Share Button

بقلم : د. مجدي إبراهيم

في إطار الدعائم الأربع الكبرى (اليقين، والصبر، والجهاد، والعدالة) التي أشرنا إليها في المقال السابق، “جدلية العلاقة بين الصبر والإيمان”، وفي إطار تفعيل هذه الجدلية كحركة وجودية تأسس على الإخلاص، وبدونها لن يكون للوجود الإنساني قيمة تحكمه ولا قانون يُستخلص منه نافع لبنى الإنسان؛ إليكم جانبٌ واحدٌ فقط من عِدّة جوانب فيها التردي والنكوص إذا خلى الوجود الإنساني من القيمة التي تحكمه ومن القانون الذي يستخلص منه، وهو جانب الصّلة مع الله.

في الحديث الشريف قوله صلوات الله وسلامه عليه (تعس عبدُ الدّرهم، تعس عبدُ الدينار). ولم يكن الدرهم ولا الدينار يعبدان بركوع ولا بسجود، ولكن إشارته عليه السلام منصرفة إلى مجرّد التفات القلب إليهما. ومجرّد التفات القلب وحده إلى السِّوى يقدح في العبادة لله فيبطلها؛ فلا يصحُّ من القلب ذكر (لا إله إلا الله) إلّا بنفي ما في نفسه وحذف ما في ذاته ممّا سوى الله تعالى، ومن امتلأ قلبه بصور المحسوسات ولاحظ “هذيان العالم”، لو قال ألف ألف مرة (لا إله إلا الله) قلما يشعر قلبه بمعناها أو يتحقق من دلالاتها.

وإذا فرغ القلب من مشاركة السِّوى لو قالها مرة واحدة لوجد من اللذة ما لا يستطيع اللسان وصفه، ولهانت عليه الدنيا كل الدنيا، وتقدّم الموت في سبيل هذه الكلمة على عبوديّة الحياة اليوميّة وهوانها ومزلتها، والعيش فيها نكرة بل حشرة على هامش الوجود.

في سورة يوسف آية مباركة (90) تقول :” إنّه من يتق ويصبر؛ فإنّ اللهَ لا يضيع أجر المحسنين”. وفي الآية المباركة عند التأمل أسرارٌ عظيمة : منها أن شرط الأجر من الله تعالى أن يكون ها هنا إحسان : إحسان في التقوى، وإحسان في الصبر. نعم؛ فأنت قد تتقي وتصبر لكن في غير إحسان.

قد تتقي يوماً أو يومين أو أسبوعاً، وقد تصبر على فعل التقوى أياماً بل شهوراً، وقد تحسن في هذه الأيام المعدودة والشهور المحدودة، وقد لا تحسن، فليس من تقوى وليس من صبر !

إذا لم تستطع أن تداوم على “فعل التقوى”، وعلى ألْفة الصبر الدائم ثم على الإحسان في فعل التقوى وفي فعل الصبر، فقلَّ أن يكون لك أجرٌ في غير ضياع. إنّ الأجر الذي لا تخشى منه الضياع مشروط بالإحسان، لكأنه يُرادف العمل الدائب الموصول، ويواكب مسيرة الجهد المستمر في الطاقة النافعة نحو تغيير النفس وتحويلها من أخسّ العادات إلى أطيبها وأرضاها وأجملها في ميادين الإصلاح.

فكل عمل نافع يزكّي فعل التقوى وينميّه ثم يقويّه، وكل عمل نافع ينقل إلى النفس فضائل التقوى، مرهون بالاستمرار في الإحسان ومشروط على أساسه. فلن يُقال لك أنك رجل تقي ما لم تكن التقوى ديدناً لك وعادة، ناهيك عن قول القائلين فيك، ليس هذا هو المهم، إنما المهم أن تأتيك من الله إشارة بتقواك، وأن تدرك علامة ذلك من نفسك فيما يعترض حياتك من مواقف وأحداث.

ولن تعرف هذه الصفة فيك، ولن تدرك رضى الله عنك بها ما لم يكن فعل التقوى طبعاً لك لا تفارقه ولا يُفارقك، فإذا هو كان على هذه الطاقة النافعة من ضوابطها ومقاييسها؛ فها هنا يجوز عليها أجر المحسنين.

على أن فعل التقوى وحده كفيلٌ بموهبة الفضيلة التي هى “موهبة الصابرين”، فكأنما التقوى فعل لا يقدر عليه إلا صابر، وكأنما الصبر في جوهره طريق المتقين، وكلاهما في مراتب الإحسان على ترقي وعلى مزيد من علو الأسرار …. ثم ماذا؟ ثم انظر نفسك وقد عاقرت الآفات، فلا أنت بالذي يتقي ولا أنت بالذي يصبر؛ لأنك لم تحسن فعل التقوى ولم تحسن فعل الصبر، ولم تداوم عليهما بادي ذي بدء، فكيف تنتظر، من بعدٌ، جزاء الصابرين؟

كيف ترجو من الله أن يوقفك عن سوء عاداتك؛ لتفارقها في غير عودة؟ لكن مع هذا ثق : أنّ الذي في معيّة الله لا يُضام من مكروه آذاه، فالله قادر على خلق القوة فيه لمقاومة المكروه. وإذن؛ فلنكره أنفسنا على تطبيق دعائم الإيمان من : يقين، وصدق، وصبر، وجهاد، وإخلاص، وعدالة، وإحسان؛ كيما نكون أهلاً بالمواجهة، جديرين على الحقيقة بصفة المؤمنين.
ومن أقوال الإمام عليّ أيضاً كرم الله وجهه :” إنّ الإيمان ليبدو لمعة بيضاء، فإذا عمل العبد الصالحات نمت فزادت حتى يبيض القلب كله، وإنّ النفاق ليبدو نكتة سوداء، فإذا انتهك العبد الحرمات نمت وزادت حتى يسودّ القلب كله فيطبع عليه”.

وفي إشارة الإمام عليّ رضوان عليه : إنَّ الإيمان ليذكو بالعمل الصالح حتى ليبيض إذا واظب العبد على طريق التزكية، ولكن تلك المواظبة تتطلب سلوكاً أشار إليه ابن عربي في “رسالة الأنوار” فقد ذكرنا فيما سبقت إليه الإشارة أن المانع من تمكن ذكر (لا إله إلا الله) في القلب هو ملاحظة “هذيان العالم” وامتلاء القلب بصور المحسوسات، وهنا يتحتَّم على العارف بالله،ِّ أن يختلى ليُحقق إشباعاً روحياً كيما يخضع حريته لقيود معينة من محض اختياره. هذه الحرية لا يفرضها عليه مجتمع، ولا يمليها عليه قانون المجموع، كائناً مَنْ كان، ثم يروح ليفتش في أعماقه تلبية لنزوعه الروحي وقواه الباطنة، فلا يجد لهما فاعلية إلّا في العزلة يختارها طواعية فيُكْره نفسه على الزهد وما يتبعه من ألوان المعاناة والحرمان.

وليس هذا بالأمر الدائم في حياته، وإنما بالقدر الذي يكفى لكي يشعره هو شخصياً بأنه قد أدى فرضاً واجباً عليه وأشبع رغبة عارمة في باطنه : استفراغ قلبه لله تعالى، ولا يتمُّ له ذلك إلا بالقضاء على “الربانيِّة “، الربانيّة التي تتسلَّط عليه من الناس، ومن المجتمع، ومن نفسه، ومن كل ما هو سوى الله، وهذا ما عبرَّ عنه “ابن عربي” حيث قال :”إذا أردتَ الدخول إلى حضرة الحق … لا يصحُّ لك ذلك؛ وفي قلبك ربَّانيَّة لغيره”. إنما العزلة في الحقيقة : اعتزال الخصال المذمومة؛ فالتأثير فيها لتبديل الصفات لا للتنائي عن الأوطان. ولهذا قيل : من العارف؟ قالوا : كائن بائن، يعني كائن مع الخلق بائن عنهم بالسر.
ولا شرط لزوال الربانيّة غير شرط الخلوة المشروطة بانفراد السّر لله على القصد الدقيق من معناها اللفظي (الاختلاء). ولأبي عثمان المغربي من رجال الرسالة القشيرية قوله : من اختار الخلوة على الصحبة ينبغي أن يكون خالياً من جميع الأذكار إلا ذكر ربّه، وخالياً من جميع الإرادات إلا إرادة ربِّه، وخالياً من مطالبة النفس من جميع الأسباب؛ فإن لم يكن بهذه الصفة؛ فإن خلوته توقعه في فتنة أو بليّة.
ولتلحظ التقريب الدلالي بين لفظ الخلوة وتحقيقها بالمعنى العرفاني؛ فالخلوة خُلُوّ القلب من سطوات الأغيار : أن يكون خالياً ممّا سوى الله؛ لتجد العُرفاء، بهذه الرفعة القصدية، أقدر الناس توظيفاً لطاقة اللغة الروحية. أي والله لا شك عندي في ذلك.

ليست عزلة العارف بالله المُحَقِق مرضاً أو انطوائية نفسية عقيمة، ولكنها ضربٌ من الرقابة الذاتية على تطبيق ما ينبغي تطبيقه تلقائياً من قواعد وأحكام وفروض، خلال معرفته بأخلاق المراقبة واستلهام الضمير وما ينشط له من تطبيق عملي، يُشبع فيها رغبته الطبيعية الخالصة في أن يتحرَّر ممَّا سوى الله، عسى أن يكون بمثل هذا التحرّر جديراً بصحبة الله والأنس معه في كل حال.

إنَّ العزلة التي يتوخّاها العارف إرضاءً لرغبته ليست قدحاً في نسبته إلى المجتمع، ولا هى ركلاً لاهتماماته الاجتماعية؛ فهو إذا كان يقطع النظر عن الواقع الذي يعيش فيه، وعن الوجود المادي المحدود، فلأنه يمدُّ نظره إلى واقع آخر يتمثَّله، وإلى وجود آخر غير محدود يراه بقلبه؛ فيمعن النظر فيه حتى لكأنه يعيش له ولأجله. إنه يريد أن يتخلَّص من “هذيان العالم”. فالمجتمع الذي يلاحظه العازف غارقٌ في ضلالات هذا الوجود المادي المحدود، بكل ظواهره ومظاهره وسقطاته واهتماماته الدنيا، ومن هنا يرفض كل هذه المظاهر والظواهر والضلالات والاهتمامات التي يراها حُجُباً باطلة، يرفض البعد الحسىِّ السطحي ممّا هو ظاهر للناس؛ لأنه يشهد بعداً روحياً أعمق.

والحياة الاجتماعية ليست هى كل الحياة ولكنها بعض الحياة. والمجتمع بكل أنظمته ومؤسساته لا يعنيه من المجموع غير إشباع الجانب الحسي الرخيص، كما لا يعنيه من الفرد غير الانقياد إلى هذا الجانب وحده دون سواه، وإنْ قضى على ذاته النورانية الواعية، وغيّبَ وعيه بها، وطمس حقيقته الباطنة الأصليّة.

ولما كان العالم الإنساني غارقاً في الهَذَيَان، وفي الدعوى والضلالات التي تبعد عن المقصد الأصلي من الحياة، صار الإنسان الذي احتواه هذا العالم، وضمَّه المجتمع، وفرض عليه معتقداته وقيوده واتجاهاته، لا يعلم أنه غارق في حياة وهميِّة إلّا عندما يُفارق هذا المجتمع، وينعزل عنه ويتكشَّف له عالم آخر سواه، وإلّا حين يتخلّص من الهَذَيَان، وهنا تبدو العزلة مشروطة، لأن قصد العارف من الخلوة والابتعاد عن الناس : أن لا يكون في قلبه شريك لله، وليس المقصود مجرَّد الاختفاء والعزلة. وليس المقصود أن ينعزل الصوفي ليغتنم في انعزاله وهماً جديداً يضاف إلى أوهام قديمة متراكمة، ولكن المقصود هو التخلص من آثار الوهم المتسلط دوماً ممّا كان يرى ويحس ويشاهد من آفات ومصائب وزواجر ونواهي.

المقصود هو التخلص من “هذيان العالم”، لا الخلوة لمجرد الخلوة وكفى؛ فكم من مختلٍ بنفسه، ينقل معه العالم إلى خلوته. وكم من إنسان يحيا في المجتمع، لكنه خالي القلب من صور المخلوقات.
فإنّ المراد من العزلة – كما يقول ابن عربي – ترك الناس ومعاشرتهم، وليس المراد من ترك الناس، ترك صورهم؛ وإنما المراد أن لا يكون قلبك، ولا أذنك معهم وعاءً لما يأتون به من فضول الكلام، فلا يصفو القلب من هذيان العالم.

وواضح أن تعويل ابن عربي على سلامة “القلب” من اختراق الأغيار هو أساس ما يُقال هنا عن احتكار النمط الاجتماعي للفرد؛ فحفظ القلب عن الطوارق والخيالات الفاسدة التي يتلقاها فيما لو استسلم لهذيان العالم، هو مناط تفرُّده وتميزه واستقلاله وانتماءه لهُويَّته الحقيقية.

ففرقٌ؛ وفرقٌ كبير؛ بين أن نكون آلات يستخدمها المجتمع الذي يمثّل سلطة ضاغطة على الفرد، وبين أن نكون أصحاب قلوب متفرِّدة لا تجد لها قراراً بين أوطان الجماعات بل قرارها الوحيد هنالك على أرض الحقيقة الأصلية في الوجود الكلي العام الكامل الذي لا يمثل المجتمع إلا قطرة في بحره، وجزءً من كله، وشُعاعة من نوره الباهر العظيم.

بقلم: د. مجدي إبراهيم

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *