Share Button

نداء القلم :

(عاشت بيننا وتُدفن عندنا)

بقلم: د. مجدي إبراهيم

كان من عادة السيدة نفيسة رضى الله عنها، حبيبة المصريين، كما جاء في إحدى الروايات، أن تصوم من أول رجب حتى هلال شوال. فلّما بدأ شهر رمضان مرضت واشتدت بها العلة، فأحضروا لها الطبيب، فقال يا بنت رسول الله .. إنمّا بعثتم ميسّرين، ولا تقدرين على الصيام فافطرى.
فقالت منذ ثلاثين سنة أدعو ربى أن يقبضني وأنا صائمة. أبعد أن دنى أجلي أفطر؟ والله لن أفطر إلّا عند ربى، ففتحت المصحف وافتتحت من سورة الأنعام حتى وصلت إلى قوله تعالى : لهم دار السلام ففاضت الروح إلى العليّ العلام.
فقال سيدنا إسحاق سوف أذهب بها إلى مدينة رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه. فقال أهل مصر، والله لن نحرم منها أبداً :
(عاشت بيننا وتُدفن عندنا)
وبعدها مباشرة يرى إسحاق سيدنا رسول الله في المنام يقول له : يا إسحاق دع نفيسة لأهل مصر، لأنهم يكرمون ويرحمون بها.
فدُفنت في مقامها الذى هى فيه الآن، كانت حفرته بيدها وختمت فيه القرآن أربعة آلاف مرة.
فبقيت سيدتنا نفيسة في مصر بركة وعطاءً ومدداً يتواصل بها النور من آل بيت رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه.
وإنْ تعجب فلا أشدّ من عجبك حين ترى الرواية التي نقلت نبذة مختصرة عن ترجمة السيدة لا تهتم بتخريجها تخريجاً روحيّاً يعتمد على الذوق والتعاطف المعهود، وتكتفي فقط بنقل ما هو موجود في المقام الشريف من سيرتها العطرة، وليت الناقل كان على وعي تام يخلو من خطأ المقروء .. لا بل ينقل في روايته أخطاء داعية للأسف، لا ينبغي أن يقع فيها المحبّون.
الأصلُ في الموضوع كله هو رؤية إسحاق زوج السيدة نفيسة لرسول الله، وهو يقول له : دع نفيسة لأهل مصر يكرمون بها ويرحمون. هذا هو الأصل في الرواية كلها، وعلى هذا الأصل نروح فنلتمس تخريجاً واسع الدلالة، باقياً ما بقيت في آل بيت رسول الله الكرامة؛ فالكرم كلُّه في آل البيت، والرحمة كلها عند آل البيت، فلا يزال أهل مصر بخير يُكرمون ويرحمون ما داموا أحبّة يُوالون الله ورسوله وآل بيته.
والرحمة من المحبّة والكرم كذلك، ولولا وجود المحبّة ما كان هنالك كرم ولا كانت رحمة.
وآل بيت رسول الله أكرم الناس وأرحمهم بالناس؛ لأنهم أقدر الناس حبّاً للناس. كان يمكن ألا تكون هذه الرؤية، وألا يكون هذا المقام من الأساس، ولكن شاءت إرادة الله أن يكون لمصر ولأهلها نصيبٌ من موالاة الله ورسوله وآل بيته، وبتلك الموالاة تتحقق الرحمة، ويكون الكرم فيضاً من جود العطاء.
والموالاة محبّة خفيّة غير ظاهرة الظاهر للعيان، ولكن يُظهرها الأثر بعد فعل المأثور في الخفاء الذي يفعل في الجوانح فعله الباطن المستور.
هذه المحبّة هى الكاشفة فعلاً عن النصرة والموالاة وما سواها أضدادٌ لها لا يقيم وزناً لفعل ولا لأثر.
والسؤال الذي يُواجه المرء في مثل هذه المسائل هو : وهل يُقاس التشريع برؤية رآها إسحاق زوج السيدة نفيسة لرسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، فيجيبه فيها : أترك نفيسة للمصريين يكرمون بها ويرحمون؟
هذا السؤال قد يسأله سلفيّ أو منطقي أو حرفي أو أحد الذين ألمّوا بعبارات حفظوها وردّدوها على غير وعي بما حفظوا أو ردّدوا .. ولا يسأله محبُّ دفعته زفرات الوجد العالي للتّولُّه، وتولّته المحبّة في محراب النور الشريف.
نعم يُقاس التشريع هاهنا بهذه الرؤية، بمثلها وبعينها، إذا كان التشريع كلّه قائماً على الحبّ، وعلى شرعة الإتباع (قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله) وخيرُ إتباع لرسول الله إتباع آل بيته ومحبتهم وموالاتهم، وهو إتباع موصى به من خير الورى لخير خلف فقهوا مدلول الاتباع قائماً على المحبة والموافقة والموالاة.
أمّا مُعادتهم ومباغضتهم، فهي لا تترك قربة من الله ولا تخلف صلة برسوله، ولو كان صاحبها ممّن عاشوا في الصّدر الأول، ولا تعود على المبغض إلا بخسران الدنيا والآخرة سواء.
حكم التشريع من جهة الحبّ أفعل وأقوى صلة من حكمه المُجرّد عن المحبّة، الغارق في الحرفيّة التي لا معنى لها سوى تنفيذ القشور القاحلة، والدينُ منها بُراء.
ومن يؤمن بهذه المحبّة يؤمن بالله أعلى وأرقى إيمان، ولا يودُ أن يترك إيمان المحبّة ليستبدله بإيمان مجرد عن الحبّ لا يقوّى التشريع بل تنعزل عنه الشريعة في أدق مقاصدها وأنبل غاياتها.
وسلامٌ على نفيسة العلم، سيدة السادات في محراب المُوالاة .
بقلم : د. مجدي إبراهيم
Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *