه بعد أن تعبت من الانتظار واقفة،ترمى بنظرها اليه بين لحظة وأخرى وتنظر إلى العصافير في السماء أو تعبث بالعشب على يمينها. حركاتها تشعل نار الغيرة في قلبه وتجعله يضرب هذا النهر بكل غل وغيظ .

تمرر يدها فوق العشب الأخضر فينحني حنانا تحت يدها الناعمة، ويخرج ما في جعبته من الورود لها. تروقها الفكرة، فتمرر يدها فوق جميع العشب من حولها، يتراقص بين ايديها ويتلوى ببن أصابعها يخرج ويزهر مزيداً من الورد لها.

تزداد نار الشوق في قلبه ويزداد غليان الغيرة في رأسه ويقول في نفسه:

 “أنا حقلها، ومني ورودها وازهارها، وشعري عشبها وكلي ملكا لها.

 فيطيعني النهر أو لا يطيعنى لا يهمنى.

 فجمر الشوق وسعير الغيرة زاداه قوتا والتصميم على الوصول إليها ليقبض على كفيها ويذوب غراماً بين يديها وقبل أن تنطق بشفتيها يقول لها: أحبك يا وطني، يا أمي، ويا قلبي ويا …”.

يستفيق من كلامه وأوهامه وأحلامه، ينظر إلى النهر أمامه يمشي بتثاقل وكسل، لا يمانع من سباحة بعض الفتية في جداوله، ولا يشاكس عاشقين يقومان برحلة رومانسية على متن قارب خشبي. ينظر إلى الطرف الآخر فلا يرى أثراً لمن عاش معها أحلامه قبل قليل.

يلملم حطام نفسه ويغادر متخبطاً بمياه النهر.

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *