Share Button

بقلم : د. مجدي إبراهيم

وقفنا في المقالة السابقة عند إشارة السَّهْرَوَرْدِيّ الكاشفة: “أقرأ الكتاب بوجد وطرب وفكر. وأقرأ القرآن كأنه نزل في شأنك”.

ولم تكن تلك الإشارة إلا تجربة عاشها قائلها، فكأنما كانت بالفعل هى حياته، عاشها وتمثلها حتى الرمق الأخير، فصدرت عنه كما لو كانت قطعة من روحه، فاعلة ومؤثرة. وختمنا المقالة السابقة بفعل الطرب العلوي واللذة الروحانية تنشأ من القراءة على بصيرة؛ فكانت أبيات ابن عربي التي رأيناها فيما تقدَّم.

وقلنا إنّ الوجد والطرب والفكر مجتمعة خصائص للذاتية الخاصَّة للقرآن يتقدّمها الفهم فيأتي الطرب والوجد فيساوقا ذلك الفهم الذي تقدّم : تعرفها الحالة الروحيّة ويكتشفها في نفسه المتحقق بها، يقاربها، ويتذوقها، ويستشعر آفاقها المتسعة بين ضلوعه وجوانحه، وتكون مع ذلك كالطلاسم المُبهمات لمن لا يدرك لها معنى ولا يصيب منها تحقيقاً (ولكل درجات ممّا عملوا).

وقد يترادف الفهم تحقيقاً مع الفكر، ويقابله مقابلة الشبيه مقابلة واضحة لا غموض فيها. وبما أن الشبيه يدرك الشبيه كما يُقال؛ فالفهم يدرك الفكر ويؤدي إليه من أقرب طريق، ويمدُّ الفكر الفهمَ بأواصر القربة لا محالة؛ فما الفكر هنا إلا الفهم. وما فكر إلا من فهم، وعن الفهم تصدر حالات الوجد والطرب، ولا تصدر مطلقاً بغير فهم ولا تفكير.

فالذي يطرب لمعنى آية من آيات التنزيل هو بلا شك كان قد فهمها في السابق، فاتسع معناها لديه من كثرة التفكير فيها، فطرب لها شعوره وَوَجِدَت (من شدّة الوجد)ْ لديه قواه الباطنة.

ومن هنا جاء الوجد علامة رُقيِّ الفهم الذي يصحب حالات التلاوة على الحضور. فالوجد والطرب حالتان في باطن النفس يتقدمهما الفكر أو الفهم ولا تتقدم هاتان الحالتان على الفكر أو الفهم بوجه من الوجوه؛ فالذي يجد ويطرب لا يجد ولا يطرب من غير فهم ولا فكر، ولكنه يفهم أولاً، أي يفكر ثم يطرب لما عساه يفكر فيه، وهو لا يطرب حين يطرب لغير فهم سابق ولا تفكير متقدّم، وإلا سيكون طربه عرضاً لحالة مجهولة غير مفهومة ولا معلومة؛ لأجل ذلك كان العلم في القرآن بداهةً مقدّماً على ما عاداه، وكانت المعرفة سابقة على الوهم الذي يعجز معه الاستبصار ؛ إذْ ذاك يطرب الواجد لمعنى يحسّه في قواه الباطنة بعد أن يكون قد فهمه وفكر فيه؛ ليتسق الفكر مع الشعور فلا يوحي بتناقض يفصل الحالة عن الفكرة.

الفكرة في القرآن سابقة، والحالة لها تابعة ما في ذلك شك، ولا يحدث العكس أبداً؛ لأنه إذ ذاك يلغي الفكر والعلم والفهم وكل المُفردات التي تقوم عليها المعرفة وتستند القيم العليا للإنسان عليها، وتبطلها من أساسها، ليس هذا فقط بل وتقدَّم الجهل والخرافة والوهم والتضليل على العقل والنور والذوق والاستبصار .

تقودنا إشارة “السَّهْرَوَرْدِى” الكاشفة إلى نصِّ هو من الأهميّة بمكان سَبَقَ أن ذكرناه : كان “الزَرْكَشِي” شَرَطَهُ في “برهانه” حيث قال:” أصلُ الوقوف على معاني القرآن التَّدَبُّر والتَّفَكُّر. واعْلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي حقيقةً، ولا يظهر له أسرار العلم من غيب المعرفة وفي قلبه بدعة أو إصرار على ذنب، أو في قلبه كِبْرِ أو هوى، أو حُبّ دنيا، أو يكون غير متحقق الإيمان، أو ضعيف التحقيق، أو معتمداً على قول مُفَسِّر ليس عنده إلا علم الظاهر، أو يكون رَاجعَاً إلى معقوله، وهذه كلها حُجُب وَمَوَانع، وبعضها آكد من بعض…”.

سَبَقَتْ الإشارة إلى أن فهم القرآن هو أول ما يُقَابلنا؛ ليُشكل بجانب الحضور أركان الذاتية الخاصَّة للقرآن، وإنما المُرَادُ من فهم القرآن أن تريده وحده هو عينه المُراد من الخاصة الذاتية له، وفي تلك الخاصَّة الذاتية بشرى ورحمة:” فبشر عباد، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب” (سورة الزمر: آية 17- 18).

فإذا وصفهم – سبحانه – بأنهم أولو الألباب، كان هذا الوصف وصفاً على المدح العاقل لفهم، من جانبهم، للخاصّة الذاتية في استماع القول وإتباع أحسنه؛ فهو من جهة حدَّد الإطار النظري في كلمة “استماع القول”، ومن جهة أخرى قرن النظر بالتطبيق توخِّياً للفاعلية العملية، أعني المعاملة، أي جَعْل القول مناط العلم أولاً؛ ثم العمل والسلوك في المسارعة إلى مَحَابّ الله وتجَنّب مساخطه.

هذه إرادةُ مُغيِّرة تأتي كما لو كانت لبنة جذرية وأساسية تشكِّل ذاتية القرآن الخاصّة، إذْ تستحقُ الوصف بالهدي مدحاً غير منقوص ووصفاً بالعقل الذي هو اللب.
وذلك ضربُ لا شك فيه من الاعتقاد السَّاري في فهم القرآن على الصفة المَخْصُوصَة بذاته لا بسواه؛ ولذاته لا لغيره، من أجل ماذا..؟! من أجل “إرادة التغيير”.

ولقد سبقت الإشارة في الحضور أنه ذو دلالة على “قوة في العقل يتولد عنها ذكاءُ الذهن فيقوى الفهمُ ويستبينُ فيه اليقين، ويصفو من ثمَّ مع استبانة اليقين؛ يصفو الذكر مع قوة الفكر في آي القرآن.

واعتبرنا أن هذه الخاصَّة الذاتية التي تترتب على الحضور هى من موروثات الممارسة ومن ثمار المعاناة في ممارسة الحضور دوماً وفي غير سَهَيَان، وقلنا إن من شأنها أن تتغلغل في عمق داخلي “جُوَّانيِّ” يراها من يطبقها، لا بتعلم ولا باكتساب؛ بل بهزَّةٍ لدُنيَّةٍ مُفَاضة فيضاً من عند الله : فَيْضُ في فضل، وفضلٌ من فيض:” قُل بفضل الله وبرحمته؛ فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ ممَّا يجمعون” (سورة يونس: آية 58)،

ولم نكرر هذا المعنى من جانبنا إلا لأن شرط الحضور يرتد بداية إلى التعلُّم والاكتساب كيما يكون “الفهم” بداية معرفة بأولوَّيتها على غيرها، وأن يجيء “العلم” شروعاً في التطبيق لذاته لا لغيره، أي شروعاً في تحويل النفس من مكانها الذي اعتادت أن تقف عنده، ولا تتجاوزه ليجيء”التحويل” دليلاً على وضوح السبيل من طريق فهم القرآن.

ثم إن الدلالة الجُوَّانِيَّة الباطنة صارمة في فهم القرآن، وهى دلالة تتأتى مؤكداتها في ملكة الوعي: الوعي بالإقبال على الله بصدق، ثم ارتقاء الوعي في الرغبة لفهم كتابه باجتماع هَمِّ هو بالضبط ضد غفلات التعطيل؛ لأن التعطيل في أول مقام ضد الحضور، والحضور كذلك في أول مقام معناه إزاحة القلب عن التعطيل من طريق فعل الهِمَّة وبقاءه دوماً في حيوية روحيّة وحركة فاعلة، واستمرار هذه الحركة عاملة في وجدان صاحبها.

وحضور القلب يأتي ليكون معناه إزاحة التعطيل عن الفهم، حتى إذا ما ثُقِلَ فهم القرآن أو صعب؛ فإن مَرَدَّ ذلك إلى الوهم الذي يربض غائراً في جوف الوعي تحت ظلمات التعطيل.

هنا أشير إلى شذرة لافتة للانتباه جديرةٌ بكل آيات التأمل، هى من شذرات الأستاذ الإمام الشيخ “محمد عبده”، المجموعة عنه من قِبَل تلميذه رشيد رضا؛ تقول الشذرة المُلفتة للنظر:” إنَّمَا يُصِّعب القرآن توهُّم أنه صَعْبُ، وكلما أدخل الإنسان على نفسه الصعوبة صعُب عليه، وكلما مَكَّن نفسه من الفهم مَكَّنَه اللهُ منه”.

ولتلحظ التعطيل هنا كامنٌ في الإنسان نفسه لا في القرآن؛ (ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر ).
أي كامن في التَّوهُّم الذي يُحيط به من جميع أقطاره من جهة، ومن جهة ثانية في دخوله الصعوبة على نفسه من أجل تراكم ما استقرَّ في أعماقها من آفات وأباطيل هى الموانع الصارفة عن الفهم والحاجبة له عن مدراك الخطاب، والداخلة بالإنسان من حيث لا يشعر في مزالق التعطيل.

إذا ثقل فهم القرآن أو صَعُبَ؛ لأسباب يستشعرها ذلك الذي يجد في نفسه ثقلاً أو صعوبة؛ فالتعطيل في طليعة هذه الأسباب : تعطيل القلب عن الحضور وعن الفهم:” ولو عَلمَ الله فيهم خيراً لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون” (سورة الأنفال: آية 23).

على أن السماع ها هنا يترادف مع الفهم، وعدمه أيضاً مُرادفٌ لعدم الفهم، فلو علم الله فيهم خيراً لأفهمهم، ولكنهم لمَّا ضيَّعوا الفهم واستبدلوا به التعطيل ليجيء صارفاً من صوارف الغفلة على عادة التوهم المرذول، كانوا عن الفهم بالقطع الذي لا مرْيَة فيه عاطلين؛ وكانت:” لهم قلوبٌ لا يفقهون بها، ولهم أعينٌ لا يبصرون بها، ولهم آذانٌ لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل؛ أولئك هم الغافلون” (الأعراف: آية 179).

فمن تمام الغفلة فيهم أن قلوبهم مقفلة، وعيونهم غير مُبْصِرة، وآذانهم صَمَّة لا يسمعون بها؛ لأنهم كانوا أغلقوا منافذ السَّماع (الفهم) فحَجَبَهُم بالغفلة عن فقه الأفئدة، بمقدار ما انطمست لديهم الرؤية وأظلمت من الباطن على الحقيقة أنوار القلوب.

بقلم: د. مجدي إبراهيم

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *