Share Button

محمد عابد الجابري بين حداثة المشروع وتجديد الخطاب

بقلم : د. عصمت نصّار

مازالت الدراسات والأبحاث المعاصرة عن رواد وقادة الرأي في الثقافة العربية الحديثة أحوج ما تكون إلى المراجعة وإعادة القراءة النقدية، أو إن شئت قل تفعيل مناهج التفكير الناقد خلال تقييمنا لآثارهم في الثقافة العربية والوقوف على  مدى نجاح خطاباتهم في إعادة تشكيل العقل الجمعي للمثقف العربي بعامة والمتخصصين في ميدان الفكر الفلسفي بخاصة.

ويعد محمد عابد الجابري (1935م -2010م) من أكثر المتفلسفين أصالة وشهرة في الثقافة المغربية شأنه في ذلك شأن محمد أركون (1928م-2010م) في الجزائر، وعلى شريعتي (1933-1977م) في العراق، وصادق جلال العظم (1934م-2016م) في سوريا، وعبد الوهاب بو حديبة (1932م -2020م) في تونس، وحسن حنفي (1935م/…) في مصر، وعلى حرب (1941م/…) في لبنان، وطه عبدالرحمن (1944م/…) في المغرب، وعبد الله أحمد النعيم (1946م/…) في السودان. فجميعهم قد أنضوى تحت راية التنوير. وعبرت خطاباتهم – مع اختلافها وتباينها – عن رغبتهم في إعادة تشكيل العقل العربي انطلاقاً من نقد الموروث، والحوار مع الآخر، والاقتداء بالحداثة الغربية، وتوعية المثقف العربي، والتحرر من كل قيود التقليد التي تحول بين الأنا المفكر وحرية البوح والاعتقاد والديمقراطية، والانتصار للعلم في مناقشة ومعالجة شتى القضايا المطروحة التي يفرضها الواقع في سبيل اللحاق بالمدنيات المتقدّمة ومناقشة قضايا الهوية العربية ومشخصاتها والدين والعولمة والعلمانية، وإعادة قراءة الكتب المُقدسة لتجديدها وتأويل نصوصها واستبعاد بعضها !

كل ذلك بالنزعة التفكيكية الرافضة للنسقية والأيديولوجيات والنظريات وكل ضروب الأصولية والمناهج الأخلاقية التربويّة.

والجدير بالملاحظة أن معظم هذه الخطابات قد جوبهت بالرفض والانتقاد من قبل العقل الجمعي وقد أدرجها الكتُاب المحافظون ضمن الكتابات الجانحة والمشرعات المجترئة من الفلسفات المناهضة للدين ومشخصات الهوية والثوابت الشرعية في الإسلام والمسيحية والكتابات المرتابة في أصالة التراث والنزعات المتشيعة للنظم الأوروبية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية والتعليمية.

ومن ثمّ أضحت الحاجة إلى فحص هذه الخطابات والتمييز بينها والكشف عن مدى اتساقها أو اضطرابها من حيث البناء والبنية والوقوف على علة إخفاقها وعجزها عن الوصول إلى أهدافها وتحقق مقاصدها. وقد انتخبنا من بين هذه الخطابات اشهرها وأقواها أثراً في العقل الجمعي وأكثرها تأثراً بالكتابات السابقة عليها من جهة وأقربها إلى المسحة الفلسفية في تحاورها مع الآخر ومناقشتها لقضايا الواقع المعيش من جهة ثانية، ورغبة صاحبها الصادقة في التجديد والإصلاح من جهة ثالثة. ألا وهي كتابات مفكرنا الجابري الذي أعترف قبيل وفاته بأن مشروعه قد اكتمل وأجتمع جل معاصريه على أنه صاحب مشروع حضاري يجب تنميته والعمل على تحقيقه بعد تحديثه ونشره للنهوض بالعقلية العربية.

نقد الموروث بين الإلغاء والإحياء :  

لقد اتخذ الجابري من التأويل العقلي والوجهة النقدية المُفعمة بالنظريات الغربية سبيلاً لقراءة التراث بداية من الموروث اللغوي وانتهاءً بالتراث العقدي, غير أنه لم يكن نسقياً في وجهته الفلسفية؛ فتارة نجده ينتصر للعلم والمناهج الفلسفية والرؤي العقلية المستندة على النظريات التحليلية، وتارة أخرى نجده أقرب إلى ما بعد الحداثيين في تأويلاته وانتقاداته التفكيكية. وانتهى من سياحاته  في المؤلفات العربية إلى أن مناهج المفسرين القدماء كانت أقرب إلى النهج المحافظ الذي يستند إلى ما يصفوه بالثوابت والمألوف من معاني ودلالات لفهم النص.

أمّا التأويل العقلي المتحرّر من الدلالات الموروثة والمعاني المرتبطة بالآيات والأحاديث؛ فقد ظهر مع ذيوع الفرق الكلامية الإسلامية التي عولت على العقل والتأويل الاجتهادي الرامي إلى الوقوف على المعني الرمزي والدلالة الكامنة خلف الألفاظ والمقصد المراد للمعنى الكلى بغض النظر عن الدلالات المعجمية والتفسيرات اللفظية، وذلك في كتابه (بنية العقل العربي).

غير أنه يعود ويؤكد أن ذلك التفسير العقلي كان أقرب للتفسير البياني الجامع بين المعاني اللغوية والمعارف الفلسفية التي وقف عليها المعتزلة من المتكلمين والفلاسفة الذين تأثروا بالنظريات الفلسفية الخالصة. كما أن ذلك لم يمنع أرباب الحدس والنظريات الإشراقية الباطنية من تأويل النصوص المُقدسة تبعاً للشعور الباطني الذي يرشدهم إلى المعني والدلالة. وقد رفض مفكرنا هذين الضربين من التفسير والتأويل ورفض كذلك  القراءة الليبرالية الاستشرافية الغربية الحديثة التي تنهج تفسير التراث بالتراث معتمدة على المنهج اللغوي (Philological Method) ومهمتها تنحصر في رد التراث العربي الإسلامي إلى الأصول إما يهودية أو مسيحية أو فارسية أو يونانية أو هندية.

ويعتقد الجابري أن هذه القراءة لم تتحرر من قيد التقليد، أما القراءة الماركسية للتراث فيحكمها المنهج المادي الجدلي المقيد بالأيديولوجية الاقتصادية. وهي تحجر على العقل الحر في انتخاب الدلالات والمعاني التي تنسجم مع الواقع المعيش، ومن ثم لا تستطيع نقل العقلية العربية من عقلية تراثية سلفية إلى عقلية معاصرة لها تراث. ويضيف الجابري أن ما نريده من دراسة الفكر الموروث هو الحد من سلطاته بالقدر الذي يمنعه من فرض سيطرته على عقولنا وزماننا.

فما أجمل من أن نحتوي التراث دون أن نكون له لقمة سائغة يبتلعنا في جوفه، فننطبع بطبعه دون أن نؤثر فيه بعقولنا النقدية ومشاعرنا الحية، وعليه يرى الجابري أن الذات الإنسانية الفردية الواعية هي حجر الزاوية ونقطة الانطلاقة المركزية صوب كل الأطراف في آنٍ واحد، وهي تلك التي تنظر إلى ميراث الأجداد كله بنظرة ثلاثية الأبعاد لإدراك بنائة وبنيته، والزمان الذي أنتج الأفكار والأحداث ثم الأيديولوجية والهوية التي أبدعت البناء الموروث والبنية وذلك مع الحفاظ على استقلالية الذات القارئة والإرادة الحرة الناقدة، المؤولة، الرافضة، وذلك لن يتم إلا عن طريق الحدس العقلي المباشر المتفرد المتميز عن كل النظريات والرؤى الحدسية المتشابهة والرافض للأحكام المسبقة والاستنتاجات التي تحول بين الأنا والآخر، والحوار المستمر حيث القناعات الفردية التي لا يحد من صيرورتها إلا الذات القارئة الواعية, وعليه يصبح الدين والنصوص المقدسة مجرد تجربة روحية جوانية فردية تحكم عليها الذات الحرة وتصدرها للآخر دون إكراه أو صراع أو تقييد للمفاهيم.

وخليقٌ بنا أن نتساءل : هل ذلك النهج يشبه من قريب أم من بعيد منهج ابن رشد في قراءة التراث والفصل في القضايا والتأليف بين المنقول والمعقول وتقديم البراهين واستنباط الأدلة والمبررات والتثاقف مع الخصوم. ذلك المنهج الذي أدعى الجابري استلهامه في كتابه (الخطاب العربي المعاصر)؟

ونتسأل من جديد، هل نقد التراث وإحيائه وتجديده يستوجب قطيعته؟

وهل محمد أركون وحسين مروة (1910م-1987م) وطيب تزيني (1934م/ …) وعلى أو مليل (1940م/ …) من أصحاب خطابات أم مشروعات؟

وما هو الأثر الذي خلفته كتاباتهم في الثقافة العربية؟ وهل تحررت الثقافة المغربية من أثر الأصوليات اليهودية والعصبيات الإسلامية والاستغراب الأوروبي والقضايا العرقية والسلفية الملكية؟

وتدفعنا فلسفة قراءة القراءة إلى الوقوف على عدة ملاحظات حيال معالجة الجابري لهذه القضية :

أولها: صعوبة لغة الخطاب المفعم بدلالات إحالية يصعب على غير المتفلسفين إدراكها أو ممارستها في ميدان التحليل أو التفكيك.

وثانيها: أن حديثه عن الذات القارئة للتراث يحلق في آفاق مخالفة تماماً للواقع المعيش من حيث طبيعة الذهن أو المعتقد السائد أو المعارف المطروحة في الدرس التعليمي أو الثقافي.

الأمر الذي يخرج الجابري من زمرة أصحاب المشروعات التنويرية ويدرجه ضمن أرباب الخطابات المتعالية ذات الجرس العالي المثير لأصحاب العمائم وحملة الصلبان تلك التي لا تقبل التأويل التفكيكي للتراث وتعتبره تبديداً مجترئاً وتصوراً جامحاً.

وثالثها: أن الاعتماد على الحدس العقلي والقناعات الذاتية في قراءة التراث يناقض تماماً ما يسعى إلى تحقيقه الجابري ومن نحى نحوه ألا وهو إيقاظ العقول وفتح باب الاجتهاد والتحرر من سلطة التقليد والاحتكام إلي الواقع العملي عند تعارض المنقول والمعقول.

 

بقلم : د. عصمت نصار

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *