Share Button

بلى والله .. تكفى وتزيد

بقلم : د. مجدي إبراهيم

عندي أن التصوف في الإسلام هو البديل الحقيقي للنزعات الإرهابية المتطرفة، لأن التسامح الخالص أثرٌ مباشر من آثاره الباقية، ولأن المجاهدة التي يعتمدها المتصوفة إنمّا هى مجاهدة تُوجّه بداية ًإلى نفوسهم قبل كل شئ.

ليس التّصوف قراءة نظريّة يُفني فيها المتصوف عمره بين قيل وقال، وإنْ كانت فاعليّة القراءة عملاً ذهنياً لا يُسْتَغْنَى عنه، ولكنها في الوقت نفسه ليست هى المطلوبة في ذاتها حتى ولو كانت مُوجّهة إلى كتب الصوفيّة أنفسهم؛ فلن تكون من أهل القرب والوصال وأنت تكتفي بالقراءة في كتب الصوفية صباح مساء، لكنك بُمجرّد أن يتحوّل فيك المقروء إلى عمل حقيقي مستمر، إلى وجود، هنالك يصحُّ أن تكون جديراً بلقب صوفي.

وفي المقابل أيضاً ليس بصوفي من يستغني عن المعارف النظريّة أو يستغني عن التوجُّه المعرفي الذي من شأنه أن يمنع الجهالة ويدحر الركود الذي يسبب البلادة العقليّة؛ لأن الصوفي من هذه الجهة طالب علم فوق كونه طالب تصفية؛ ولأن التصفية تحتاج إلى استبصار لإزالة غشاوة الباطن، فلا بدّ من بصيرة تهيؤ المطلوب كونه غاية سامية تنال بالعلم أولاً ثم العمل على الموافقة والتبصرة.

إنّه؛ إذا كان المطلوب هو الله تعالى، وكانت المشقة على قدر الغاية، فليس أصعب؛ إنْ في التصور وإنْ في العمل؛ من أهبّة الاستعداد للوصول إليه.

تقتضي أهبّة الاستعداد للوصول إليه تعالى أن يتكرر القول بأن التصوف ليس قراءة ولا كتابة بمقدار ما هو علاقة يُحسن فيها العبد مسيرة الوصول وفق منهج الذوق والشعور والاستبصار، ويرتقي خلال المسيرة إلى حيث الغاية من الطريق، ثم يسقطها ليكون مع الله دوماً بلا علاقة.

إلى مثل هذا كانت إشارة الجنيد إلى التصوف أن يكون العبد فيه بلا علاقة. الصوفي الحصيف يؤمن بأن الله هو الفاعل الحقيقي لكل فعل، فلا يجعل ثقته بما قدّم من صالحات بل ولا يريد أن يجازي عليها؛ لأن فضل الله عليه فوق كل تقدير يقدّره، ومن هنا تكون ثقته بالله أعظم من ثقته بنفسه سواء كانت تلك الثقة في العمل أو في العلم.

العمل باطل زائف إنْ ظنه المرء ابتداعاً من عند نفسه. تأتي معرفة الله بالإشراق والانكشاف والإلهام. الصوفي يقول (انظر قلبك؛ لأن ملكوت السموات والأرض فيك). والنظر إلى القلب يدعو باستمرار إلى الجهاد الباطن؛ أي يدعو إلى إزالة غشاوة القلب ممّا ران عليه من مكتسبات الشرور والآفات؛ فمن عرف نفسه حق المعرفة عرف ربّه؛ لأن القلب مرآة تنعكس عليها كل صفة ربانيّة؛ فكما تفتقد المرآة قدرتها على عكس المرئيات حين يتغشاها الصدأ، فكذلك الحاسّة الروحيّة الباطنة التي يسميها الصوفية “عين البصيرة” لا تغشى عن رؤية العظمة العليّة إلا حين يزول حجاب الذاتية المظلم؛ الأنا الحاجبة، بكل ما في هذا الحجاب من نقائص حسيّة زوالاً تاماً، لكنما الصفاء الخالص لا يتمّ إلا بفضل الله على أن يتطلب من جانب العبد جهاداً باطناً.

يوم أن تنجلي غشاوة البصيرة يصبح التوحيد حقيقة ملموسة بالنسبة للصوفي، يصبح حيرة؛ فإذا تناهت عقول العقلاء إليه تناهت إلى الحيرة؛ لكن هذه الحيرة هى حيرة معرفة لا حيرة جهالة.

وعليه؛ تصبح حقيقة التوحيد هى باطن المعرفة، وهو – كما قال الجنيد – سَبْقَ المعروف إلى مَنْ بِه تَعَرَّف، بصفة مخصوصة، بحبيب مُقَرَّب مخصوص.

بيد أن هذه المعرفة ليست للكافة، ولا يتّسع معرفة ذلك الكافة، ومن وراء ذلك سرّ؛ وإفشاء سّر الربوبية كما قالوا كفر.

إذا تساءلنا عن منهج الوصول إلى هذه المعرفة، تكون الإجابة كافية شافية بتنظيف القلب والسّر إلى حيث الوصول بهما على ضوء المنهج الذي يحكم صاحبه، وهو منهج الذوق والشعور والوجدان، إلى رضوان الله. هنالك يكون الأنس بالله والقربة منه مدداً علوياً مباركاً يعيشه قلب العارف، وتعيشه لطيفته الجوانيّة حياةً ينقطع معها النظير.

يُروى أن ذا النون المصري وهو في سياحاته كان سمع برجل صالح يعيش في جبل المقطم، فلما بلغه خبره ذهب إليه ليزوره، فأقام معه مدّة، ولما أراد الانصراف سأل ذو النون ذلك العبد الصالح أن يدعو له بدعوة فقال له: “آنسك الله بقربه”.

فلم يكتف ذو النون بدعوة الرجل الصالح تلك فطلب الزيادة. فقال العبد الصالح : من آنسه الله بقربه أعطاه أربعاً بغير أربع : 
علماً بغير طلب. 
وغنى بغير مال. 
وعزاً بغير عشيرة. 
وأنساً بغير جماعة. 
ثم سأل : ألا يكفيك هذا؟
فبكى ذو النون وقال : بلى والله تكفي وتزيد.

من أجل مدد القلب بنور من الله، جاهد المجاهدون من أصحاب العزائم كيما ينالوا هذا الأنس، وكيما يعيشوا في ظلال التقريب، وهذا هو لب لباب العمل الديني والغاية منه قصداً على التحقيق.

في إشارة للإمام محمد عبده تقول: “إنما الأعمال الدينيّة تصدر عن الملكات والعزائم الروحيّة؛ لأن الروح لها السلطان القاهر على البدن حقيقة”.

ومعنى هذا: أن العمل الديني إذا هو صَدَرَ عن عادة الجسد لا يمسّ الروح في شئ، ولهذا تجيء العبادات شكلاً ينقصها التحقق الروحي الذي يفرضه المضمون الديني وتتطلبه الغاية منه؛ فلا عمل أرجى للقبول من عمل تتولاه الروح وتسعد به، وهنا تكون أعمال القلوب أولى من أعمال الجوارح وأقدر على الاستمرار من تلك الأعمال التي هى مجرَّد عادات لا تعطي ثمرات التحقق من الوصول إلى المقامات العليا.

ولما كانت المجاهدةُ مستندةً على أساس شرعي عند الصوفية عامة، فقد أسفرت عن اتصال بالله حقيقة ليس فيه مجاز؛ لأنهم يعتمدون كثيراً في مجاهداتهم على ما وَرَدَ في القرآن الكريم من آيات تحث على الجهاد سواء كان الجهادُ مُوجَّهاً ضد الأعداء أو كان منصرفاً للنفس لتكون على الدوام مملوكة لا مالكة؛ مركوبة لا راكبة، مغلوبة لا غالبة. ولما كانت قراءةُ الصوفيّة لتلك الآيات قراءة حضور ومعايشة، ثم عمل وتطبيق قبل كل شيء، ولم تكن في الوقت نفسه قراءة للعلم والمعرفة وكفى، ولكنها كانت للحياة كيما تُعَاش؛ فإن الجهاد لديهم أصبح يقوم على فقه الكتاب الكريم، فإذا هم يتخذون من سنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، القَوْليَّة والفعْليَّة، سَنَدَاً لما هم فيه من ممارسة وتجربة وحياة، أعني ممارسة الشرع وتجريب الحياة الدينية.

 

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، ‏‏نظارة‏‏‏
Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *