Share Button

كتب الدكتور كمال الحجام 

يمثّل تمهين المدرّسين رهانا تربويّا هامّا تمحورت حوله جلّ المساعي الإصلاحيّة التّربويّة في البلدان الغربيّة خلال العقدين الأخيرين ، ويستمدّ المشروع التّمهيني وجاهته في تونس اليوم من ضرورة العمل على تجديد معاني الرّسالة التّربوية وتطوّر وظائف المدرسة كما تفرضها المقتضيات الحاليّة. فالمؤسّسة التّربويّة اليوم لم يعد ينتظر منها المجتمع التونسي في سياقه الاجتماعي والثقافي والاقتصادي الحالي مجرّد القدرة على توفير حقّ الالتحاق بالدّراسة الذي أصبح بدوره اليوم محل تساؤل، بل تتمثّل أهمّ انتظارات أفراد المجتمع التّونسي من المؤسّسة التّربويّة تجسبما واضحا ومهيكلا لمبدإ الإنصاف التّربوي الذي يضمن حقّ النّجاح لجميع الوافدين على الدّراسة.. وتبعا لذلك يفسّر السّعي الجادّ في تونس اليوم من قبل النّظام التّربويّ إلى تمهين الفاعلين التّربويّين على اختلاف أسلاكهم بأسباب عديدة لعلّ أهمّها:
– مراهنة السّياسة التّربويّة على توفير حقّ التّعلم وحقّ النّجاح لجميع الوافدين على المؤسّسات التّربويّة، وذلك سعيا لمواجهة ظاهرة الفشل المدرسي بمعياريه المتمثّلين في الانقطاع عن الدّراسة ، كما يتجلّى ذلك على المستوى الوطني، وفي تدنّي نوعيّة مكتسبات المتعلّمين، كما يظهر ذلك في مستوى التّقييمات الدولية لكفايات المتعلّمين،
– تغيّر ظروف عمل الفاعلين التّربويّين وتغيّر أدائهم المهني وعدم قدرتهم على تطوير النتائج المدرسيّة الحاصلة.
ولمزيد فهم المقتضيات المعقولة لرهان التّمهين في المنظومة التّربويّة التونسيّة اليوم وفي هذه المرحلة التّاريخيّة الدّقيقة، يمكننا التّوقّف منهجيّا على أهمّ الأسباب النّاضمة للممارسة التّربويّة عامّة، لنذكر منها خاصّة:
• تغيّر الصّلة بالمعرفة، وهو واقع تربوي يقتضي التّمهين:
تتغيّر صلة المتعلّمين بالمعرفة تبعا لتغيّر طبيعتها ولتجدّد انتظارات المجتمع من المؤسّسة التّربويّة عامّة، ويمكّننا مفهوم الصّلة بالمعرفة من تفسير ظاهرة الفشل المدرسي خاصّة بعد تعميم نشر التّعليم. فهو يساعدنا على فهم المسار التّعليمي للمتعلّمين المنحدرين من أوساط اجتماعيّة مختلفة وتشخيص أسباب تدنّي النّتائج المدرسيّة. فإذا كان مفهوم الصّلة بالمعرفة يشير إلى المعنى الذي يعطيه المتعلّم كذات منفردة ثم كذات اجتماعيّة إلى المعرفة وبالتّالي إلى المدرسة، فإنه يطرح ضمنيّا قضيّة معنى المعارف المتداولة بالمؤسّسة التّربويّة ، وهي قضيّة ترتبط في نظرنا بالفعل التّربوي في جوهره . فالمهنيّة المنشودة في المجال التّعليمي تقتضي أن ينتظم المشروع التّربوي بما يجعل المتعلّمين يعطون معني لتعلّماتهم فيقبلون على المدرسة بأكثر رغبة. وهو أمر يفترض في رأينا البحث عن تطوير الممارسات التّربويّة بما يبعد الممارسين التّربويّن عن تمرير المعارف الجاهزة وتمكين المتعلّمين من بناء معارفهم وفهم معانيها في إطار وضعيّات تعلّم ذات دلالة.
• تطوّر امتداد فترة الدّراسة وارتباط المؤسّسة التّربوية بسوق الشّغل، سمتان بارزتان لضرورة التّمهين:
أصبحت المدّة الزّمنيّة التي يقضيها المتعلّم في المدرسة تطول نسبيّا مقارنة بما كانت عليه في السّابق، وتفسّر هذه الظّاهرة بالحاجة الماسّة في هذا العصر إلى التّخصّص الذي يتطلّب تكوينا طويل المدى. ويفترض هذا الوضع العالمي الجديد مزيد العناية بجودة المردود الدّاخلي للمؤسّسات التّربويّة التي لا نخالها تتحقّق بمعزل عن تطوير الكفايات المهنيّة للفاعلين التّربويّين في إطار تغيّر رسالتهم التّربويّة.
وتعتبر مسألة ارتباط المؤسّسة التّربويّة بسوق الشّغل ظاهرة جديدة تفسّر بتجدّد ترقّبات الأولياء من المدرسة، فدور المؤسّسة التّربويّة لم يعد ينحصر في تمرير المعارف والإرث الثقافي السّائد، بل أصبح يهتمّ خاصّة بالإعداد للحياة النّشيطة وتأهيل المتعلّمين وتطوير كفاياتهم للاندماج في مجتمعاتهم بنجاح.
• تعقّد العمل التّربوي يفترض عملا تشاركيّا بين مختلف المتدخّلين، وهو وضع جديد يقتضي ضرورة التّمهين:
يستوجب الواقع التّربوي اليوم لمواجهة تحدّيات القرن الحادي والعشرين تضافر جهود شركاء المؤسّسة التّربويّة وتقاسم الأدوار بينهم. وهو واقع تربوي جديد نجد صداه في القانون التوجيهي للتّربية والتّعليم المدرسي من خلال إجراءين هامّين على الأقلّ وهما “مشروع المدرسة” و “مجلس المؤسّسة”. ويتطلّب العمل التّشاركي الذي أصبح ضرورة ملحّة تفرض على الفاعلين التربويين الانفتاح عن الآخر وبناء استراتيجيّات تعاون تتطلّب دون شكّ كفايات مهنيّة جديدة لم يفرزها الواقع التّربوي قديما.
ويبدو أن تقاسم الأدوار بين المدرسة والعائلة في إطار هذا العمل التّشاركي، ينبني بين الطّرفين على التباس جوهري. ففي حين تفوّض العائلة المدرسة للقيام بالتّربية والتّعليم في نفس الوقت، تمنح المؤسّسة التّربوية ضمنيّا للعائلة دور الشّريك الرئيسي في عمليتي التّربية والتّعليم في وقت نشهد فيه تناقص مساندة العائلة لأسباب عديدة. ولتجاوز ذلك يفترض في رأينا أن يعاد تأسيس العلاقة بين هذين الشّريكين الرّئيسيّين، ولا نخال ذلك ممكنا في غياب كفايات مهنيّة مستوجبة للفاعلين التّربويّين تؤهّلهم للاضطلاع بمثل هذه المهمّات التّربويّة الجديدة. وتتوقّف مسألة بناء هذه الكفايات على تأسيس استراتيجيّة تكوين تسمح بالاستجابة الواعية واللاّمشروطة لمثل هذه المتطلبّات التّربويّة المعاصرة.
وخلاصة القول تبيّن مختلف هذه الأسباب مجمّعة مدى معقوليّة التّمهين في المنظومة التربويّة التي تراهن صراحة على تحسين جودة مردودها، كما تؤدّي بنا كلّ هذه الظّروف إلى التّفكير في وضع استراتيجيّات تكوين لكافة الفاعلين التّربويّين تكون كفيلة ببناء تمشّ تمهيني،. فالتّمهين إلى جانب أنه يمثّل توجّها عالميّا تسعى جلّ النّظم التّربويّة اليوم إلى تحقيقه (فرنسا، كندا، الولايات المتّحدة الأمريكيّة، سويسرا، بلجيكيا، المغرب…)، يبدو خيارا وطنيّا ورهانا تربويّا واعيا تمليه الظّروف التّاريخيّة والاجتماعيّة للمنظومة التّربويّة في فترة الانتقال الديمقراطي الحاليّة التي تعيشها تونس. وذلك لاقتناعها بأنّ الأنظمة التّربوية العصريّة ذات الأداء الرفيع تقوم على نوعيّة مواردها البشريّة”، وفي هذا الإطار “ليس ثمّة أهمّ من كفاءة الفاعلين التّربويين بالنّسبة إلى أداء المنظومة التّربويّة، وهي قضيّة تطرح أوّلا في مستوى ملامح الفاعلين التّربويّين عند مباشرته للمهنة”. ولبلوغ ذلك “تعين العمل على مزيد تمهين الإطار التّربوي على اختلاف أسلاكه.
– الرهانات الاستراتيجيّة للتّمهين:
يصنّف الأنقلو سكسنيّون التّدريس ضمن قائمة الحرف الواجب تمهينها، إذ هي من الحرف التي لا يجوز أن نملي فيها على الممارس تمشّيات عمله بصفة دقيقة ومسبقة، بل تتطلّب من الفاعل بناء الحلول المناسبة بصفة فرديّة للوضعيّات المركّبة التي يواجهها أثناء عمله. وبذلك يتأسّس نشاط المهني على تمشّيات وحلول فرديّة يسعى من خلالها إلى تحقيق أهداف سواء تحدّدها المؤسّسة أو يحدّدها المهني نفسه)، كما يتأسّس نشاط المهني على مبدإ إيتيقي وعلى استقلاليّة في أداء المهنة وتحمّل مسؤوليّة ما يتوصّل إليه. ” فالحرفة تبلغ درجة المهنة عندما تتناقص فيها عمليّات التّطبيق الآلي لقواعد محدّدة مسبقا، ويتأسّس فيها العمل على استراتيجيّات موجّهة بأهداف وأخلاقيّة تفرضها طبيعة المهنة ”
. التّمهين: مسألة كفايات مهنيّة:
لم تعد المعارف العلميّة والمعارف حول التّدريس لوحدها في رأينا قادرة على مساعدة الفاعل التّربوي على أداء مهنته، كما لم تعد القواعد البيداغوجيّة المحدّدة مسبقا قابلة للتّوظيف بصفة آليّة. فالمعارف المنبثقة من النّظريات التّربويّة، على أهمّيتها، لا تستجيب بصفة فعليّة لطوارئ الفصل، كما أنّ المهارات التي يتمّ تعلّمها بمجرّد محاكاتها لا يمكن نقل أثرها من وضعيّة إلى أخرى. فواقع الفصل الذي يتعامل معه المدرّس بانتظام يتطلّب منه التّعامل الذّكيّ والحرّ مع ضغوطاته وموارده المفروضة. ولا يمكن للمدرّس في ضوء التّغيّرات التي تطرأ على مستجدّات مهنته أن ينجح في مهامّه البيداغوجيّة إلاّ باكتساب كفايات بيداغوجيّة لا نرى مسألة الاكتساب هذه أمرا بسيطا بقدر ما يتطلب ذلك في اعتقادنا إعادة التّفكير في منظومة التّكوين الأساسي أوّلا.
يعني التّمهين أن يمتلك المدرّس كفايات بيداغوجيّة لا يمكن حصرها في معارف نظريّة حول الفعل التّعليمي ولا في مجرّد تطبيقات آليّة. فهي تدمج مجموع المعارف والمهارات والمواقف في سبيل إيجاد حلول مختلفة لوضعيّات غير منتظرة. ويعني تمهين المدرّسين بهذا الشّكل ضمان الوساطة المعرفيّة التي تيسّر امتلاك المعارف التي ينتجها المختصّون من قبل المتعلّمين. وبذلك يعرّف التّمهين في هذا البعد على أنّه تمشّ تكويني يمكّن المدرّسين من التّحكم في المعارف المدرسيّة وكيفيّة تنظيم عمليّة تعلّمها من خلال وضعيّات تعليميّة مناسبة.
ويتميّز المهني عن غيره من الحرفيّين بقدرته على التّكيّف مع تنوّع الوضعيّات المهنيّة التي تعترضه موظّفا معارفه المختلفة حول الفعل التّعليمي، فهو الخبير في الممارسة العمليّة، القادر على تشخيص واقعه المهني، المفكّر في تطبيقاته، المحلّل لفعله التّعليمي، المتأمّل في استجابته لمتطلّبات مهنته. وبذلك يعني التّمهين “التّفكير في الوضعيّات البيداغوجيّة وبناء الكفايات الضّروريّة لذلك. كما يعني أيضا استباق التطوّرات الضّروريّة للمهنة وإعدادها.” (Perrenoud, 1995). واعتبارا لذلك يصبح التّمهين ” ليس مجرّد دعاية جارية، بل هو ضرورة تحتّمها مستلزمات المهنة، فهو يعني أساسا الوعي بالتّرقّبات الجديدة التي ينتظرها المجتمع من المؤسّسة التربويّة” (Perrenoud, 1995). فإذا سلّمنا بأنّ التّحكّم في الوضعيّات البيداغوجيّة الطّارئة في أداء المهنة لا يمكن مواجهتها بالشّكل المطلوب إلاّ بتوظيف كفايات مهنيّة من قبل الفاعل التّربوي،
* التّمهين هويّة مهنيّة جديدة:
شهد الحقل التّربوي خلال العشريّتين الأخيرتين تطوّرا جوهريّا تحوّل بمقتضاه مفهوم الفعل التّربوي من صناعة حرفيّة تعتمد التّطبيق الآلي لقواعد مهنيّة محدّدة، إلى مهنة تتطلّب كفايات تمكّن من مواجهة الوضعيّات التّربويّة المتنوّعة. وتفترض هذه الهويّة المهنيّة الجديدة مساهمة الفاعلين المهنيّين في بناء ثقافة مهنيّة جديدة لا تتحدّد مسبقا بمعايير مهنيّة موضوعة ومضبوطة بمعزل عنهم. فالهويّة المهنيّة المقصودة في إطار حركة تمهين الفاعلين التّربويّين عامّة، تتجاوز التّفاعليّة الكلاسيكيّة الهادفة إلى جعل الفاعل التّربوي يستبطن ما يملى عليه من قواعد مهنيّة وضعت في غير السّياق الذي يعمل فيه، وتتأسّس على رؤية جديدة تعترف بالكفايات المهنيّة، هي الكفيلة بإنتاج الأداء المهني المناسب للسّياقات المهنيّة المتعدّدة التي يوجد فيها. فالمهني ليس من يطبّق الأوامر والتّعليمات، بل هو المنتج لها بهدف توظيفها لحلّ الإشكاليّات المهنيّة المختلفة.
* التّمهين تثمين اجتماعي جديد:
تتغيّر الظروف الخاصّة بالفعل التّعليمي عامّة، وتتغيّر تبعا لذلك المكانة الاجتماعيّة للفاعلين التّربويّن. لقد أصبح الفعل التّربوي اليوم يمثّل وساطة اجتماعيّة وثقافيّة ومعرفيّة. وفي هذا الإطار يتبيّن أنّ التّمهين لا يعني مجرّد إدخال عناصر جديدة في مهنة التّعليم، بل يعني وجود تغيير عميق لكلّ ظروف الفعل التّعليمي. فالتّمهين تغيير في الهويّة المهنيّة والثقافيّة لكافة الفاعلين التّربويّين، بل هو من بين ثوابت منحهم المكانة الاجتماعية الرائدة في مجتمعهم على نحو تمكينهم من بناء مجموعة مرجعية مهنية قادرة ان تتبوأ المكانة الارفع ضمن مختلف المجموعات المرجعية المهنية الاخرى داخل المجتمع…
في تونس اليوم واكثر من اي وقت مضى، تراهن المساعي والجهود الوطنية على كسب رهانات استراتيجية يتوقف جلها على ارادة التغيير والقدرة عليه، فالاصلاحات الهيكلية الكبرى في المجتمع التونسي تستند ضرورة وترتبط جدليا بإصلاح هيكلي للمنظومة التربوية..ولعل إصلاح هذه الاخيرة يمر وجوبا بقناعتنا بتمهين الموارد البشرية وتأهيلها وفق المقتضيات الجديدة للتمهين. هذا التمهين الذي يبقى الرهان الاهم في مكونات المنظومة بل هو محركها الاساسي بما يهيء بشكل منهجي للتعامل مع كل المستجدات التربوية…
د/ كمال الحجام
السّبت 31 أكتوبر 2020

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *