Share Button

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

لم يكن التصوف فيما وصف صاحب كتاب “الفكر الأخلاقي عند ابن خلدون” من قبل، بالذي يقضي على حيوية الأمم والشعوب كما رأى من وجهة نظر عُمرانية خلدونية، وهى رؤية، كما تقدّم، لم يقل بها ابن خلدون، ولكن المؤلف حمّلها رأيَهُ عنوةً وتعسفاً وتخريجاً ضعيفاً لا يقوم على دليل. على أننا لم نعمد إلى كتاب “الفكر الأخلاقي عند ابن خلدون” بالنقد والتفنيد في ذاته لمجرد كونه كتاباً يحشد فيه مؤلفه النقائض والنقائص وكفى، ولكن لأننا نراه يمثل اتجاهاً هدّاماً يسود في فترات الضعف والتدهور حتى ليكاد يقضي على كل نزعة روحية عالية، وما هو بمستطيع.  

ولم يكن التصوف كذلك تقليداً للنزعات الغربية؛ بل ولا يفهم التصوف الإسلامي خاصّة كما فهم هو من مجمل آراء بعض المستشرقين، ولا من جهود علماء الغرب ومنظريه ممّن حسبوا الروحانية ضد الحياة الإنسانية التقدُّمية؛ فكان لديهم مجرد سرحات وهم سابح في اللامعقول، تتخذ ركيزتها من الإيمان بالخوارق التي تورث التواكل وتشعر على الدوام بالانهزامية وتنزع إلى الكسل وتضرب العمل في مقتل وتفرض على نفسها الاعتقاد في الخرافات والأباطيل. وإنه لكي تتقدّم الأمم لا محالة تأخذ بأسباب الحضارة الغربية والتقدّم العلمي والثقة الدائمة بالعقل البشري لفهم أسرار الطبيعة وفك طلاسمها وكشف مجاهلها على أقل تقدير.

هذه الأسطوانة المشروحة التي خرقت الآذان من كثرة سماعها، ولم تسفر في النهاية إلا عن ضياع شبابنا وكهولنا، وتغييب الهوية العربية والإسلامية، مع أن الخلط ظاهر جداً بين مجال ومجال : مجال التصوف لا يتجاوز العلاقة الجوانيّة بين الإنسان وربّه. ولم تكن هذه العلاقة مع الله بالتي تتعارض مع العلم والأخذ بأسباب التقدّم العلمي، لأنها علاقة باطنة كامنة في الضمير والوجدان. وكل ما يَمَسُّ العمل العلمي كسب جوارح وسعي في الأرض إنْ بالخير وإنْ بالشر؛ فلئن كان الضمير فاسداً والوجدان يحمل قيماً ساقطة فماذا عساك تنتظر إلا التخلف والخراب كما هو حاصل الآن؟ وكيف يأتي العمران والبناء، والضمير فينا مفقود مسلوب لا يتنزّه عن اللوثات الساقطة والانحراف العقدي والخُلقي؟

وعليه؛ فتقليد الغرب تقليد القرود في أفكارهم ونزعاتهم كما ظهرت في المقالات السابقة ممّا شهدنا فيما استحضر صاحبنا مواقف “جب” من التراث الإسلامي، شيء يقدح في روح الآدمي نفسه ويجرّده عن قيمه ومبادئه وعن التفاعل الحركي مع وجوده الروحي. على أن الغربيين حين يذكرون روحيّة الإسلام، بل روحية الشرق كله من أقصاه إلى أدناه لا يذكرونها إلا بالسلب، ويسبقهم وصفها بالطابع الروحي. والروحية عندهم تخلف وجهالة لا اتصال بالله ولا معرفة به، فلا يزالُ أبناء الشرق كله، لا الإسلام فحسب، ينزعون في تفكيرهم تلك النزعة الروحيّة التي جعلتهم نياماً يرفلون في غطيط الجهالة ولا ينزعون في تصوّرهم للحياة النزعة العقلية القائمة على الإيمان بموجبات البحث العلمي والتقدّم التكنولوجي؛ إذ لا زالت حياتهم كلها خميرة جهل وتخلف تدور حول سرحات الوهم العابث والإيمان بالسحر والخرافة وقراءة الغيب والاعتقاد الساذج في قصص الخوارق والمعجزات.

وظل المتقدّمون والمتأخرون والمحدثون والمعاصرون يقلدون الغربيين تقليد القرود، ويردّدون من ورائهم هذه النغمة الخرساء، ولا أحد يتنبّه أن في مثل هذا الترديد نفسه ضرباً لا شك فيه من التقليد الأعمى والتفكير البالي والخوزقة الثقافية وطفولة الرأي والفكر على التعميم.

لم يعد التصوف مطية هجوم كاسح مدمر؛ لأن أكثر ما جذب الغربيين فيه إنسانيته العليا وتسامح رجاله إزاء العقائد والديانات الأخرى، وموضوعاته التي تشترك فيها مطالب الإنسان على وجه العموم. وأكثر الذين تخصصوا في كشف النقاب عن بدائع الحضارة الإسلامية من المستشرقين بدئوا من التصوف وانتهوا إليه، وقارب النوابه منهم كما فعل “ماسينيون” و”كروبان” وبعض دراسات نيكلسون وترمنجهام إلى أن يجعلوه كاشفاً لخصوصية الثقافة الإسلامية، وعلامة عليها قبل غيره من مجالات الفلسفة والثقافة والفكر الديني في الإسلام.

ومن نقائض التصوف إلى خصوصيته في استجلاء النظر إلى الشريعة وامتثالها غاية الامتثال، نقف في هذا المقال عند العبارة التي ذكرها الشعراني في طبقاته كما أوردناها في السابق (الفقهاء والصوفية) إذ لم نكن توقفنا عندها وقفة التأمل الدقيق والتحليل الذوقي غير أننا ذكرناها عرضاً في سياق الدليل.

وقد كانت تلك العبارة تقول :” إنّ الولي لا يأتي قط بشرع جديد؛ وإنما يأتي بالفهم الجديد في الكتاب والسنة. هذا الفهم لم يكن يعرف لأحد قبله، ولذلك يستغربه كل الاستغراب من لا إيمان له بأهل الطريق ويقول على وجه الذم : هذا لم يقل به أحد. وكان الأولى أخذه منه واستفادته من قائله على وجه الاعتقاد” (راجع : الطبقات الكبرى : جـ 1، ص 6).

لا حظ أولاً أن قول الشعراني حيث يردَّ قول من يذم أهل الطريق وينسب إليه عبارة : (هذا لم يقل به أحد), تجدها عبارة دالة من الوهلة الأولى عن تقليد عند قائلها في تقليد؛ لكان صاحبها يسوئه أن يرى جديداً ذا فهم جديد، فيعترض ويستنكر؛ حتى إذا كان التشريع هو بالقطع من عند الله ومقتصر عليه سبحانه وتعالى لا على سواه؛ فلا يمكن أن يأتي الولي بشرع جديد بل بالإمكان الإتيان بالفهم الجديد في التشريع الذي هو من عند الله : قطعي الثبوت قطعي الدلالة.

وهذه النقطة على التخصيص فيما أرى جوهرية؛ لأنها نفسها النقطة التي تمكّن العقل الحداثي في مقابل (العقل التراثي) بوضع الضوابط والمتغيرات لمواكبة الإنسان لتطوراته العصرية وتفتح أمامه السّعة في الفهم والتصرُّف في شئونه الدنيوية كيفما يشاء، وبغير قيود وحدود.

لم يكن الشعراني بالمخطئ بل هو مصيب في تلك الومضة البارقة إصابة لا نظير لها حين ذكر في طبقاته الموسوم بلواقح الأنوار في طبقات الأخيار : أنّ الولي لا يأتي بشرع جديد، وإنما يأتي بالفهم الجديد في الكتاب والسُّنة. ولم يكن هذا الفهم ليعرف لأحد قبله، وإنْ قابله الناس ممّن لا إيمان لهم بالاستغراب والدهشة والإذهال والاستبعاد ثم بالإنكار. وتلك أمور لا غرابة فيها لأن الفهم الجديد يقابل بمثل هذا الإنكار ويزيد.

(الوليُّ لا يأتي بشرع جديد ولكنه يأتي بفهم جديد) : عبارة في تقديري هي عبارة عبقرية، مبلغ الدلالة فيها ينقض كل ما قيل عن تجرّد الصوفية عن ملابسة الشريعة والامتثال لتعاليمها؛ وها هو أحدهم يخلق من الفهم في ميزان الشريعة خلقاً علي غير مثال سابق، ما لم يستطع غيره أن يخلقه. هذا الاعتقاد الصادق في أن الشريعة التي هى ظاهر الدين، ينبغي تحصيله والوقوف عليه لبلوغ الحقيقة التي هى باطن الشرع، فلئن كانت الشريعة هى ظاهر الدين فالحقيقة هى باطن الشرع؛ فليس ثمة فصل بين الشريعة والحقيقة ولا تباعد، لأن كلتاهما تؤدي إلى الأخرى وتتمّم الواحدة منهما الأخرى.

حقاً .. لقد كانت كبوة الدكتور محمد إقبال، رحمه الله، حين سئل عن بعض تفسيرات ابن عربي للقرآن فقال :” أنا لا أنكر عظمة الشيخ ابن عربي، ولكن التماسه معان باطنة في “قانون أمة” هو مسخ لهذا القانون”. وأنا لا أنكر عظمة الدكتور إقبال، ولكن هذه كبوةً لم يستطع أن يوظفها توجيهاً ودلالة؛ لأن الشريعة نفسها فيها فقه الظاهر، وهو معرفة الأحكام المتعلقة بأفعال الجوارح. وفيها فقه الباطن، وهو معرفة الأحكام المتعلقة بأفعال القلوب. فالتماس المعاني الباطنة من قانون الأمة (القرآن) على حد وصف “إقبال”، لا يعني مُفارقة حكم الباطن عن حكم الظاهر ولا غياب أحدهما عن الآخر، أو استحالة الجمع بينهما، بل يعني التكامل والاتفاق في وحدة قائمة تجمع بين مسلك التشريع ومسلك التحقيق. ومن هنا كان للشريعة ظاهرٌ وباطنٌ لا على معنى أن الشارع أظهر حكماً وأبطن حكماً كما يقول “الباطنية”، ولكن  على معنى أن للشريعة حكماً على المُكلَّفين من حيث ظاهر أعمالهم، وحكماً عليهم أيضاً من حيث باطن أعمالهم. وهذا هو معنى قول الصوفية إن للشريعة ظاهراً وباطناً. ولم يكن ابن عربي بمعزل عما ينهجه الصوفية في تناولهم لهذا القانون والتماس المعاني الباطنة منه.

ولا بدّ آخر الأمر أن يفترق مسلك التشريع الظاهر عن مشهد التحقيق الباطن من حيث جواز التأويل الروحي، ففي الحالة الأولى  ليس بجائز، وفي الحالة الثانية، في مقام الشهود، تنتفي المُباينة وتحل الوحدة؛ فيجوز ممّا لم يكن جائزاً في الحالة الأولى. ومحالٌ أن تكون عطايا الباطن كعطايا الظاهر سواء.

ونعودُ بعد هذه الوقفة إلى كتاب الطبقات الكبرى للشعراني؛ لنلحظ عبقرية التسمية التي أطلقها عليه بهذا العنوان : “لواقح الأنوار في طبقات الأخيار”، أو الطبقات الكبرى، فباتجاه النظر إلى العنوان : لواقح الأنوار، يقفز إلى الذهن هذا التساؤل : كيف تتلاقح الأنوار؟ وما علاقة هذا التلاحق بعنوان يحكي تجارب وخبرات بعض السادة من العارفين والأولياء؟ يظهر معنى كلمة لواقح التي ينقلها الشعراني نقلاً ذوقياً مباشراً من الدلالة الحسية الضيقة المباشرة إلى الدلالة المعنوية المفتوحة في أن كلمة (لواقح) بمعنى حوامل، جمع لاقح ولاقحة، ولاقح اسم فاعل من الفعل لقَحَ، وجمعه لواقح، ولقحت الحرب بمعنى اشتدت، وحرب لاقح : شديدة هائجة وهو تشبيه الحرب بالمرأة الحامل التي أوشكت ولادتها. ولقحت الناقة : أي قبلت ماء الفحل، ولقحت النخلة : أي تلقت اللقاح، ومثله لقح الزَّرع، ولقحت المرأة أي حملت.

ولم ترد كلمة (لواقح) في القرآن إلا في آية واحدة من سورة الحجر، الآية (22) “وأرسلنا الرِّيَاح لواقح”؛ بمعنى أن الرياح تلقح الأشجار والسحاب، تلقح السحاب فيدر الماء وتقوم بتلقيح الأشجار فتتفتح أزهارها وتنمو أوراقها. ولننظر؛ من بعدُ، إلى نقل الدلالة من ظاهرها اللفظي الحسي إلى باطنها المعنوي الروحي؛ لنجد فيما تجيزه الاستعارة مقدار ما تجوّزه لغة الإشارة الصوفية، أن ذهن الولي، إذ لا يأتي بشرع جديد، ولكنه يتلاقح مع الشريعة لقحاً أو أن الشريعة هي التي تلقحه فتمده من نورها ليستقر في أعماق وجدانه؛ فإذا هو يفهم مقاصد الشريعة فهماً جديداً قائماً على هذا التلقيح؛ فكما تلقح التجارب عقل الفيلسوف فتمكنه من التفكير العميق كذلك تلقح الشريعة عقل الولي فتزوده من أنوارها تماماً كما تلقح الرياح الشجر كأنها تثمره، أو تلقح الناقة إذ تقبل ماء الفحل، أو تلقح النخلة إذ تتلقي اللقاح أو كما يلقح الزرع أو تلقح المرأة فتحمل وتوشك على الولادة؛ فالرياح هي الحوامل بالخير والعطاء وكذلك أنوار الولي حوامل بكل خير وعطاء وإبداع على غير مثال مسبوق.

وهكذا تكون مادة (لَقَحَ) دالة من الوهلة الأولى على الفاعلية الجوانيّة الباطنة لا أساس لها في الظاهر السطحي البراني، وإنْ كانت مُشاهدها وآثارها من ظواهر الكون والطبيعة، ولكن الفاعلية نفسها عملية حيوية باطنة.

وبنظرة واحدة إلى الآية الكريمة “وأرْسَلنَا الرِّيَاح لوَاقِح” تجد هذا المعنى دالاً على التفاعل الحيوي بين مرسل ومستقبل دلالة تخليق وإبداع وإثمار نافع جديد ومفيد. دلالة فاعلية حيويّة : وأرسلنا الرياح تسخيراً لتلقيح السحاب؛ ليحمل المطر النافع والخير الوفير؛ فالرياح تلقح السحاب ليمتلئ بالمطر فيعم خيره ويتسع نفعه، وكذلك أنوار الشريعة تلقح باطن الولي : عقله وضميره وقلبه وسريرته؛ لينتج النور ويثمر الهداية ويعم النفع. وبمثل هذا التفاعل الحيوي كحركة باطنة يأتي الفهم الجديد والفتح الجديد، ويرسل أشعته الكريمة كما ترسل الرياح لواقحها بمدد من عناية الله، وكما يحدث هذا كله في تلقيح النخل وتلقيح المرآة والناقة والشجر، يحدث في المستوى الأعلى : مستوى النور بالنسبة للأولياء؛ إذْ تتلقى قلوبهم تلقيح الشريعة ظاهرة وباطنة؛ فتنتج النور كما تنتج الأزهار أريجها في مساق الطبيعة. عملية إبداع أصيلة تحاكي الطبيعة وتماشي السنن الكونية ممّا يتسع له فهم القلوب النظيفة.

وعليه؛ فالولي لا يأتي بشرع جديد ولكنه يأتي بفهم جديد هو نتيجة عمله بالكتاب والسنة. على أن هذا الفهم هو عملية خلق كاملة، إبداع على الأصالة، ولهذا تستغرب علوم الأولياء وتستنكر ممَّن لا حظ لهم لا من الشريعة ولا من الحقيقة، وهى وإنْ تكن علوم تقوم على الوهب والعطاءات الإلهية؛ فإنّ فضل الاجتهاد فيها غير منكور. ولم تكن لفتة الشعراني في هذا السّياق لفتة عارضة وهو وإنْ استوحاها من الآية الكريمة إلا أن دلالتها في سنن الكون الطبيعي ظاهرة بغير جدال. وبقدر ما يكون ذوق المتلقي فاعلاً مستشرفاً على فهم الدلالة هنا أمكنه أن يدرك أن علم التصوف تفرع من عين الشريعة، ولكنه لا يدرك هذا بمحض جهالة وعمى ولكن بمحض تبتل وانقطاع، أو بعبارة الشعراني نفسه بمحض : “تبحُّر في علوم الشريعة” حتي يبلغ منها الغاية فيصير عالماً بمنطوقها ومفهومها وخاصّها وعامها وناسخها ومنسوخها؛ بالإضافة إلى تعمقه في لغة العرب حتى يعرف مجازاتها واستعاراتها. والخلاصة هى أن كل صوفيّ فقيه وليس شرطاً أن يجيء العكس، أن يكون كل فقيه صوفيّ.

وكما يعطى الفقيه قوة الاستنباط في الشرع نظير الأحكام الظاهرة كالواجبات والمندوبات والآداب والمحرمات والمكروهات كذلك يعطي الوليّ قوة الاستنباط الظاهرة والباطنة معاً. لأن قوام القوتين اجتهاد من جهة وتوفيق من جهة أخرى، وليس إيجاب مجتهد باجتهاده شيئاً لم تصرح الشريعة بوجوبه أولى من إيجاب وليُّ الله تعالى حكماً في الطريق لم تصرّح الشريعة بوجوبه. وإذا لزم الاجتهاد للفقيه فيما لم تصرح به الشريعة من أحكام الظاهر لزم الاجتهاد للولي فيما لم تصرح به الشريعة من أحكام الباطن. والمعنى من وراء ذلك أنهم كلهم عدول في الشرع، أختارهم الله عز وجل لدينه فمن دقق النظر – على حد عبارة الشعراني – علم أنه لا يخرج شيء من علوم أهل الله عن الشريعة؛ إذ كانت هذه العلوم – كما قال الجنيد – مشيّدة على الكتاب والسّنة.

هنالك يصبح التصوف “عبارة عن علم انقدح في قلوب الأولياء حين استنارت بالعمل بالكتاب والسنة؛ فكل من عمل بهما انقدح له من ذلك علوم ومعارف وآداب وأسرار وحقائق تعجز الألسنة نظير ما انقدح لعلماء الشريعة من الأحكام حين عملوا بما علموه من أحكامها. فالتصوف زبدة عمل العبد بأحكام الشريعة إذا خلا من عمله العلل وحظوظ النفس (الشعراني : لواقح الأنوار في طبقات الأخيار؛ ص 4).

من غير المفهوم إذن بعد هذا كله أن يلغط أكثرهم بمفارقة الصوفية للشريعة؛ إذّْ ذاك يصبح لغطاً لا يقوم على دليل. وإعادة تكرار البحوث والدراسات في إبراز الصلة بين الشرع والتصوف لا يسفر عن جديد بل يسفر عن عقم فكري لأمور تم إلقاء الأضواء عليها حتى أشرقت وقتلت بحثاً وتنقيباً في القديم والحديث.

ولئن كان هنالك من الفقهاء الجدد من ينكر العلاقة بين الشريعة والتصوف فلا أقل من أن يكون إنكار الجديد كإنكار القديم سواء : يمثل عقماً فكرياً وبصيرة مطموسة قلّ أن تدرك ظاهر هذه العلاقة فضلاً عن باطنها الكامن فيها بغير جدل طويل. هذه واحدة، أما الثانية؛ فلأن نزعة التصوف حديثاً كما كانت قديماً هى نزعة استقلالية ذاتية صرفة على الأصالة، بعيدة عن حركة العمل في مجال الفقه أو في مجال التشيع، وإنْ كانت هذه النزعة قريبة كل القرب من معدن الشريعة. لم يكن رفض الشيعة للتصوف قديماً بالأمر الذي يمر علينا من غير تمحيص أسبابه وتخليص آثاره الباقية فإن الدلالة فيه أظهر من تخفى؛ لأن الشيعة لم يقبلوا التصوف لنزعته الروحية المستقلة بعيداً عن التوسُّل بالأئمة؛ فهو لأجل هذا مستقل ذاتياً عن التشيع.

وقد نصّ “ماسينيون” في احدى دراساته فقال : جاءت الشيعة الإمامة الزيدية والإثني عشرية والغلاة في القرن الثالث الهجري فانكروا كل نزوع إلى التصوف؛ لأنه يُحدث بين المؤمنين ضرباً من الحياة الشاذة (صوف، خانقاه) تتمثل في طلب الرضا من غير توسل بالأئمة الإثنى عشر، وطلب إمامة تتناقض مع ما جروا عليه من تقية.

القصد من هذا واضح جداً هو أن التصوف طلاقة روحية في الإسلام لا يلزم عنها الخنوع لقيود الفقه والاستسلام لمقومات التشيع، ولا الانقياد لأحد من سائر البشر، ولكنه يستقي أركان معالمه من روافد التجربة الصوفية نفسها كما يستقي الشاعر الأصيل المطبوع شعره من تجربته. ويستكشف ما للحق المطلق بذاته، فكل تجربة صوفية لها أركان ومعالم ربما تختلف عن التجارب الأخرى؛ بل تختلف عن تجارب الصوفية أنفسهم فيما بينهم بعضهم مع البعض الآخر. هذه الطلاقة الروحية التي يعول عليها ولا يعول على سواها هى التي شكلت استقلال الصوفي الأصيل وتميزه وتفرّده بين أقرانه ثم بينه وبين غيره من أبناء جلدته؛ فإذا كانت التجربة الصوفية هى الفيصل الفارق المميز لجعل هذا العالم قائماً بذاته فما العلاقة بين التجربة والفكر : هل تسبق التجربة العقل أم يسبقها العقل ويتقدّم عليها؟

(وللحديث بقيّة)
بقلم : د. مجدي إبراهيم 

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *