بقلم : د. عصمت نصار
لم يجد خالد محمد خالد أنيساً أو جليساً خيراً من رواد الفكر وأعلام الأدب وأكابر المجددين وأصفياء الأنفس؛ ليرتحل معهم متأمل خواطرهم وفلسفاتهم وأدعيتهم عزوفاً عما كان يشعر به من ضيق وملل وعجز عن تغيير واقعه حيث البطالة وقلة المال لرعاية أهل بيته وأولاده الصغار. وبعد عام كامل من ذلك الضيق عُين مدرساً في الفيوم ثم نُقل إلى القاهرة، فحمد الله على إنقاذه من هم الفاقة ودعاه أن يحلل عقدة من لسانه، ويعلي من شأن صرير قلمه ليبوح بما كان يجيش في قلبه وعقله تجاه مسالب الأوضاع الاجتماعية والسياسية من جهل وعوائد الناس ومعتقداتهم الفاسدة التي تفشت في أذهانهم وانعكست على سلوكهم من جهة أخرى.
ويقول عن تلك المحاورات التي أجراها مع عقله خلال رحلته بحثاً عن أجوبة للتساؤلات التي أعيته وأصابته بالقدر(أذكر أنني في أحد أوقات عناد عقلي وتمرده قلت له – كأنني أخاطب شخصاً أمامي – “أذهب وأبحث كما تشاء, وعما تشاء .. ثم عد إلى متوشحاً بإيمان أو مُغرقاً في إلحاد أو (لا أدرياً) بين هذا وذاك”.
كل ما أطالبك به أن تتصرّف كعقل وتبحث كعقل بعيداً عن الغوغائية والعبث والاستهتار واللامبالاة) فقد ساء تبرير الأزهريين للواقع الاجتماعي المصري باسم الدين (للفقراء الجنة وعليهم بالصبر، وأن الغنى والعزة من قدر الله، وأن الصدقات والإحسان نعمة وفضل من الأغنياء، ولله في خلقه شئون).
وراح يتسأل في سرّه هل لغة الوعظ التي ينطق بها أعضاء هيئة كبار العلماء لصرف العوام عن حقوقهم تشبه نصائح الكهنة في بلاد الهند لحماية الإقطاعيين؟ وهل يجوز للمعوزين الذين طحن عظامهم الفقر مناجاة الله بلسان الموجوعين؟ (يا سيدي, ما ثمن هذا العناء الذي أعانيه؟…. الجنة؟ أنا لا أريد جنتك وما ستعطيني إيّاه هناك, أعطينه الآن في هذه الدنيا أعطيني حياة بلا ديون، بلا فاقة بلا حرمان. أرني رحمتك … وأرني عدلك … وأرني رزقك؛ فأني إليها جميعاً على شوق) وهل وظيفة الأزهر تطويع الشريعة لخدمة القصر والأثرياء أم لتوضيح مقاصد الشريعة وتوجيه الأمة للمعاني الحقيقية لما جاء به الوحي وحث عليه الشرع؟
وهل تقسيم البشر إلى مفعوص ومجعوص سُنة كونية أم أرادة إلهية أم أوضاع اجتماعية، ويعز من يشاء ويذل من يشاء؟ أليس من حق الداعية أن يتسأل؟ (اذا كان نقيض الإيمان الكفر فهل ينبغي علينا فحص أسبابه ودراسة دوافعه وتحرير غايته؟ وهل الفقر والجوع كُفراً؟ وهل الإلحاد كالإيمان كلاهما يستمد غذاءه من شقاء أو نعيم الإنسان؟ وهل الزاهد الورع ينأى بنفسه عن الترف ويُقبل على القرف؟ وهل من يرتحل إلى الله منضُوياً تحت راية جهاد النفس ومسارعاً للشهوات وناقداً للأباطيل مثل من ينتمي للمقلدين ويعتصم بتلابيب الكهنة والمرشدين ويلتزم الصمت ويستحل المداهنة في وجه المستبدين؟ وهل إلحاد الفلاسفة والعقلاء والعلماء ظاهرة أم ضرورة؟ وهل الداعية العاجز عن تبرير إيمانه وتوضيح مقاصد ما يدعو له أفضل من الملحد الناقد لأدلة وجود الله؟ وهل حديث الشيوعيين عن العدالة ومحاربتهم استغلال الإقطاعيين وأصحاب رؤوس الأموال أسوء من توعية الإخوان المسلمين للعوام بدينٍ زائف يحرمهم من الحرية ويوهمهم بأن الفقر ابتلاء وأن قتل الخصوم جائز إذا كان بأمر المرشد؟ وهل ديمقراطية الأغنياء الزائفة أفضل من استبداد البروليتاريا الجامحة؟ هل العنف والإرهاب حكراً على المرتدين والجانحين أم يستخدمه الكهنة والحكام أيضاً؟ هل يجوز إلغاء حصص التربية الدينية والعقيدة في المدارس للمسلمين والمسيحيين والاستعواض عنها بدراسة المبادئ الأخلاقية والمقاصد الشرعية للأديان؟).
تلك هي الأسئلة بل وأكثر منها هو ما كان يحتشد في عقل صاحبنا ويحرضه على الكتابة للبوح والتصريح بهمومه, والتواصل مع الأغيار؛ ليخرجوا عن خرصهم، ويطلقوا صمتهم، ويعددوا اقتراحاتهم؛ فتتناكح أفكارهم، وتحبل أذهانهم بوليد يحمل البشارة ويجدد لهم دينهم. ويقول معبراً عن ذلك (حملت قلمي وأعددت أوراقي وإني لأجري مع نفسي مراجعة للموضوع وأبني له التصور، تصوراً جديداً، وإذ بي أرى رؤيا صدق، رأيت في منامي رجلاً صالحاً حسن السمت مُشرق المحيا مُقبلاً نحوي ومتأبطاً كتاب – ما كاد يقترب مني حتى بسط يمينه نحوي بالكتاب – وهو يقول لي : خذ يا أخي الكتاب).
وقد أستفاض صاحبنا في التعبير عن امتنانه واعتزازه بهذا الكتاب بوصفه المولد الأول الذي يحمل بين دافتيه هموم الداعية الغيور على دينه، وعقلانية الثائر المدافع عن الطبقات الكادحة من الشعب، والمتصوف الذي عاهد الله أن لا يكذب على الناس إذا نصحهم ولا يضن عليهم قبساً من الحقائق التي سوف يهتدي إليها بعونه وتوفيقه (إنه لا يزال وسيظل من أحب كتبي إلي وأقربها من نفسي وألصقها بروحي. ولم لا؟ أليس هو الابن البكر لعقلي وضميري؟ ألم يكن أول نشيد ثوري ردده الملايين معي. ثم ألم يكن حامل البشرى بتوالي العطاءات. أجل ولقد كان إرهاصاً صادقاً بما سيفتح الله الكريم به على من أفكار ومؤلفات من أجل ذلك كان من أصدق الأسماء له “من هنا… نبدأ).
وللكتاب قصة في غاية الطرافة تبدأ أحداثها بانتهاء “خالد محمد خالد” من كتابة السطور الأخيرة من مؤلفه الأول عام 1949م الذي عنونه “بلاد … من” ثم عدله بعد ذلك استجابة لنصيحة صديقه الأزهري السعودي عبدالله القصيمي (1907م – 1996م) الذي أختار له “من هنا … نبدأ” عنواناً للكتاب بعد انتهائه من قراءته له في صورته الخطية؛ فأسرع خالد محمد خالد في إجراءات النشر تلك التي تبدأ بعرض النسخة الخطية على الرقابة. وكانت منذ الحرب العالمية الثانية تنقسم إلى قسمين أدارة فنية علمية للتقويم وإبداء الرأي وأخرى أمنية للموافقة على النشر. فذهب الشيخ الأزهري الرقيب محمد الأسمر (1900م-1956م) إلى أن الكتاب ثوري الآراء وجيد النية ولكنه غير صالح للنشر لما فيه من اجتراء وجراءة. أما توفيق صليب مدير الرقابة فقد أفصح عن أعجابه بالكتاب ومع ذلك فلم يكن في استطاعته تجاهل تقرير الرقيب المتخصص الذي جاء فيه الكثير من الملحوظات والمخاوف التي تحول بينه وبين النشر.
وعاد خالد محمد خالد إلى منزله حاملاً عشرات التساؤلات عن علة هذا التحكم وذلك الاستبداد وتلك السلطة التي تحول بين الفرد وحرية البوح والتعبير. وشاءت الأقدار أن يتغير الرقيب ويتعين عوضاً عنه الدكتور يحيى محمد عمر الخشاب أستاذ اللغة الفارسية, فعرض صاحبنا عليه الكتاب فأجازه ونال أعجاب زوجته الدكتورة سهير القلماوي (1911م -1997م) التي أثنت على أسلوب مؤلفه ومنهجيته في المعالجة، ففرح المؤلف بالموافقة على النشر فذهب لفوره إلى مطبعة (دار النيل) ثم دفع به إلى جريدة المصري للإعلان والتوزيع، ومرت عدة أيام دون أن تباع نسخة واحدة؛ فاحتال المؤلف على ذلك؛ فكلف أحد أصدقائه الدراعمة ويدعى “محمد حسن البري” بكتابة مقالاً نقدياً بذيئاً عن الكتاب بعنوان (كتاب أثيم .. لعالمٍ ضال) ونشره في مجلة (منبر الشرق) مقتفياً بذلك حيلة الفيلسوف الإنجليزي “برنارد شو” (1856م -1950م)؛ ليروج للكتاب ويلفت أنظار القرّاء إليه.
وبالفعل؛ نشر المقال وجاء مفعم بالقدح وشاغل بالاتهامات التي تزج بمؤلف الكتاب في زمرة المجدفين والمجترئين. وأعجب على الغاياتي (1885م – 1956م) رئيس تحرير المجلة، بما جاء في المقال من سباب ولعنات غيرةً على الإسلام الذي زعم كاتب المقال أن الكتاب شاغل بالطعن في الإسلام وشيوخ الأزهر.
ولم يحاول الغاياتي التثبت أو مراجعة الكتاب المزعوم بل استشط غيظاً، وراح ينشر المقالات النقدية عن الكتاب المجهول الذي لم يقرأه نقاده. وجاءت المقالات الناقضة بطبيعة الحال أكثر قدحاً وسباباً وتهويلاً وتلفيقاً عن سابقتها.
ولم يكتف الغاياتي بذلك بل تقدم ببلاغ للنيابة العامة جاء فيه (أن الكتاب قد خالف المادتين (161و171) وذلك بالتعدي على الدين الإسلامي؛ وخالف أيضاً المادة (174) بدعوته إلى تغيير النظم في الهيئة الاجتماعية بالقوة والإرهاب؛ وخالف كذلك المادتين (171و176) بتكدير السلم العام وإفشاء الفوضى في المجتمع من قانون العقوبات آنذاك) اعتراضاً على نشر الكتاب الذي لم يقرأه. كما قدمت لجنة الفتوي بالأزهر ببلاغ مماثل وطالبت بمصادرة الكتاب والتحقيق مع مؤلفه دون أن يتبينوه.
وبالفعل قامت النيابة بدفع البوليس إلى مصادرة الكتاب من باعة الصحف, واستدعت خالد محمد خالد لسؤاله عما نسب إليه من اتهامات. وفي مكتب النائب العام سأله المحقق عن قوله فيما نسب إليه من ترويج للشيوعية والطعن في ثوابت الدين والتسفيه من الفرائض مثل (الزكاة) وشتم علماء الأزهر، فأجاب خالد محمد خالد: استخرج يا سيدي من الكتاب عبارة واحدة تفيد الادعاء الأول، أما الحديث عن الزكاة فجعلتها ضريبة تحصلها الدولة وليس صدقة يدفعها من يشاء، ومن لا يشاء يمتنع عنها.
(وللحديث بقيّة)
بقلم : د. عصمت نصار