Share Button

بِدعة المهديّ المُنتظر في فلسفة ابن عاشور (٦)

بقلم : د. عصمت نصّار 

 

لعلَّ أفضل ما قِيل في طلب العلم هو ما يُمكِن إستلهامه من قول النبيّ (صلى الله عليه وسلم) : إنّ الباري يَرضى ويُبارك صفتيّن في عقول النُبهاء وأهل الدِربة والدَرايّة هما (الحِلم، والآناه)، وذلك في الفصل بين المسائل وتقييّم الأحكام قبل البَوح بها ونقد الوافد من خِطابات الأغيّار وأقوالهم. وما أكثر كتابات الحُكماء قديمهم وحديثهم عن فضيلة فِقِه المآلات في البَوّح بالخطابات التي لم تستوفِ الفحص والتمحيص، وما أروع حديثهم عن السَفلة الذين زجوا بأنفسهم في مَحفل العلماء وإعتلوا كراسي لم يؤهلوا للجلوس عليها، فَضَلُوا وأَضَلُوا، ونقصد من تلك الكلمات ما قرأته عن إتهام موقف “ابن عاشور” من بِدعة (المهديّ المُنتظر) والتشكيك في مقاصده وأصالة عِلمه، غيّر أني لم أعجب من ذلك، فنحن في زمن (مُسيّلمة وسجاح والكذاب) وأرازل المُتعالمين. 

فيَظُن بعض المُتعجلين أن رأيّ “ابن عاشور” يُخالف ما ذهب إليه “ابن تيّميّة ١٢٦٣م – ١٣٢٨م”، في كتابه (مِنهاج السُنة) الذي ذهب إلى أن إنكار الأحاديث الخاصة بقضيّة “المهديّ المُنتظر” غير مُجمَع عليه، بل هي صحيحة وغَلّط فيها طوائف وأنكروها، و”ابن تيّميّة” ينتمي إلى الرأي الذي يُلمح ولا يُصرح بعدم إرتيّاحه لرواية الشيعة، ومع تسليمه بما وَرَدّ في كُتب جُماع الحديث، نجده يُشير إلى ضعف معظمها والشك في بعضها وذلك في غير مَوضِع من كتابه المذكور، ويقول : (الكلام على الإمام المُنتظر عند الرافضة، فصاحب الزمان الذين يدعون إليه لا سبيل للناس إلى معرفته ولا معرفة ما يأمرهم به وما ينهاهم عنه وما يخبرهم به،… وهذا من أعظم تكليف ما لا يُطاق، وهم من أعظم الناس إحالة له،… وإن قيل بل هو يأمر بما عليه الإماميّة، قيل فلا حاجة لوجوده ولا شهوده فإن هذا معروف سواء كان حيّاً أو ميّتاً، وسواءً كان شاهداً أو غائباً، وإذا كان معرفة ما أمر الله به الخلق مُمكناً بدون هذا الإمام المُنتظر، عُلم أنه لا حاجة إليه ولا يتوقف عليه طاعة الله ورسوله، ولا نجأة أحد ولا سعادته، وحينئذ فيمتنع القول بجواز إمامة مثل هذا، فضلاً عن القول بوجوب إمامة مثل هذا، وهذا أمر بيّن لمن تدبّره، ولكن الرافضة من أجهل الناس،… وحينئذ فتلك الأقوال إنْ كانت كافيّة، فلا حاجة إلى المُنتظر).

وانتهى “ابن تيّميّة” إلى أن مُعتقد الشيعة في هذا الغائب المَعصُوم لا يَخلُوا من الوَهمّ غير المُبرر نقلاً أو عقلاً (لهذا كان المُتَبِعون له من أبعد الناس عن مصلحة الدين والدنيا، لا تنتظم لهم مصلحة دينهم ودنيّاهم). ويتضح من ذلك النَصّ أن ظاهر كلام “ابن تيّميّة” يُوافق تصديق العوام ولاسيّما وجهة نظر أهل السُنة المُرتكِن على صحة الخبر الوارد في كُتب جُماع الحديث، أما بنيّة خِطابه فهو رافض تماماً لروايّة الشيعة عن (المهديّ الغائب) بل ووضع مُردديه في قفص الإتهام حيث الإضلال المُتعمد، أي إنه يُوافق فيما انتهى إليه تمام الإتفاق مع نقد “ابن عاشور” لتلك البِدعة من منظور فلسفة المقاصد.

وإذا ما انتقلنا إلى الإمام “فخرالدين الرازي ١١٤٩م – ١٢١٠م”؛ فهو لم يُصرح في كتاباته بموافقته على القضية بِرُمتها، بل ذهب إلى أن بعض الفِرق الشيعيّة تَدعي بأن هناك (مهديّ مُنتظر) مَعصُوم ومُؤيّد من السماء وسوف يأتي في آخر الزمان عائداً من غيّبته فيملأ الأرض عدلاً، ويؤولون كذلك بعض الآيات لتقويّة حِجَتهِم، وعلى الرغم من موقف “الرازي” موقف الناقل المُحايّد في كتابه (مفاتيح الغيّب في تفسير سورة البقرّة)، إلا إنه يُلمح بعدم قبوله للرواية الشيعية ويُخَطّىّء إستدلالتهم وإستشهاداتهم بالقرآن والخبر من السُنة، ويقول في ذلك : (قال بعض الشيعة المُراد بالغيّب – المهديّ المُنتظر – الذي وَعَدّ الله تعالى به في القرآن والخبر، أما القرآن فقوله “وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم”. (النور: آية ٥٥)، أمّا الخبر فقوله عليه السلام : “لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لَطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج الله رجل من أهل بيّتي يواطئ اسمه اسمي، وكِنيّته كُنيّتي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلئت جوراً وظلماً”، ثم قال الرازي : واعلم أن تخصيص المُطلق من غير الدليل باطل.

ويعني ذلك أن “ابن عاشور” لم يكن فاحصاً تقليدياً للمسائل العقديّة، أي أنه لم يُعوّل على الموروث والشائع من الأخبار أو الأحاديث التي اصطبغت بالقداسة دون تواترها أو الإجماع على صِدق بنيّتها إلى مرتبة اليقين؛ الأمر الذي يؤكد أن “ابن عاشور” كان أصوليَاً مُجدداً من طِرازٍ خاص في تناوله لبنيّة الفكر الإسلامي، إذ فَصَلَ في فلسفته بين اليقينيّات والظنييّات، فالأولى لا دخل للنقد العقلي أو الشك المنهجي للتحقُق منها أو يكون سبيل لإثباتها أو إنكارها، وذلك لأنها تتميّز عن المعارف التي يُمكن للعقل إستيعابها أوغربلة بنيّتها لأن مصدرها يقينياً بذاته (ألا وهو الباري الذي لا حاد إلى علمه، وكيف لا وهو الخبير العليم) وعليه فقد نظر “ابن عاشور” إلى خبر (المهديّ) فوجد أنه من المسائل الظنيّة التي شغلت العوام والخواص وسيّما في مُخيّلة جُل أهل السُنة المُسَلِمِين بِصحة كل ما جاء في الموروث دون تمحيص، وأرباب البِدع من الفِرق الجانحة والجامدين من المُولعين بمثل هذه المسائل الغيبيّة التي يَعجَز العقل عن تبريرها ولا يطمئن القلب لحتميّة حدوثها. وقد اعتمد كاتب هذه السطور على هذا الرأي في تحديد عنوان هذا الموضوع (أيّ بِدعة المهديّ المُنتظر).

وليس  هناك أوضح من مُسايّرة “ابن عاشور” لنهج “أبو محمد بن حزم الأندلسيّ ٩٩٤م – ١٠٦٤م” في جرئته على نَقّد كل ما يُخالف صحيح المنقُول وصريح المعقول، وذلك في كتابيّه (المِلل والنِحَل، الإحكام) فقد فَعل وجهته النقديّة في آراء الفِرق الموروثة حيّال قضيّة الإمامة بوجه عام ومسألة (المهديّ المُنتظر) عند الشيعة الإماميّة بوجه خاص، فبدأ بنقض مقولات (النَصّ والتعيين والعِصمة) في إمامة “عليّ بن أبي طالب وبَنيه”، ثم تناول حكاية (المهديّ المُنتظر) المزعوم مُتهكماً على ما رُويّ بشأن المُعجزات المُصاحبة لمولد هذا (المهديّ بن حسن العسكري) مروراً بغيّبته وإختفائه في إحدى المغارات، وإنتهاءاً بعودته قُبيل آخر الزمان، وانتهى إلى أن ما جاء عند مرجعيّات الشيعة الإماميّة هَوّس وضلال لا نصيب في دربهما إلا الخُسران، ويقول في ذلك (فَكُل هذا هَوّس، فهذا أول نُوك الشيعة ومفتاح عظيماتهم وأخفها وإن كانت مهلكة،… والقوم بالجملة ذووا أديان فاسدة وعقول مدخولة وعديموا حيّاء ونعوذ بالله من الضلال،… ومن قول الإمامية كلها قديماً وحديثاً أن القرآن مُبَدَلّ، زيد فيه ما ليس منه ونقص منه كثير وبُدِلّ منه كثير،… القول بأن بين اللوحين تبديلاً كُفّر صحيح وتكذيب لرسول الله،…أن الرافضة فِرقة حدث أولها بعد موت رسول الله بخمس وعشرين سنة، وهي طائفة تجري مجرى اليهود والنصارى في الكَذِب والكفر).

ويبدو تأثر “ابن عاشور” فيما ذهب إليه أيضاً بآراء “ابن خلدون١٣٣٢م -١٤٠٦م ” في المقالة (٥٣) من مُقدمته الشهيرة، التي قام فيها بِغَربلة عدد كبير من الأحاديث ذات الصِلة وكَشَف عن ضعفها وأوضح أن الإعتقاد في صحتها لا يُعين أمة الإسلام على النهوض ولا الإصلاح أو تغييّر الواقع، بل يُعمق فيهم عادة التواكُل والتعويل على القدرة الإلهيّة في مُجابهة الظُلم ومُكافحة الجهل، فها هو يقول (اعلم أن في المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار أنه لا بدّ في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يُؤيد الدين ويَظهِر العدل ويَتَبعِه المسلمون ويستولي على المَمَالك الإسلامية ويسمى “بالمهديّ” ويكون خروج “الدجال” وما بعده من أشراط  الساعة الثابتة في الصحيح على أثره، وأن “عيسى” يَنِزِل من بعده فيقتل “الدجال” أو يَنِزل معه فيساعده على قتله ويأتمّ “بالمهديّ” في صلاته ويحتجون في الشأن بأحاديث خَرجها الأئمة وتكلم فيها المُنكرون لذلك، وربما عارضوها ببعض الأخبار وللمتصوفة المتأخرين في أمر هذا “الفاطميّ” طريقة أخرى ونوع من الإستدلال وربما يعتمدون في ذلك على الكشف الذي هو أصل طرائقهم،…

إنّ المعروف عند أهل الحديث أن الجَرّح مُقدّم على التعديل؛ فإذا وجدنا طعناً في بعض رجال الأسانيد بِغفلة أو بسوء حفظ أو ضعف أو سوء رأي تَطَرق ذلك إلى صحة الحديث وأوهن منها، ولا تقولن مثل ذلك ربما يتطرق إلى رجال الصحيحين؛ فإن الإجماع قد اتصل في الأمة على تلقيهما بالقبول والعمل بما فيهما وفي الإجماع أعظم حماية وأحسن دفعاً وليس غير الصحيحين بمثابتهما في ذلك. فقد تجد مجالاً للكلام في أسانيدها بما نقل عن أئمة الحديث في ذلك).

ويتضح ممّا أوردناه أن “ابن عاشور” قد حاكى نهج “ابن خلدون” في نقده لهذه القضيّة، وذلك بفصِله بين حكايّات الشيعة وتهافت أسانيدهم في خبر (المهديّ) وغيّبته من جهة، ووضع الأحاديث الواردة في كُتب جُماعه من جهة أخرى، وذلك دون مساس لأصول العقيدة أو إزدراء كل الموروث عن جهل، ونجد “ابن خلدون” يقول عقب نقده للبِدعة من أساسها (من أمثال هذا يعينون فيه الوقت والرجل والمكان بأدلة واهية وتِحكُمات مختلفة فينقضي الزمان ولا أثر لشيء من ذلك فيرجعون إلى تجديد رأي آخر مُنَتَحَلّ كما تراه من مفهومات لغوية وأشياء تخيليّة وأحكام نجوميّة في هذا انقضت أعمار الأول منهم والآخر،… الحق الذي ينبغي أن يتقرر لديك أنه لا تتم دعوة من الدين والمُلك إلا بوجود شوكة عصبية تظهره وتدافع عنه من يدفعه حتى يتم أمر الله فيه).

ويَعني ذلك أن “ابن خلدون” كان الأسبق في الكَشِف عن هذه البِدعة وأصولها العِرقيّة والسياسيّة التي أدركها “ابن عاشور” فكانت له الدافع في طرح هذه القضيّة ضمن دفاع فلسفته عن حقيقة مقاصد الشريعة.

فقد صَوّرت الحكايات (المهديّ) المزعوم بأنه قائد جيش إحتلال وحاكم مُستبد يُطيح برؤس كل مخالفيه بإسم إقامة العدل، وهذا بطبيعة الحال مُخالف لصريح المنقول والمعقول معاً، فلا كراهة في الدين ولا عدالة على يد مُسيّطر غاشم.

وينتقل مُفكرنا من النقد المنهجي وتحليل بنيّة القضايا الشرعيّة إلى فقه المآلات، وذلك ليوضح خطر إلحاق أو إدراج مسألة (المهديّ المُنتظر) ضمن ثوابت العقيدة، فبيّن أن الأصوليين قد تناولوا هذا الموضوع في سيّاق حديثهم عن مسألة (الإمامة وقيادة الأمة) وهي من الأمور السياسيّة التي لم يُثبَت أنها من جوهر الشرع ولا من أصول العقيدة الإسلاميّة، بل كانت مثار خلاف بين الفقهاء ومذاهبهم وعلماء الكلام وفِرقهم، إلى درجة حدوث الفِتن وإنقسام المُسلمين إلى جماعات تُكفر بعضها البعض الأخر إلى أن وصل الخلاف إلى درجة الصراع المُسلح بين الخوارج والشيعة الإماميّة، والأشاعرة الذين رفضوا عقيدة اختفاء الإمام أو غيّبته عند الشيعة الإماميّة والفِرق الباطنيّة أو تآليه في أقوال عوامهم وغُلاتهم.

أما زعم العديد من عوام المُسلمين وعُصبة من أقطاب الصوفيّة مثل “محي الدين بن عربي ١١٦٥م – ١٢٤٠م ” بأن (المهديّ المُنتظر) سوف يأتي أخر الزمان وأن علامات ظهوره تَسبِق قيّام الساعة، فلا ينبغي التسليم بصحته أيضاً في رأي “ابن عاشور”، لأن مصادره النقليّة غير مُجمع على صِحِتها من جهة ولا تلقى تأييداً من العقل من جهة أخرى، فهي من احاديث الآحاد التي لا تدخُل في التشريع.

كما أن الروايات ذات الصلة بإسمه ونَسبه والحوادث المُصاحبة لظهوره قد سبق تلفيقها لإيهام العوام بما يترتب عليها من واقعات ووقائع، ويقول “ابن عاشور” في ذلك : (إنّ الله بيّن لعلماء الأمة أحكام المِلة بالقواعد والشروط، فأغنى عن وضع الملامح والرموز، فإمام العدل الذي تجب طاعته والدخول في حزبه وأنصاره هو الذي استكمل شروط الإمامة والقدرة على حماية البيضة في وقت الحاجة لذلك، فتجتمع على أهليّته الأمة ويأمن الناس أن تُصيبهم من خروجه فتنة، فإن هو كان كما شرطت الشريعة البيّضاء النقيّة فهو في غِنىَ عن الأخبار المُلفقة والرموز الجبريّة، وإلا فخيّر له أن يختبئ في جحره كالخنفساء في الشتاء، وأن يستزيد على ما أُحضر له من عسل وماء، فلا يزال عاكفاً على مزج وإحتساء إلى أن يفعل الله به ما يشاء).

ويرى “ابن عاشور” أن الباحث عن أصول هذه البِدعة سوف يُدرك أنها من أكاذيب غُلاة الشيعة في بداية الأمر، وعِلة ذلك ترجع إلى نقمهم على الأموييّن الذين تأمروا على أحفاد رسول الله (الحسن والحُسيّن) وتسببوا في إستشهادهما بِدسّ السُم أو بِسفك الدمّ، فأبتدعوا الحكايات لفضح مكائد الأموييّن من جهة وإعطاء الأمل لشيعة الإماميّن (الحسن والحُسيّن) من جهة أخرى، وإيهامهم بأن العوّن الإلهي أراد أن يكافئهم وينتصر لهم ويُخفف عن بلواهم، فجعل من نسل “الإمام عليّ” إماماً سوف يأتي في آخر الزمان.

وللحديث بقيّة عن موقف أشهر المُفكرين المُحدَثين من هذه البِدعة.

بقلم : د. عصمت نصار 

Share Button

By admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *