Share Button

(الإمام والتّصوّف)

بقلم : د. مجدي إبراهيم

إذا أطلق لفظة الإمام في الإسلام على الإطلاق فلا ينصرف الذهن مباشرة إلا إلى واحد أوحد هو أبو الأئمة حقيقة، وسيدهم غير منازع، إمام الأولياء، هو بلا شك الإمام عليّ بن أبي طالب، كرم الله وجهه؛ فهو بحق الإمام الذي لا يتخطاه الذهن البصير من حيث كون الإمامة لا تكتسب بالدُّرْبَة والمران والتحصيل؛ بل توهب توفيقاً من عطايا الفضل الإلهي، ولا تقوم بالحيلة ولا بالوسيلة، بل بالجعل الإلهي تحقيقاً كما في قوله تعالى: (إني جاعلك للناس إماماً).

ولا ينقض هذا وجود أناس من بين الأئمة من ينتزع مثل هذا الفضل انتزاعاً لنفسه، فيجريه اكتساباً على حياته بالقدوة والمثل الأعلى وسياسة النفس بالحيلة كما جرى في حياة النوادر بالموهبة المُفَاضة والاصطفاء المخصوص.

والفارقُ بين عطاء الفضل الإلهي وكسب المنزع البشري، هو فارقٌ بين الحقيقة والمجاز، حتى إذا أطلقنا الإمامة على الإمام عليّ ابن أبي طالب أطلقناها حقيقةً، ولم نجاوز الحقيقة في شيء ولا في صورة ولا في ملمح من ملامح حياته الظاهرة أو خصاله الباطنة، فهو إمامٌ على الحقيقة وله بالإمامة أصالة الشرف، وعراقة النسب، ونقاء الحسب، وطلاقة الروح، ومواهب التفوق فيها ومواهب الامتياز.

أمّا إذا نحن أطلقناها على غيره، فربما نطلقها ونحن في حاجة ماسّة إلى سدّ الفجوات التي يُحدثها فعل النسبة البشرية المكتسبة بإزاء مقرّرات التفوق والامتياز في المواهب المُفاضة لا في الجهد البشري المحدود، فلا يوجد عظيم من العظماء إلا ومعه لُمَّة النقص الذي يصاحب الطبيعة البشريّة في صورة من صورها أو في نحو من أنحائها، ومع ذلك فهو بالمقياس الإنساني عظيم، ولا يتجرّد من مقياس العظمة إذا نقص في صفة من الصفات، أو إذا بهت ظل من ظلال الصورة التي تكوّنت عنه بعد بحث واطلاع.

والإمام علي رضوان الله عليه، كامل في معدن الإمامة، بمقدار ما هو كامل في الفضل، كامل في الدين، كامل في العلم، كماله في حربه وسلمه، وفي شجاعته وتقواه، ولا يوجد كامل في تلك الجهات العلويّة، ويكون النقص حليفه في الملكات الباطنة أو في مواهب التفوق والامتياز، فهو الكرار فارس الهيجاء عليٌّ، الفتى الغالب، الشجاع المغوار الذي تعجز عن ضربات حُسامه شجاعة الشجعان، وهو الذي نسجت الشجاعة على منواله واستنت بسننه واهتدت بدرْبه، وهو الذي تلاقت فيه القوتان، قوة البدن وقوة الجنان، ولا عمل أقوى ولا أكثر امتيازاً من قوة الروح الباقية وفضائلها التي تستخف بكل ما هو زائل دُوُنٍ في عالم الأطماع والشهوات.

هذه القوة الروحيّة العالية هى التي أنشأت الفضل المسبوق على التحقيق في كل علم وفي كل فضل في الإسلام وفي الحضارة الإسلاميّة، تماماً كما أرست قواعد الغلبة والانتصار إبّان ظهور الإسلام ومهده الأول ثم توالى عليها تبعات النهوض بالدعوة والجهاد، وملاك الأمر كله في الكرار يومئذ ارتقاء الروح، والزهادة في الدنيا، والاستخفاف بالدُّون والأطماع، ونصرة الحق على الباطل، وموالاة الله ورسوله على الحقيقة التي تشع وتسطع كأنها الشمس في ضحاها .. ولد، رضوان الله عليه، في جوف الكعبة، ونشأ وعاش وهو ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصيه، لا تغره الدنيا بل يطويها تحت قدميه، كأنها خرقة بالية، ممتثلاً قول النبيّ عليه السلام لو كانت الدنيا تعدل عند الله من الخير جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء، إلى أن آخى النبيُّ في دار الهجرة بينه وبينه.

ولم يكن صلوات الله وسلامه عليه يكتم حبّه لعلي، ولا تقديره لشجاعته، ولا دفاعه عنه في موضع الغيرة العارضة أو موطن البغض الذي يشوب النفوس من جرَّاء الحسد والضغينة؛ بل كان معه، ومن ورائه، معيّة الأب لأبنه، يؤثره بالعطف المشمول والشفقة الرحيمة كما تجلّت في قلب أعظم نبيّ، وليس بالقليل أن يزوجه كريمته فاطمة الزهراء أحبَّ الناس إليه وسر أبيها وبضعته، وقد تقدّم لخطبتها قبله أبو بكر وعمر فردّهما رداً جميلاً مؤثراً عليَّاً الفقير التقيّ النَّقي العالم الزاهد الورع صاحب السبق في الإسلام، رغم فقره وقلة يده من وفرة الحطام وهو عليه السلام يقول (فوالله لقد أنكحتك أكثرهم علماً وأفضلهم حلماً وأولهم سلماً).

وكان الصحابة يعرفون مأثرة النبيّ لعليّ، كما يُكاشفون بمحبته له، وهو أول من تحدى صناديد الكفر فنام بفراشه ليلة الهجرة وهو يعلم نواياهم المعقودة على قتل النبي إذ ذاك، فلم يبال بقتل نفسه إذا أنقضت قريش مترقبة ثائرة.

(وللحديث بقيّة)

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

Share Button

By admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *