Share Button

محمد عابد الجابري بين حداثة المشروع وتجديد الخطاب (3)

بقلم : د. عصمت نصّار

اذا ما تتبعنا البنية النصيّة لكتابات الجابري في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي سوف ندرك مواطن التحولات ومواضع القفزات التي كانت تطرأ على مشروعه المزعوم. فها هو يتحدث في كتابيه “نحن والتراث” و”الخطاب العربي المعاصر” حول قضيتين:  

أولهما : أزمة الأنا التي تتجاذبها قوتان (الفكر الوافد من الماضي والفكر الوافد من المستقبل) ويقف بينهما العقل العربي عاجزاً عن التواصل مع الأول؛ لعجزه عن فهمه وافتقاره للآليات التي تمكنه من استبعاد مواقع هزائمه وإخفاقاته من جهة واستلهام إيجابياته لتدفعه إلى الأمام من جهة أخرى.

أما عجزه عن اللحاق بالأمم الراقية فيبدو في ذلك الموقف المتناقض في ثوابتهما؛ فالعقل العربي مازال يدرك أن مشخصاته وهويته على ضعفها مفارقة لشخصية الآخر الذي يريد اللحاق به. أضف إلى ذلك أن روحية العقل العربي ومثاليته المستوحى من الموروث العقدي التليد تعيقه عن فهم الآخر الذي لا يقدس إلا المصلحة ولا يثق في شيء دون العلم، وفوق ذلك كله أن الآخر المتعدد يدرك وجودنا ولكنه لا يعترف بحضورنا (فالموجود الحاضر عنده هو القوي الفاعل).

أمّا القضية الثانية : فتتمثل في بنية المشروع الذي يفتقر بدوره إلى تخطيط دقيق وعقل جمعي واعي ورأي عام قائد يحسن العدو والمراوغة والتحايُل على كل السلبيات التي لا تمكنه من إحداث نهضة حقيقية تقوم على أسس قوية في ولائها وانتمائها إلى الأنا.  

وها نحن نألفه نعبر عن ما أوردنا بطرح العديد من الأسئلة المستنبطة في بنية نصوص خطابه “تكوين العقل العربي” (هل يمكننا تصور نهضة بعقل غير ناهض؟) أليست الإخفاقات في حاجة إلى مراجعة تكشف عن عللها؟ هل بناء السدود والقلاع على تربة رخوه أقوم وأسلم أم تفكيك وحفر تلك التربة لوضع الأساسات وتشييد البناء؟ هل تعدد القراءات غير المحايدة للثقافة العربية هو الذي يدفعنا دوماً إلى القراءات التفكيكية المعاصرة لكل الخطابات الموروثة للتفرقة بين الأصيل والقديم؟ وانتهى الجابري إلى أن مشروعه المزمع يرمي إلى تحقيق غايتين:  أولهما : الكشف عن مكونات العقل العربي.  

وثانيهما : تحليل بنية مكوناته أي الجمع بين الوقوف على الأعمدة الرئيسة لبناء العقل الجمعي العربي ثم تفكيك تلك الأسس للوقوف على مدى صلابتها وجودتها وصلاحياتها. ومن أقواله في ذلك (ومن هنا المهمة المضاعفة التي يطمح هذا المشروع إلى تدشين العمل فيها : استئناف النظر في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية من جهة أولى، وبدء النظر في كيان العقل العربي وآلياته من جهة ثانية. وهكذا انقسم المشروع إلى جزئيين منفصلين ولكن متكاملين:

جزءٌ يتناول تكوين العقل العربي وجزء يتناول تحليل بنية العقل العربي. الأول يهيمن فيه التحليل التكويني والثاني يسود فيه التحليل البنيوي).

وحريُّ بنا أن ننبه إلى أن الجابري قد رفض كل التيارات الإصلاحية السابقة عليه تلك التي طرحت نفس الأسئلة واجتهدت في الإجابة عنها؛ بل قامت بمشروعات حقيقية للتجديد والإصلاح والتنوير. ومن الواضح أيضاً أن رفضه لهذه التيارات جاء متعجلاً فمنهج التفكير الناقد يقتضي غربلة الآراء السابقة بعد فحصها والحكم على بنيتها، وذلك لأنها لم تكن مجرد خطابات بل مشروعات لا يمكن إنكار أثرها والخطة المتناغمة المتماسكة التي نجحت في نقل الثقافة العربية خلال مئة عام من طور الانحطاط والتردي والتخلف إلى طور الوعي والاستنارة ومنافسة الآخر.

وسوف تكشف الوقائع التالية عن نكوصه وردته إلى الضرب الذي كان ينبغي عليه أن يسلكه؛ فما أكثر الكتابات التي اتهمت النهضويين العرب الذين قاموا بإعادة تشكيل الثقافة العربية في مصر والشام وتونس والجزائر والعراق في الفترة الممتدة من 1850م إلى 1950م بحجة أن تلك المدارس قد أخفقت في تحقيق مقاصدها؛ ومن ثم كان لازماً على متفلسفي ما بعد النكسة تقديم مشروعات وخطابات وخطط حديثة.

وفي اعتقادي أن السبب الرئيس لعزوف الجابري عن مواصلة الضرب أو إنتاج خطاب تكميلي متطور وغير مناقد لمشروعات المفكرين السابقين عليه هو قراءته لأفكارهم من خلال تفسيرات أيديولوجية وتحليلات ابستمولوجية تفتقر إلى المنهجية النقدية المحايدة؛ أي أنه لم يلتزم بالمنهج الذي حس عليه في قراءة التراث؛ بل لجأ إلى التفكيك والتأويل الذاتي والنقض الثوري بلا مبرر وهو نهج معظم معاصريه من الذين أطلقوا على انفسهم فلاسفة الاستنارة العربية الجديدة. وها هو يعبر عن ما أسلفنا وما ذكرنا؛ ليثبت نظرته الحيادية المزعومة. ويقول في ذلك (ليس من الممكن فصل الثقافة عن السياسة في التجربة الثقافية العربية, وإلا جاء التاريخ لها عرضاً لأشلاء متناثرة لا روح فيها ولا حياة، لم يكن من الممكن كذلك، ونحن نبحث في تكوين العقل العربي، إهمال اللامعقول والاهتمام بالمعقول وحدة؛ بل لقد تتبعناهما معاً في نموهما وتأثيرهما المتبادل، وأكثر من ذلك وأهم في نظرنا، لم نحاول التماس المعقولية, بصورة من الصور, لهذا القطاع أو ذاك قطاعات اللامعقول في الثقافة العربية؛ بل لقد احترمنا في كل قطاع طبيعته وربطنه بالبنية – الأم التي منها تفرع وإليها ينتمي).

ويعني ذلك أن آليات البحث عنده كانت تعتمد على عنصرين أولهما التفسير السياسي للأحداث والثاني الرؤية الناقدة للمعقول واللامعقول في ثقافة مغايرة لموقف الناقد وكان من الأجدى الإحاطة بكل عناصر الثقافة المكونة لبنية الموروث الذي يريد تفكيكه؛ فهناك العديد من الأحكام والمواقف والآراء قد فسّرها المؤرخون تفسيراً سياسياً متجاهلين الأثر العقدي في الداخل وأثر التفكير الوافد من الخارج. أما المعقول واللامعقول فالفصل فيهما نسبي ولا يمكن إنكار تأثره بقناعات الذات أو ثقافة العصر.  

وها هو يعترف بنهجه الذاتي الرامي إلى تحرر من قيود الماضي. ويقول في ذلك (ولابد من الإشارة أخيراً إلى أننا قد اخترنا بوعي التعامل مع الثقافة “العلميّة” وحدها؛ فتركنا جانباً الثقافة الشعبية من أمثال وقصص وخرافات وأساطير وغيرها؛ لأن مشروعنا مشروع نقدي؛ ولأن موضوعنا هو العقل؛ ولأن قضيتنا التي ننحاز لها هي العقلانية. نحن لا نقف هنا موقف الباحث الأنثروبولوجي الذي يبقى موضوعه ماثلاً أمامه كموضوع باستمرار؛ بل نحن نقف من موضوعنا موقف الذات الواعية من نفسها. إن موضوعنا ليس موضوعاً لنا إلا بمقدار ما تكون الذات موضوعاً لنفسها في عملية النقد الذاتي.  مشروعنا هادف إذن؛ فنحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرر ممّا هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي.

والهدف: فسح المجال للحياة كي تستأنف فينا دورتها وتعيد فينا زرعها .. ولعلها تفعل ذلك قريباً).

 والغريب أن أولى النتائج التي انتهى إليها الجابري من قراءته لتاريخ الحضارة العربية هو أن الكتابات التاريخية مشوشة؛ ولا تمكن المفكر الناقد من الوقوف على بنية الآراء المطروحة أو علة الأحداث المؤثرة والمواقف المتأثرة بمنهجية دقيقة وعليه سوف تظل الأحكام على الموروث أحكام جزئية لا تصدق على الكل ولا تصلح أن تكون حجة مُفسرة أو مبررة. ويقول في ذلك (تاريخنا الثقافي إذن، في حاجة إلى إعادة كتابة؛ بل إلى قراءة جديدة تنظر إلى الأجزاء من خلال الكل وتعمل على الوحدة من خلال التعدد وتعتمد في تصنيفها على البنية الداخلية وليس المظاهر الخارجية وحدها).

 والمثير للدهشة أن مفكرنا يضع تصوراً لتصنيف العلوم والمعارف العربية يخضع بدوره إلى نظرته الذاتية ثم يدعي أن من خلال هذه التصنيف المعرفي يمكنه معالجة كل آفات الخلط والأحكام المتعجلة والتصورات المتحيزة. ثم انتقل الجابري إلى قضية النهضة والسقوط في الثقافة العربية محاولاً تبرير مشروعه.

(وللحديث بقيّة)

بقلم :  د. عصمت نصّار

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *