Share Button

بقلم : د. عصمت نصار

 

يمضي المحقق في أسئلته والتهم المنسوبة إلى المؤلف الذي أستأنف بدوره في الرد عليها قائلاً:

وقلت إن الدين ضرورة وليس ظاهرة كما يزعم الشيوعيون, ولم أسخر أو أتهكم على العلماء كما أن الأزهر لم يتهمني بالمروق بل بعض أفراد لجنة الفتوى. أما وصفي لهم بالكهنة؛ فإنني لا أقصد علماء الدين بل المتعالمين منهم الذين يشوهون الدين كما فعل كهنة الهند والفرس.

أضف إلى ذلك كله أنني لم أحرض على الانقلاب ولا تهييج الرأي العام ضد الحكومة فأبتسم المحقق. ثم أحالت النيابة نتيجة التحقيق إلى المحكمة التي جعلت جلستها سرية خوفاً على المتهم من تطاول عصابة من شباب الإخوان المسلمين الذين احتشدوا للنيل منه. وخلال المحاكمة التي ترأس قضاتها المستشار حافظ سابق رئيس محكمة مصر الابتدائية. أنبرى عبد المجيد نافع محمود المحامي (1893م-1971م) للدفاع عن خالد محمد خالد قائلاً: أن موكلي يستحق وسام لتأليفه لهذا الكتاب لما يحتويه من حكمٍ وجوامع الكلم. وأن الاتهامات الموجّهة إليه لغو عوام وبهتان وأفك حرام.

وأختتم مرافعته قائلاً: (إني أرى شبح الحكومة الدينية التي حذرنا منها هذا الكتاب يلمع في الأفق). وأستأذن المؤلف القاضي طالباً منه أن يعقب على ما جاء في محضر التحقيق قائلاً: أن النيابة تتهمني بالشيوعية..! صحيح أنني طالبت بالتغير الشامل .. لكنني اشترطت أن يجئ التغيير من أعلى – أي من الدولة – .. والدولة لا تثور على نفسها, ولا تقود انقلاباً ضد نظامها. كذلك استنكفت أن يجئ التغيير من أدني. وذلك على عكس مما تنادي به الشيوعية. لأنها ترى أن التغيير الذي يجيئ سلميا, وبلا ثورة دمويّة لا يلبث أن يزول .. وشكراً يا سيادة الرئيس.

 ثم قررت المحكمة الافراج عن الكتاب وبراءة مؤلفه ممّا نُسب إليه. وجاء في حيثيات الحكم أن في هذا الكتاب تمجيداً لدين الله ودفاعاً عن حقوق الشعب. (إنّ المؤلف لم ينكر ركنا من أركان الدين، ولم ينتقص من قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال صراحة، إن مقام الرسالة أرفع مقام، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحس إحساسا واضحاً بمهمته ويعرفه حق معرفة وهى أنه هادي وبشير، وليس رئيس حكومة ولا جباراً في الأرض، وهو مؤيد كذلك بقوله سبحانه وتعالى: «وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا».

كما أن المؤلف لم يطعن في الدين ذاته، ولم يجحد آيات كتاب الله وسنّة رسوله، ولم يخرج فيما كتب عن حد البحث العلمي والفلسفة.

 إنه لم يجحد كذلك فريضة الزكاة، ولم ينف أنها ركن من أركان الدين، ولم يحقّر الصدقة بل رفض الربط بين حقوق المعوزين والفقراء في الدولة وبين التبرعات والصدقات فقط، وقال إنه لا يمكن معالجة حقوق الشعب في الحياة بالصدقات. ولم يروج المؤلف للشيوعية ولم يحرّض الجمهور على الأغنياء بل استعرض الحالة الاجتماعية في البلد ونقض منها ما رآه خليقا بالنقض وحسّن ما رآه حسن، لقد نقض المرجعية الاقتصادية والرأسمالية، وأفصح عما تعانيه غالبية الشعب من فقر وحرمان وما بدا عليها من تذمر، بينما قلة من الشعب تنعم بالثراء الوفير.

وأضافت الحيثيات، أن المؤلف أورد في كتابه ما يراه من ضروب الإصلاح ودعا إلى الاشتراكية الرشيدة، وقال إن هذه الاشتراكية هي التي تحقق العدالة الاجتماعية.

وقد نشرت جريدة المصري ملخصاً لحيثيات الحكم الأمر الذي أثار ضجّة وغضب بين المثقفين الذين قرأوا عن الكتاب واضطلعوا على الاتهامات والطعون التي وُجهت إليه, والصفات التي لحقت بمؤلفه, فتوالت مقالات القدح والسباب من أعلام الكُتاب المحافظين آنذاك: ومنهم الشيخ محمود شلتوت (1893م-1963م) على صفحات جريدة المصري مقالاً بعنوان (هذا الكتاب يلقي ثلث القرآن في البحر). وزعم الاستاذ أحمد الشايب (1869م\؟؟؟) أن المؤلف عميل للسفارة الروسية وبوق للثورة البلشيفية.

أما الشيخ حسنين محمد مخلوف (1890م -1990م) فقد ادّعى أن الكتاب من تأليف أحد المستشرقين الأمريكان وأن السفارة الأمريكية قد منحت المؤلف عشرة ألف دولار أمريكي لتنسبه إليه لإحداث ضجة وشغب بين المثقفين المصريين. وعلى مقربة من ذلك ذهب كل من عبد الحليم البكاتوشي في مقال “حول من هنا نبدأ ” على صفحات (منبر الشرق) ومحمد يوسف دياب مقال “من هنا إلى الحضيض “، وحسن محمد مصطفى مقال “يريد أن يعصف بالمجتمع” ومحمد نبيه الغرباوي مقال “أهي مؤامرة على الإسلام” ومحمد عبد الله السّمان (1917م – 2007م) مقال “حول كتاب من هنا نعلم” والشيخ صالح العشماوي “مقدمة كتاب من هنا نعلم “. وعلى الجانب الأخر أعرض كلاً من كامل الشناوي وسلامة موسى ومحمد الخطاب وإسماعيل مظهر (1891م-1962م) وجميعهم دافع عن حرية الفكر والتعبير ووصفوا المؤلف بأنه ثائر مجدد وأن خصومه اعتادوا على مهاجمة المجدّدين والمبدعين.

أمّا أكابر المناظرين وأرباب المعارك الفكريّة فقد عكفوا على قراءة الكتاب لنقده وتحليله والوقوف على مقاصده راغبين عن أقوال المادحين والقادحين, فكتب الشيخ محمد الغزالي كتاب “من هنا نعلم” الذي صدر في أكتوبر 1950م، وذكر فيه أن كتاب من هنا نبدأ امتدادٌ للحملة التغريبية التي شنها غلاة المستشرقين على الإسلام وهو على شاكلة كتاب الإسلام واصول الحكم ل “على عبد الرازق” الذي صدر عام 1925م وها هو خالد محمد خالد يسير على نفس الضرب (وقد أحزننا أن وجدنا فيه من الشطط والخلط, ما يمرق بالناس عن الإسلام لو بدئوا الفهم والإصلاح من عندها كما يريد الأستاذ … لذلك نحن نتلقف الشبه والاعتراضات والأوهام, ونتركها تضطرب وتسعي. ثم نقذف بينها بالحق الذي أنزله الله … أما نحن فسنكتفي بتمحيص الحقائق في كتابنا).

وحسبي أن أذكّر أن الغزالي كان رفيقاً لخالد محمد خالد أثناء التقائهما في جماعة الإخوان المسلمين ومع ذلك قد طالب في مقدمة كتابه بضرورة رجوع شيوخ الأزهر عن حكمهم على خالد محمد خالد بسحب العالمية منه حتي لا يقال أن الأزهر يكيل بمكيالين، فهناك العديد من مجترئين لم يعاقبهم الأزهر بنفس العقوبة.

أما الشيخ عبد المتعال الصعيدي (1894م – 1966م) فقد ذهب إلى أن شيوخ الأزهر قد اعتادوا على محاربة أهل الرأي من المجددين, فليس من الغريب أن نسمع منهم ما يشيعونه عمّا في الكتاب ونوايا المؤلف, وذلك لأن الكتاب لم يأت بجديد وأن صاحبه لم يفعل سوى توصيف الواقع, وأن الهموم التي يحملها صرير قلمه لا تعدو أن تكون صرخات لا جدة فيها ولا مشروعاً إصلاحياً خليق بالدراسة. وصرح بذلك في كتابه “من أين نبدأ” ويقول (فإن الأستاذ الفاضل خالد محمد خالد ألف كتابه (من هنا … نبدأ) ولم يكن يتوقع أن يهتم الناس به إلى الحد الذي يظفر به, كما لم يكن يدري ماذا يسميه, فقد كان يسميه قبل هذا (بلاد من) وشتان بين الاسمين, لأن موضوعه مقالات لا تهدف إلى غرض واضح, وليس فيها جديد تهدف إليه, وتستحق به اسماً واحداً لا يتعداه.

ولولا تلك الضجة التي أحسن بها أناس إلى هذا الكتاب من حيث يريدون الإساءة إليه؛ لمضي حديثه كما يمضي حديث كل كتاب لا يهدف إلى فكرة جديدة، وليس فيه من عمق البحث ودقته ما يستحق كل هذا الاهتمام الذي ظفر به، فهم أولاً لم يحسنوا مناقشته؛ لأنهم تربوا على مناقشات لفظية مألوفة لهم؛ فإذا تجاوزوها إلى غيرها بدا ضعفهم فيه، وظفر نقصهم واضحاً لكل الناس، فيضعف بهذا ما يدعون إليه، وإن كان حقاً، ويقوي ما يدعو إليه غيرهم وإن كان باطلاً.
وهم ثانياً حين أحسوا بأن مناقشتهم للكتاب لا توصلهم إلى مطلوبهم لجأوا إلى السلطة القضائية لتعينهم عليه، فجاء حكمها على غير ما يريدون، وظفر الكتاب وصاحبه بهذا عليهم، وبدا بهذا الظفر بطلا أمام الناس، فأهتموا به وبكتابه، وكان الفضل في هذا لأولئك الذين يحسنون إلى الشخص من حيث يريدون الإساءة إليه، ويسيئون إلى دينهم من حيث يريدون الإحسان به.

والحق أن الإسلام لا يعرف في الدعوة إليه سبيل اللجوء إلى السلطة القضائية؛ لأنه من القوة بحيث يفحم خصمه بالدليل الواضح، ويتغلب عليه بالحجة الناهضة. فلو دعونا مؤلف كتاب “من هنا نبدأ” إلى مجلس بين أهل الأزهر الذين ينتسب إليهم، وجادلناه فيما جاء في كتابه بالتي هي أحسن، لاتفقنا وإياه على الحق فيه، ولعرف الناس السبيل الصحيح الذي يجب أن يسلكوه في أمره، ولم يمض الكتاب كما يمضي الآن لا يعرف صاحبه من أمره شيئاً، ولا يعرف الذين فتنوا به من الناس حقيقة فتنتهم.

وأني لا أسئ الظن بعقيدة صاحب هذا الكتاب، وإنما أرى أنه قصد الحق فأخطاءه، وأخالف في هذا سبيل الذين يردون عليه وعلى أمثاله ممّن يقصدون الحق فيخطئون، فانهم يفترضون سوء النية فيهم عند الرد عليهم، فيجافي ردهم الإنصاف، ولا يصلون به إلى ما يقصدون من رد المخطئ إلى الصواب).

وانتهى عبد المتعال الصعيدي إلى أن الكتاب – من هنا نبدأ – لا يمكن وضعه في قفص الاتهام أو وصف صاحبه بالمروق. والحقيقة أن الموضوعات التي أثارها لا تعدو أن تكون نقوضاً لأوضاع فاسدة لا دخل للعقيدة فيها بل هي أوهام تفشت في المجتمع الإسلامي فظن العوام أنها من الدين فراحوا يدافعون عنها.

ومن المؤسف أن نجد بعض المشتغلين بالعلم لم يتحروا الدقة في قراءتهم لما طرحه المؤلف من آراء، ولم يلتزموا الحيدة في الحكم على اجتهاد المؤلف وثورته على تلك الأوهام الأمر الذي وقع فيه “محمد الغزالي” في وصفه للكتاب.

أما “محمد فريد وجدي” فقد تناول الكتاب تناولاً علمياً لتوضيح مقاصده ومرام مؤلفه في سلسلة من المقالات على صفحات مجلة الأزهر بداية من عدد محرم 1370ه – أكتوبر 1950م إلى عدد شعبان 1370- مايو1951م وذلك بعنوان “ليس من هنا نبدأ”.

(وللحديث بقيّة)

بقلم : د. عصمت نصّار

 

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *