Share Button

بقلم : د. مجدي إبراهيم

لا شيء أعز على الكاتب من قلمه .. وكيف لا؟

والعلاقةُ بين الكاتب وقلمه هى هى العلاقة بين الكاتب وعقله، وهى هى العلاقة بين الكاتب وضميره : تخلوا – أيّها الكتاب الشرفاء – عن عقولكم وضمائركم واكتبوا لنا بمداد أسود داكن كثيف! اكتبوا لتخرّبوا العقول والضمائر، اكتبوا لتغلقوا منافذ الحرية في الفكر والقول الاعتقاد، اكتبوا لتسوِّدوا القلوب بما تكتبونه في عالم لديه أكبر استعداد لتهتك القيم وترقيع المبادئ وتمزيق الأخلاق. اكتبوا بأقلام مأجورة، ونافقوا وقولوا بألسنتكم ما ليس في قلوبكم، وادّعو بالفعل لا بالقول إلى التخلف والرجعية والفوضى الفكرية والثقافية .. اكتبوا بأخلاق العبيد وداهنوا أسيادكم ممّن يملك لديكم الرقاب والفتات .. اكتبوا بغير ثورة وجدانية كاسحة لكل ما تراه عيونكم من عَسَف السلوك وفوضى التخطيط  وإتاحة الفرصة للظالمين أن يسودوا ويترأسوا ويفعلوا في كل بقعة خضراء ما تفعله أيدي الفساد والتخريب. اكتبوا لتقولوا للناس أجمعين إننا كُتاب شرفاء، بيد أننا نتخلى عن الشرف في الساعة التي نمسك فيها زمام القلم فنزود – لا عن الرسالة – بل عن مصالحنا وأوهامنا وعلاقاتنا وخشيتنا من شقاء العيش وتعس الحال وانقلاب الوضع لو أننا زدنا عن الإيمان بالرسالة؛ فإذا القلم في يد لا يحركها ضمير !

وإذا المداد الأسود الكثيف في دكونته الدكناء لا تشم فيه غير رائحة لزجة تقذي العيون قبل الأنوف، ثم ما تلبث إلا تقول فيه : وَاحسرتاه على المطابع ! ألهذه الدرجة تطحن الكلمات طحناً لا تفرق فيها بين غث وثمين؟
أوَ كلما قذفنا إليها بمقالة أو بكتاب أكلت المقذوف كما تأكل النار كل ما يُلقى فيها بغير تفرقة ولا تمييز؟!

وَاحسرتاه على مطابعنا، أفلا ترفع يوماً أكف الضراعة لتشكو لخالقها هذا الترهل البغيض؟! 

حقاً .. فمن أقلامنا سُلِّط علينا إذا كانت أقلامنا هى هى أعمالنا وأفعالنا.

*     *     *

أرشيف الأهرام كنز من كنوز الفكر والمعرفة لجملة غير قليلة من كتّابنا القدراء؛ لذا فأجدُ لزاماً عليَّ في هذا الصدد أن أقتبس فقرة مهمة من مقال الدكتور “يحيى الرخاوي” المنشور بالأهرام في 20 مايو 2002م بعنوان “متى تصبح الكلمة سيفاً؟” حيث قال :” لسنا في حاجة الآن إلى مزيد من الكتابة التقريرية، أو الإعلامية، أو التبريرية، أو حتى التحريضية، كما أننا أبعدُ ما نكون عن الحاجة إلى إضاعة الوقت في كتابة نرجسية ليس لها وظيفة إلا تلميع صورة كاتبها أمام نفسه أساساً، ولا إلى الكتابة الراشية التي تركب موجة انفعال العامة لاكتساب شعبية الرضا والحماس لا أكثر. التهديد الذي نواجهه، والذي يجسده أبناؤُنا الشهداء، يحتاج إلى كتابة وكلام في مستوى هذه البطولة الرائعة التي يعلموننا من خلالها معنى الحياة والموت والكرامة ” (أ . هـ).

وواضح أن المقصود هو تجاوز مرحلة الكتابة بأنواعها المختلفة، إلى ما بعدها، فيما ينبغي أن نصدر فيه عن تجاربنا الخاصة؛ لنكون بصدق مسئولين على الحقيقة عن كل ما نكتبه، وفي نفس الوقت نتجاوز ذواتنا المحدودة إلى عوالمنا الكبرى ومحيطنا الشامل؛ لنقدّم ما نراه بإخلاص لله وللوطن. فما لم تكن لك تجربة تفيدك في عالم الكتابة، تمضي على هذه السُّنّة كما تمضى على هدها لتكتب شيئاً جديداً تحسُّه في ذات نفسك وتشعر به وتضحي من أجله بالدم قبل المداد وتراه خير معين على مسيرة الطريق؛ فاترك القلم لغيرك.

وتجاربنا مع الكتابة تجعلنا نقول مُبادرين بأن الكتابة القيَّمَة الصادقة ذات المعرفة النافعة، تأتي دائماً في حالات الصفاء العقلي والذهني، وحالات الصفاء العقلي والذهني ليست مفصولة عن حالات الصفاء القلبي والوجداني أو الروحي على التعميم، وليست هى بالطبع بالمعزولة عن يقين الإيمان بالله، وهى كذلك (أي حالات الصفاء العقلي والذهني) لا تتيسر في عالم الكتابة إلا بالتريّض على استخدام القلم فيما ينفع وفيما يفيد وفيما يجذب القلوب جذباً إلى الرياض العلوية : رياض القيمة ورياض التضحية في طراز رفيع سامي من الفضائل والمعاني النبيلة : معاني الحياة والكرامة والموت.

 وعليه؛ فلا إبداع ما لم يكن هنالك تغييرٌ في أنماط النفس، ولا إبداع والعقل قد أعتاد على أن يكون هذه طريقته في التفكير والتعبير ولا طريقة غيرها على الإطلاق، هو يكتب بقلم تعود الركض في هذا المجال دون ذاك؛ فلم يستطع أن يجرّب مداده في مادة بعينها، فهو يفتقر – من أجل ذلك – إلى أن تكون له صولة وجولة في موضوعات لم يتعوَّد طرقها من قبل، وعندي أن القلم الذي لا يسيل مداده في مختلف المناحي التي تسيل فيها مداد الأقلام الشريفة حقيقٌ أن يكون عرضة للمهانة والانتكاس.

إن للقلم أسراراً لا يحيطها محتاط إلا إذا عرفها وذاقها، ولا هى تُعرف ولا تُذاق إلا بقوة الحق ينفثها في مداد الأقلام الشريفة. والاستطاعة على هذا النوع من الكتابة هى من جنس الاستطاعة على “الفعل” بوجه عام، فنحن لا نستطيع إلا إذا وفِّقنا إلى الاستطاعة، ولا شرط لهذا التوفيق إلا بإخلاص في استطاعة منّا مُوفقة.

نعم ..! كلنا يدّعى الاستطاعة على الفعل، وكلنا يدعى القدرة على إتيان الأعمال كيفما شئنا، وكيفما شاءت إرادتنا أن تصيب من مقبول الأعمال والأفعال، ولكن هذه الأعمال الإنسانية (= البهلوانية) شيء، والأعمال التي يَجيءُ فيها التوفيق شيء آخر. هذه الأعمال الأخيرة لا تكون إلا بنفثات من الحق مُلْهِمَة بطبيعتها قلم التوفيق؛ فإنّ الأعمال التي تحتمل التوفيق لهى الأعمال الخالدة، ولا يكتب الله الخلود لشيء وكل ما في جعبة هذا الشيء ضلال لا يقبل التوفيق.

تستطيع أن تكتب حين تستطيع أن تجد في نفسك شيئاً تريد أن تفعله ولو بقلبك قبل أن تقوله بلسانك، ولا تستطيع أن تكتب الكتابة التي نقصدها هنا وأنت على خلاف ذلك : مجرَّداً عن وحدة القصد وملابسة الحضور. جرَّب أن تكتب في موضوع من الموضوعات، فستجد عند أول خيط تعلمه فتدركه وتفعله هو أول خيط تكتبه ولا زيادة عليه لمستزيد.

إنّ أردأ الأقلام على التعميم ذلك القلم الذي لا يكتب، وحين لا يكتب معناه أنه لا يضع في اعتباره القوة الإلهية التي جعلته يكتب، فيُوفَّق من ثمَّ إلى الجميل فيما كتب، وإلى الجميل فيما قال، وإلى الجميل فيما يتناسب مع حكمة القول وفصل الخطاب. قلمُ التوفيق هو أبدع الأقلام جميعاً حين يريد صاحبه أن يكتب شيئاً ذا بال، وإلاّ فهو كلام فوق كونه فارغاً من القول والعمل والأخلاق، فارغ كذلك من الفاعلية التطبيقية، فارغ من معنى الحياة والموت والكرامة .. إننا لا نستطيع أن نكتب ونحن في معزل عن قلم التوفيق، ولا نستطيع أن يكون لكلامنا الذي نكتبه تحريك ووقع على أفئدة القارئين إلا وقلم التوفيق مُرادنا الأول وهمنا الأخير.

إن القلم المؤثر الفعّال هو قلم نفس علوي من أنفاس الحق تعالى، يتجلى بالمعرفة على من يختارهم الله ليكونوا أهلاً لأنفاسه العلوية؛ فكيف – من بعدُ –  ندّعى المعرفة ونحن بمعزل عن طريق الله؟ وما هو في الحقيقة طريق الله إلا الحق نعلمه، فندركه، فنتوخى تطبيقه على الدوام بغير انقطاع.

نحن نستطيع أن نكتب في الوقت الذي نعلم على الحقيقة وجهة الحق فينا، فإذا كُنَّا على الحق، فقد كُنَّا على القصد والاعتدال في غير عَسَف يشوب السلوك، وفي غير جور يَلمُّ بالضمائر والعقول. على هذه الأوراق التي يحبها الكاتب ويعشقها ويسكب عليها أغلى ما يملك من قوة ينفثها دوماً على الأوراق، تكون راحته الكبرى وغبطته العظمى ومتاع الحياة كل المتاع لديه على هذه الأوراق. إنه لحنين يأخذ بمجامع القلوب ذلك الحنين الذي نفقد فيه القيمة الوجودية العليا على الورق كما فقدناها أو كدنا في تحقيق الواقع.

إن الواقع لا ينصلح بغير أن تنصلح في الإنسان مقومات وجوده، وكيف تنصلح مقومات الوجود على الإطلاق، والقيمة الوجودية معطلة عن التحقيق؟

الإنسان الذي يعلم كيف يسير في هذه الدنيا هو إنسان يعلم كيف يعقل عن الله مُراده، وكيف يفهم أنه موصول بالقيم الباقية تجعله قادراً على أن يكون إنساناً بغير شك في إنسانيته وبغير خلاف.

نعم ..! قد يقع الشك كما يقع الخلاف في كل جهة في الإنسان إلا جهة “القيمة” واتصال هذه “القيم” واقترانها بوجوده الروحاني الذي يعزُّ عليه أن يستبدله بوجود آخر ينفعه في دنياه الموهومة إذا هو عاش الدنيا على الوهم وخديعة الصواب، ولا بد أن يعيش؛ لأن الدنيا حُلم والآخرة يقظة, والمتوسط بينهما الموت. والناس في الدنيا كأضغاث أحلام؛ وفي الحديث :” الناسُ نيامٌ إذا ماتوا انتبهوا ” ممّا قد سبقت الإشارة إليه سلفاً.

إنّما الوجود الروحي هو الوجود الذي لا يمكن أن يستبدله إنسان كائناً ما كان بوجود آخر يرى فيه مطالب العزة والكمال, حيث لا عزة ولا كمال والإنسان معطل على الدوام من قيم الوجود الروحي بداخله؛ معطل من هاته الطاقة التي تفرز “القيم” وتفعّلها ثم تنسج منها خيوطاً صادقة باقية للمعرفة والعلم والحياة، وللكرامة والموت والتضحية، وللفكر والثقافة ولحيوية الاعتقاد.

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

 

 

 

 

 

 

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *