Share Button

د. مجدى إبراهيم

يستوقفنا التساؤل حول العقيدة والدين أو حول الإيمان والعقيدة؛ ليقيم جدلاً نظريّاً إزاء ما يمكن طرحه عند دلالة المفاهيم المستخلصة لتشكل رؤية قائمة مع كل مفهوم مطروح.

ولا شك أنّ جدل الأسئلة المطروحة يثير كثيراً من التساؤلات الفرعيّة ويتوقف الإجابة عليها على فعل القناعات الإيمانية والمعتقدات التي تواكب تأصّلها في الفكر والشعور؛ فنحن نضيف العقيدة أحياناً إلى الفكر كما نضيفها إلى الدين، فنقول “العقيدة الدينية” لتميزها عن العقائد الفكريّة سواء لدى الفلاسفة أو المفكرين أو الأدباء أو العلماء، فكل هؤلاء وأولئك لهم عقائدهم في مجرى التفكير والشعور، بمقدار ما لهم كذلك آراء تخصّهم أو تخص غيرهم ممّن يحيون على تلك الآراء عقائد يطبقونها على حياتهم الفعليّة ويقيمون عليها مجدّداً محاور البناء.

لا نشك في عموم الدين من حيث التّوجه به إلى أصل القداسة شعوراً من أعمق الأسس النفسية في كل ديانة؛ لأن شعور القداسة هذا هو الأصل الأصيل لكل حاسّة جديرة أن توصف بالصفة الدينيّة وتنبني عليها عقائد المؤمنين، ولولاها لما كانت ديانة على الإطلاق.

• أيّهما الأعمُّ الشامل وأيهما الأخص الأضيق : العقيدة أم الدين؟

بصرف النظر عن تلك النظرة المنطقية المُقنَّنَة القائمة على معيار العموم والخصوص وتكييف الأجوبة بناءً على هذه النظرة، ومع تقديري الشديد للنظر إلى جهة المنطق، واعتبار تلك النظرة المعياريّة المحدودة من جهة المنطق هى المحك النظري؛ إذْ كانت “نسبة العموم والخصوص” المفترضة في السّؤال غير ممكنة.

أقول؛ نعم هى غير ممكنة من جهة المنطق! ولكن لا يُقاس الدين ولا العقيدة الدينية بمعيار المنطق، وإنما معيار المنطق يجوز أن يُفعّل في النتاج لا في الأصول، ويجوز أن يُرى في الوقائع لا في الأطر النظريّة.

وإذا نحن قلنا عقيدة دينية ونسبناها إلى الدين عزّ علينا أن نجرّدها من شعور القداسة، ويبقى معناها لازماً فيما يشتمل عليه وجدان المفكر في العصر الحديث؛ فهى من ثمَّ طريقة حياة لا طريق فكر ولا طريقة منطق ولا طريقة دراسة.

لا معنى للعقيدة الدينية عندنا إذا كان قصاراها هو ما تشتمل عليه الأوراق والمجلدات والمتاحف والمحفورات، وإنما معناها الحقيقي حاجة النفس كما يحسُّها من أحاط بتلك الدراسات، ومن فرغ من العلم والمنطق والمراجعة ليرقب مكان العقيدة من قرارة ضميره. معناها بهذا المعنى الإيمان .

يلزم عن هذا (من جهة المنطق) أن تتاح الحرية للعقيدة، ويتاح لها في الوقت نفسه الاستقامة، فلا شئ يقدح في العقائد غير نزع الحريات، ولا شئ يصيبها بالجدب والتجديف غير غيبة الاستقامة الصادرة راساً عن الحرية، فالعلاقة أسمى ما تكون وأوثق ما تكون بين الحرية والاستقامة :

ولا شك في أن الحرية تقتضي المسؤوليّة، تلزم عنها بالضرورة. وإذا كانت الضرورة واجبة بوجوب التحرر بلا قيد وبلا شرط، فالحرية تعني الاستقامة لأنها تتطلبها بالمفهوم الديني القرآني (فاستقم كما أمرت) فليس هناك حرية مطلقة بلا فروض، وبلا تبعة مسؤولة. فالشعور بالتبّعة وازع الاستقامة على الأمر، وإذا غاب هذا الشعور أصبحت الحرية فوضى من فوضى، ولها بالفوضى نسبٌ عريق، فها هنا شرط في حدود الاستقامة على الأمر، وفيما عدا ذلك فللحر أن يمارس فعله كيفما شاء، وشرطه أن يكون مسؤولاً عما يأتي أو يدع . هذه واحدة.

أمّا الثانية فهى مسألة العبادة، فالغاية من خلق الإنسان ليس كما تبديه ظاهر الآية ولكن هى (المعرفة) على اتساع لفظ المعرفة في اطلاق ملكات الإنسان العقلية وطاقاته المعرفية وأنشطته الفاعلة، وإن كانت العبادة مما لا يُخفى مطلوبة قصداً لكنها ليست هى الغاية من الخلق بل الغاية من الخلق المعرفة، وقد سُئل ابن عباس، أعرف الناس بتأويل القرآن عن قوله تعالى : (وما خلقتُ الجنّ والإنس إلا ليعبدون) فقال معناها إلّا ليعرفون. وعليه؛ فمن تعبّد ولم تسفر عبادته عن معرفة الله فقد سقط دون تحقيق الغاية ولم يُر لعبادته أثراً منشوداً يعوّل عليه.
الدين في الأصل دُعامة روحيّة لا تتغير ولا يمكن لها أن تتغير تحت أية ظروف طارئة مهما اشتملت على العوارض والممكنات.

أعتقد من هذه الجهة إن علم الأحكام الشرعيّة العمليّة هو محل الخلاف، لأن جرثومة وضع هذا العلم في الأصل كانت لدرء الخلاف، ومع ذلك كانت أكثر تصديراً للخلافات، وهو عناية علم أصول الفقه بالإحكام الشرعيّة العملية من صلاة وصيام وزكاة وحج وزروع وبيوع ومعاملات وأموال وبنوك وقل ما شئت ممّا عساه يلحق بتطورات الزمن، وهذا هو موضع الخلاف، ولكنه مع هذا لا يغير من جوهر الدين في شئ؛ فمثلاً لو أخذنا الطوارئ الاقتصادية باعتبارها تندرج تحت (علم الأحكام الشرعية العملية) هل هى تغير من جوهر الدين في شئ؟

والجواب .. لا .. لأنها ممّا يقع داخل العلم بشئون الدنيا، ومجتمعاتنا لا المجتمعات البدائية هى أعلم بشئون دنياهم، هذه نقطة في غاية الأهمية لا يمكننا تجاهلها على الإطلاق.

ثم إنّ (الدين الذي يضطر المؤمن إلى تغييره مع كل نظام اقتصادي يطرأ على المجتمع، أو على العالم كله، إنما هو زي من الأزياء العارضة .. وليس هو بالدعامة الروحية التي تكفل للإنسان فضيلة الثبات أمام الطوارئ والغير، وتفتح له باب الرجاء كلما تطرّق إليه اليأس بين نظام فاشل ونظام مرهون بالتجربة أو الشكوك في عقباه إلى حين) تلك كلمات فيلسوف كبير لا تتخطى الحقيقة للتفرقة الفارقة بين جوهر الدين في ذاته وما يقام عليه من أحكام شرعية عملية ومنها المثال المضروب بالطوارئ الاقتصادية.

أمّا علم الأحكام الشرعيّة الاعتقادية، أصول الدين؛ فهذه الأحكام الاعتقادية لا يمكن أن تتغير بوجه من الوجوه، وإلّا فقل لي بربك : كيف يتغير الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره؟

باعتقادي أن هذه التفرقة بين علم الأحكام الشرعية الاعتقادية وعلم الأحكام الشرعية العملية ضرورية لفهم أي حوار قائم حول العقيدة والدين أو حول العقيدة والإيمان : منطلقاته وتخريجاته، بمقدار ما هي ضرورية كذلك للتفرقة بين العقيدة والدين.

وباعتقادي كذلك أن شغل التفكير فيما يجري به الحوار ليس يدور على الأحكام الشرعيّة الاعتقاديّة، ولكنه يلف على الأحكام الشرعية العملية، لأن هذه الأخيرة مدعاة للتطور والتنقلات الزمنية.

أمّا ما انغرس في القلوب من إيمان، فعلى الله وحده علاّم الغيوب مردّه ولا شأن لأحد به.

(وللحديث بقيّة)

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *