Share Button

بقلم / محمــــد الدكــــرورى

أم المؤمنين ماريَّة بنت شمعون القبطية ، وهى آخر زوجات الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنجبت له ثالث أبنائه إبراهيم والذي توفي وهو طفل صغير ، وكلمة (قبط) كان يقصد بها أهل مصر، أهداها للرسول الملك المقوقس حاكم مصر سنة 7 هـجريه وكان أبوها عظيم من عظماء القبط، كما ورد على لسان المقوقس في حديثهِ لحامل رسالة الرسول إليه، ولدت مارية القبطية بنت شمعون في مصر في قرية حفن من كورة أنصنا .

هي ماريا بنت شمعون المصرية ولدت رضي الله عنها في صعيد مصر في قرية تدعى حفن الزاقعة على الضفة الشرقية للنيل تجاه الاشمونيين وقد ولدت لاب قبطي وأم مسيحية رومية وقد أمضت رضي الله عنها شبابها الباكر في قريتها الى ان انتقلت الى بيت المقوقس عظيم القبط وملك مصر.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسل حاطب بن ابي بلتعة يحمل رسالة الى المقوقس فكان رد المقوقس ، اما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت من ذكرت وما تدعو اليه وقد علمت ان نبيا قد بقي وكنت أظن ان يخرج بالشام وقد أكرمت رسلك وبعثت لك بجاريتين لهما مكان من القبط عظيم وكسوة ومطية لتركبها والسلام عليك ، ودفع المقوقس بالكتاب الى حاطب معتذرا بما يعلم من تمسك القبط بدينهم وموصيا اياه بأن يكتم ما دار بينهما فلا يسمع القبط منه حرفا واحدا وكانت الجاريتين هما ماريا وأختها سيرين .

وماريا القبطية أسلمت على يد حاطب، وهو قادم بها من مصر إلى المدينة، حين عرض عليها الإسلام، وكانت أمها رومية، ولكن من هو الصحابي الذي أرسله النبي إلى المقوقس عظيم مصر ، وما هو الحوار الذي دار بينهما ، وما الهدايا التي أرسلها المقوقس إلى النبي ؟

وما قصة ماريا ؟ وهو أنه بعد أن تم للنبي عليه الصلاة والسلام معاهدة الحديبية، وما أعده من دعائم ، لاستتباب الدولة الإسلامية الفتية، وتقوية هيبتها في النفوس، كان صلى الله عليه وسلم في الوقت نفسه ، يتحسس الموقف الدولي، ويتفهم أوضاعه، وفي ضوء ذلك أخذ النبي عليه الصلاة والسلام ، يوجه الرسل والسفراء لتبليغ الإسلام إلى ملوك الأرض، لأن رسالة الإسلام عامة لكل البشر .

ومن أولئك الملوك الذين أرسل إليهم النبي عليه الصلاة والسلام رسالة ، يحثه فيها على الإسلام ، المقوقس عظيم مصر، جاء في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه يدعوه فيه إلى الإسلام، هذا المقوقس كان من الأقباط ، جاء به حاطب حتى دخل مصراً فلم يجده هناك، فذهب إلى الإسكندرية، فأخبر أنه في مجلس مشرف على البحر، ركب حاطب سفينة، وحاذى مجلسه، وأشار بالكتاب إليه، فلما رآه المقوقس أمر بإحضاره بين يديه، فلما جيء به ،نظر في الكتاب، وفضه، وقرأه .

بعد قراءة الكتاب ، قال لحاطب ، يا حاطب ، ما منع نبيك إن كان نبياً أن يدعو على من خالفه؟ قال له حاطب: ألست تشهد أن عيسى بن مريم رسول الله، فما له حيث أخذه قومه، فأرادوا أن يقتلوه ، ألا يكون قد دعا عليهم أن يهلكهم الله عز وجل حتى رفعه الله إليه؟
هذه فطنة ، حتى استطاع أن يرجع له الكرة ، قال: أحسنت، أنت حكيم من عند حكيم ، أخطر شيء: الرسول، لأنه يمثل المرسل، وشرف الرسول من شرف المرسل ، ثم قال له حاطب: إنه كان من قبلك يزعم أنه الرب الأعلى ( يعني فرعون ) فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، فانتقم به، ثم انتقم منه، لأنه قد ورد أن الظالم سوط الله ينتقم به، ثم ينتقم منه .

فأرسل المقوقس مع حاطب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، عبد خصي اسمه مأبور والف مثقال ذهب وعشرين ثوبا لينا من نسيج مصر وبغلة شهباء اسمها دلدل وبعض من عسل بنها ، وبعض العود والمسك ، ووصل الركب الى المدينة سنة سبع من الهجرة وقد عاد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من الحديبية بعد ان عقد الهدنة مع قريش وتلقى هدية المقوقس واصطفى النبي صلى الله عليه وسلم ماريا واهدى سيرين الى شاعره حسان بن ثابت.

ولكن كيف استقبلت ماريا القبطية حياتها الجديدة حينما حلت مولاة للنبي ، وما هي الأمنية التي كانت في خواطرها ، وما الخطب الجلل الذي أصاب فؤاد أم إبراهيم ؟ أن اختارها لنفسه، وكانت شابة، وقد أنزلها في منزل الحارث قرب المسجد، وقد حاولت عائشة وضرائرها التعرف على هذه الجارية عن بعد، فعلمت عائشة باهتمام النبي بها، ولكنها لا تقدر على معارضة النبي، أو الإنكار عليه، لكنها راحت ترقب من بعيد مظاهر اهتمام النبي بهذه الجارية المصرية .

واستقبلت ماريا حياتها الجديدة بنفس مشرقة مبتهجة، حيث حلّت مولاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مولاته ملك يمينه، وليست زوجته، وإنه لشرف عظيم، وزادها غبطة وسروراً: أن ضرب عليها الحجاب كشأن أمهات المؤمنين، وانصرفت بكليتها للاهتمام بالنبي صلى الله عليه وسلم التي تراه صنو المسيح ، التي كانت تدين بدينه قبل إسلامه، فأي كرامة قد حظيت بها، حين قدمها قدر الله من بلاد القبط ، لتكون أقرب المقربات ، بقرابة الولاء للنبي عليه الصلاة والسلام .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهتم بالسيدة ماريا اهتماما كبيرا وكان كثير التردد عليها رضي الله عنها قالت عنها السيدة عائشة رضي الله عنها: ما غرت على امرأة الا دون ما غرت على ماريا وذلك انها كانت جميلة جعدة ، ولا تخفى المقارنة بين السيدة ماريا رضي الله عنها والسيدة هاجر التي كانت ايضا هبة لإبراهيم عليه السلام فاكرمها الله تعالى بأمومتها لإسماعيل عليه السلام وما ان جاء العام الثاني للسيدة ماريا في بيت النبوة الا وقد شعرت بوادر الحمل فأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسرعان ما سرت البشرى أن المصطفى صلى الله عليه وسلم ينتظر مولودا له من ماريا القبطية.

وكانت السيدة ماريا رضي الله عنها تسكن في منطقة العالية بضواحي المدينة حيث الخضرة احتراما لكونها جاءت من بلاد النيل حتى لا تشعر بوحشة وكان صلى الله عليه وسلم يسهر عليها يرعاها في حملها حتى وضعت رضي الله عنها فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لها فقال قائل: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم منطلق الى مولاته فقال صلى الله عليه وسلم: اعتقها ولدها فزارها رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتضن ابنه ثم خرج للمسلمين وقال لهم: ان الله رزقني غلاما وقد أسميته على أسم ابي ابراهيم.

وقد علمت ماريا الشيء الكثير عن هاجر التي سبقتها بقرون إلى بلاد الحجاز، بلاد الله الآمنة المباركة الطيبة، فتاقت نفسها لزيارة تلك الأماكن المقدسة ، لتحيي في نفسها معالم الوفاء والإخلاص، وألفت أن تخلو بنفسها ، لتجمع صور الماضي بواقع الحاضر، وكيف أن هاجر عند نبي الله إبراهيم، وماريا عند نبي الله محمد، وكيف أن هاجر لها ابن اسمه إسماعيل، وهي لها ابن اسمه إبراهيم؟ وكانت رضي الله عنها تواقة ، لتكون أم ولد ، ليكون لها شرف الذرية من النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم كما كان لهاجر شرف الذرية من إبراهيم عليه السلام .

واختار النبي صلى الله عليه وسلم مرضع لولده وجعل في حيازتها قطعة من الماعز كي ترضعه بلبنها اذا شح ثدياها ، وما وجد المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب ويكرم احدى نسائه حتى سارعوا بالتقول عليها ظلما وحقدا كما حدث مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فلما وجد المنافقون حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم ابراهيم روجوا لحديث افك جديد واتهموها ظلما وعدوانا مع العبد الذي ارسله المقوقس معها في الهدية وكان هذا الحديث شديد الوطأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ولم يتخل الله تعالى عن السيدة ماريا رضي الله عنها بل اتاح لها دليلا قاطعا على برائتها فقد ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم الى العبد فراه مجبوبا ليس له ذكر فعاد رسول الله فقال : انه لمجبوب ، وقال صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي يصرف عنا أهل البيت ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرقب ابنه وهو ينمو يوما بعد يوم ولكن ابراهيم عليه السلام مرض ولم يبلغ العامين من عمره .

فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمدا على عبد الرحمن بن عوف لشدة المه فحمل صغيره من حجر امه وهو يجود بنفسه ووضعه في حجره محزون القلب ضائع الحيلة لا يملك الا ان يقول في اسى وتسليم: انا يا ابراهيم لا نغني عنك من الله شيئا ثم ذرفت عيناه وهو يرى ولده يعالج سكرات الموت ويسمع حشرجة احتضاره مختلطة بعويل الام الثكلى والخالة المفجوعة.

وعن انس بن مالك رضي الله عنه قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابي سيف القين وكان ظئرا لإبراهيم عليه السلام فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ابراهيم فقبله وشمه ثم دخلنا عليه بعد ذلك وابراهيم يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تدمعان فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وانت يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا بن عوف انها رحمة ثم اتبعها اخرى فقال صلى الله عليه وسلم: ان العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول الا ما يرضي ربنا وانا بفراقك يا ابراهيم لمحزونون.

وتوفي ابراهيم عليه السلام في العاشر من ربيع الاول سنة عشر من الهجرة ثم نظر الى ماريا في عطف ورثاء وقال يواسيها: ان ابراهيم ابني وانه مات في الثدي وان له لظئرين تكملان رضاعته في الجنة واقبل ابن عمه الفضل بن عباس رضي الله عنه فغسل الصغير وابوه صلى الله عليه وسلم جالس يرنو اليه في حزن وحمل الى بيت ظئره على سرير صغير وصلى عليه ابوه صلى الله عليه وسلم وكبر اربعا ثم سار وراءه الى البقيع واضجعه بيده في قبره ثم سوى عليه التراب ونداه بالماء.

واعتكفت ماريا في بيتها تحاول ان تتجمل بالصبر حتى لا تنكأ الجرح في صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاذا عز الصبر انطلقت الى البقيع فاستروحت لقرب فقيدها والتمست الراحة في البكاء ، وقد صادف يوم وفاته كسوفا للشمس فقال الناس: انكسفت الشمس لموت ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معلم البشرية صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس صلاة الكسوف وقال: ان الشمس والقمر ايتان من آيات الله لا ينكسفان لموت احد ولا لحياته فاذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا.

وإكراماً للسيدة ماريا رضي الله عنها وابنها ابراهيم عليه السلام فقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين خيرا بشعب مصر فقال صلى الله عليه وسلم: ” انكم ستفتحون ارضا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا فان لهم ذمة ورحما ” رواه مسلم

وما أهل ربيع الاول من العام التالي لوفاة ابراهيم عليه السلام حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاشت السيدة ماريا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس سنوات عاشتها في عزلة عن الناس لا تكاد تلقى غير أختها سيرين ولا تكاد تخرج الا لكي تزور قبر الحبيب بالمسجد او قبر ولدها بالبقيع ، فعاشت مارية ما يقارب الخمس سنوات في ظلال الخلافة الراشدة، وتوفيت في المحرم من السنة السادسة عشر من الهجره .

ودعا عمر بن الخطاب الناس وجمعهم للصلاة عليها ، فاجتمع عدد كبير من الصحابة من المهاجرين والأنصار ليشهدوا جنازة مـارية القبطية، ودفنت إلى جانب نساء أهل البيت النبوي، وإلى جانب ابنها إبراهيم ، وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يحشد الناس لجنازتها ثم صلى عليها ودفنت رضي الله عنها بالبقيع.

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *