Share Button

بقلم : د. مجدي إبراهيم

النقائص أضدادٌ هدّامة تعوّل على السّلب والهدم ولا تعول على البناء والإيجاب، ولذا سميت بالنقيضة لأنها تهدم ولا تبنى، ومنها يجئ “النقض” بمعنى الإزالة أو الهدم. ومن أعجب المفارقات أن تلاحظ أن العقل الذي يُفترض فيه أنه يبني، يتضمّن في داخله جراثيم سقوطه وعوامل هدمه وانحلاله .. وتلك هى دالالة النقيضة من المؤكد خلال واقعات التطبيق.

قَوَام الدعوة إلى الله فقه سرائر وبصائر بأساليب الحكمة وإحسان الموعظة، ولا يتفق هذا مع التعصب الأعمى لدين الله والدعوة إليه على غير بصيرة.

وليس من شك عندي في أن الذين يربطون عقولهم باتجاه معين ويغلقون طريق الله على أنفسهم؛ ليتحدّثوا باسم الله، هم أكثر الناس ركوناً إلى غير الله، وَأَبْعَدَهم معرفة بفقه العقل الدعوي؛ فقه العقل الذي يدعو إلى الله على بصيرة، أو ينبغي أن يكون كذلك.

وفقه العقل الدّعوي كما يتبدَّى لنا إنّما هو فقه قلوب قبل أن يكون فقه ألسنة وحروف، فقه سرائر لا فقه حَنَاجر؛ وفقه السريرة الباطنة أولى بالاهتمام والإتباع من فقه الحنجرة الظاهرة. واستفتاء القلب أحرى بالعناية من استفتاء الناس : تُلخِّصه إشارة صادقة ومخلصة من إشارات العارفين بالله تبحث عن توجُّه القلب من وراء اللسان.

هذه الإشارة هى لأبي القاسم الجنيد – طيِّب الله ثَرَاه – حيث يقول:” مَنْ أشار إلى الله تعالى وسكن إلى غيره ابتلاه الله بالمحن وحَجَبَ ذكره عن قلبه وأجراه على لسانه. فإنْ انتبه وانقطع إلى الله وحده، كشف الله عنه المحن. وإنْ دام على السكون إلى غيره نَزَعَ الله من قلوب الخلائق الرحمة عليه، وألبسه لباس الطمع فيهم، فيزدَادُ مطالبته منهم مع فقدان الرحمة من قلوبهم فيصير حياته عجزاً وموته كمداً وآخرته أسفاً. ونحن نعوذ بالله من الركون إلى غير الله”.

عند هذه النقطة : أيجوز لنا أن نقبض عنان القلم ولا نبسطه؛ ليوالي التعبير عن صرخات ونفثات يَلتَاعُ منها الضمير؟ فمن ذا الذي لا يقرأ هذا الكلام قريبُ العهد من الله ولا يتورَّع عن الإشارة إلى الله فضلاً عن احتكار خطابه؟ ومن ذلك الذي لا يقرأ هذا الكلام ولا يتورَّع قيد أنملة عن أن يتحدّث إلى الناس باسم الله، مع ما يبدو في حديثه من طلب الزعامة والرِّيَادة والمكانة؟

حَديثُ الله للبشر شيء؛ وحديثُ البشر عن الله شيء آخر ..! إذا كان الإخلاص شرط النشاط الإنساني كله، وكان التوجُّه إلى الله هو القصد والغاية من عمل العاملين – أو ينبغي أن يكون كذلك – فإنّ “الإشارة” إلى الله هنا والسكون إلى غيره في نفس الوقت، تطعنُ في كل مَنْ يدَّعي الإخلاص لنفسه أو لدعوته. فقلَّ أن يُوجد ذلك الذي يسكن إلى الله، وهو يشير إليه على الدوام، ولا يركن إلى غيره. أقول : قلَّ أن يُوجَد ولا أقول إنه معدوم؛ فإن الغفلة عن الله والسكون إلى غيره طبيعة بشرية ليست ممَّا يَعْتصم منها سوى المعصُومين من الأنبياء، وسوى المحفوظين من الأولياء؛ ومَنْ هم على شاكلتهم مِمَّن واجهوا أنفسهم بدوام المجاهدة فى طريق الاستقامة.

وما شَرَّع الله الاستغفار والذكر والتسبيح والحوقلة والتهليل إلا لمثول الغفلة وحضورها، ثم فقدان العزم وقلة البقاء دوماً في رحاب الله على ديدن الإخلاص.

حديثُ الله للبشر شيء، وحديثُ البشر عن الله شيء آخر! إنّ الله لم يعطْ أحد توكيلاً إلهياً ليدعو باسمه كيما يحاكم به عباده. إنه تعالى الوحيد الذي خَلَقَهُم وأودعهم أسراره ووجُّهَهم في هذه الحياة ليكونوا أهلاً لتجلياته فيما يريد. إرادتُه فوق مرادات البشر جميعاً، حتى الأنبياء؛ أصفياء الله وأقرب خلقه إليه، لم يعطهم مثل هذا التوكيل وخاطبهم خطاباً علوياً أعلم في الدلالة النفسية وأحفظ لمقتضيات القلوب قائلاً لحبيبه محمد – صلوات ربي وسلامه عليه :” إنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء, وَهُوَ أعْلَمُ بِالمُهْتَدِين “.

فليس من حقه ولا من شأنه – صلوات الله عليه – أن يتدخل ليهدي من يُحبْ، إذ ليس التدبير تدبيره، ولا الأمر أمره، بل الأمر كله لله. وعليه وحده سبحانه فعل ما يريد:” إنك لا تُسْمِعُ المَوْتَىَ وَلَا تُسْمِع الصُّمَّ الدَّعَاء إذا وَلوا مُدْبِرينَ. وَمَا أَنْتَ بِهَادِي العُمْى عَنْ ضَلَالَتِهِم، إنْ تسمعُ إلا مَنْ يَؤمِنُ بَآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُوُنَ “.

إنّ مشيئة الله لقادرةٌ على تحويل النفوس وتقليب القلوب من حال إلى حال، وهى أيضاً لقادرة على جعل مَنْ في الأرض جميعاً كلهم أهل هداية وأرباب إيمان، وليس حرصه – صلوات الله عليه – على أن يكون الناس كلهم جميعاً مؤمنين، بمانع من نفاذ المشيئة التي تفعل ما تريد في الوقت الذي تريد: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنْ مَنْ في الأرضَ كُلهُم جَميعَاً، أفَأنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتْىَ يَكُوُنُوا مُؤمِنِيِنَ “.

حَديثُ الله للبشر شيء، وحديثُ البشر عن الله شيء آخر. إنّ تطبيق منهج الله لا يُفْرَض فرضاً بغير إرادة منه. ولن يستطيع مخلوق – كائناً ما كان أو من كان – أن يُصدر عن ذهنه هو تلك الإرادة التي يستولى فيها على المنهج وحده، فيزعم وهو المخلوق المحدود أنه أستوعب بلا نقص في استيعابه كل فروض منهج الله؛ ليحاول تطبيقها على أرض الواقع، ولو شاء الله هذا كله مفروضاً محققاً؛ لكان بلا عنت من عقول البشر، ودون معطيات من تصورات البشر، وبغير أن يكون البشر أصحاب توكيلات إلهية.

صحيحٌ أن الأنبياء – صلوات الله عليهم – جَاءوا للهداية حين خرجوا عن منطقة الوحي الخاصة بهم وحدهم دون سواهم، لكنهم في المجمل فَقَهُوا إرادة الله ومشيئته، وعلموا أن العباد عيَالُ الله، فيهم الشقي والسعيد، والقوي والضعيف، ومن أهَّله الله لنَاره ومن خصَّه لجنته، ومن أعطاه الإيمان ومن سلبه عنه، ومن زوَّده بسُبل اليقين ومن زعزع يقينه في غير استقرار. الله وحده أوْلَىَ بالإعالة : الخلق عيَالُ الله، والله وحده أولى بالإعالة.

إنّ تجلياته – سبحانه – على خلقه فوق أن يحيط بها محدودو العقل والبصيرة مِمَّن عساهم يريدون لأنفسهم مكانةً عند خلقه حين يتحدّثون غفلة باسم الله، أو ينسبون لأنفسهم مثل هذا الحديث.

“اَدْعُو إلىَ سَبِيِلِ رَبِّك بالحِكِمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ”: قاعدة قرآنية عليا منزّهة عن أغراض الداعين؛ فالدعوة إلى الله بالحكمة كلمة حق تخرج من لسان صدق، ولا يفترض فيها غير الحق وغير الصدق على طول الطريق، وليس يمكن أن تهدف إلى شيء بغير أن تكون هادفة إلى الإصلاح والتقويم والتهذيب في نفس صاحبها أولاً ثم من نفسه بعد فنون الدُرْبَة على الإصلاح والتقويم والتهذيب تنعكس على المجموع إشعاعاته الروحية والدعويّة ولها من الغايات أجَلَّها وأقصدها حين تخلص لله في سبيل الدعوة إليه، ولا تنتظر من خلقه شيئاً قط قلَّ أو كثُر.

فمثل هذا الانتظار نقائض تنفي خلوص التوجه، وتكشف لوثة النية والضمير، وتقدح في التجرّد لوعي الرسالة المنوطة بما هى عليه في نفسها.

وهذا هو بالضبط ما كان يفعله أئمة التصوف فيما يتضح من توجيهاتهم وتعاليمهم خلال ما دَوَّنه عنهم تلاميذهم الأقربون: التربية من أجل الإصلاح، ولكن بالكَلِم الطيّب والموعظة الحسنة.

بقلم : د. مجدي إبراهيم

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *