Share Button

بِدعة المهديّ المُنتظر في فلسفة ابن عاشور (٧)

بقلم : د. عصمت نصّار 

شَتانّ بين الجرأة والإجتراء وقواعد التأسيس المنهجي وألاعيب التدليس والغِش المذهبي، فعلى الرغم من خطورة قضيّة (المهديّ المُنتظر) والآثار السلبيّة لهذه البِدعة، فسوف نجد في مَطلع القرن الماضي عُصبة من الكُتاب المُدققين قد إجتهدوا في نقودهم وغَربلتهم للمُلابسات الإجتماعيّة والسياسيّة للوصول إلى حقيقة هذه القضيّة، وفضّ الإشتباك الذي وَقع بين المُسلمين (سُنة وشيعة، سلفيّون ومُحدّثون، نقليّون وعقليّون) الذي خَلفته أسانيد وحيثيّات هذه القضيّة في موروثاتنا الإسلاميّة، غير أن مُعظمنا غافل عنه.

فقد انقسم الباحثون إلى ثلاثة وجهات – وذلك منذ العِقد الأول من القرن العشرين:- الأولى: ناقدة ورافضة للبِدعة برومتها، مُستندة فيما ذهبت إليه إلى المنهج التحليلي والتفكير الناقد، وذلك من وجهيّن : أولهما من ناحيّة السَردّ والبناء وتَتَبُع الوقائع والواقعات، والظروف والمُلابسات، والوجه الثاني : اختص بتفكيك البنيّة وفحص الروابط التي تصل بين أجزاءها من حيث كونها تراث منقول عن الأغيّار ومُلحق ببنيّة أخرى مُحاطة بسيّاج من القداسة الجامعة بين العلم الربانيّ ومصلحة العِباد التي هي مقصد الشَارِعّ من وحيّه وتنزليه، وقد رَفع هذا الإتجاه لواء الإستنارة الرشيدة على دونه من الرايّات، ولا سيّما بعد كشفهم لفِخاخ الغُلاة من المُروجين الشيعة لهذه البِدعة وأهداف المُستشرقين المُسيّسين من قِبل المحافل الماسونيّة ومراكز المُخابرات التابعة لقوى الإحتلال ويَهُود الدُنَمَا والصهيّونيّة.

أمّا الوجهة الثانيّة : فكانت على النقيض من الأولى ويُمثلها المراكز الدُعويّة الإيرانيّة التي دأبت على الترويج لهذه البِدعة وتلفيق الأدلة وتزوير الأسانيد بُغيّة الحفاظ على تواجدها باعتبارها فِرقة شيعيّة مُستقلة تنشر التوسع وبَسطّ النفوذ من جهة، وإغواء عوّام مُسلمي السُنة والسُذج من الطُرق الصوفيّة المُتعلقين بالموروثات والأقاصيص والحكايّات النبويّة والصحابة الأخيّار والتابعين الأبرار من جهة أخرى.

ويؤخذ على هذه الوجهة تَعمدها الدَس والتلفيق واقتطاع النصوص من سيّاقها، وتأليف التأويلات الشاذة؛ بِحُجة أنها تحوي المسكوت عنه من الأسرار المَكّنُونة التي لا تعيها إلا القلوب المؤهلة لحفظها.

أمّا الوجهة الثالثة : فيمثلها جمهور الكُتاب ومعظم المُصنفين المُسلمين المُحدَثين، الذي وقفوا حائرين بين خطرين، أولهما إنكار الأحاديث ذات الصِلة المنسوبة للمُصطفى (صلى الله عليه وسلم)، وهذا الأمر يَروق للمُتعالمين الطاعنين في التُراث الإسلامي بِعامة والسُنة النبويّة بِخاصة، أمّا الخطر الثاني يظهر في تأييّد النزعة التواكليّة والإنهزاميّة في مُجابهة الجوّر والإستبداد والفساد، إستناداً على الوعد المكذوب بقدريّة الواقع الأليم الذي لا سبيل للفِكاك منه سوى الإنتظار تحت عباءة الصبر حتى يعود (المهديّ المُنتظر) من غيّبته فيملأ الأرض عدلاً ويَقتّص من الغاصبين.

ولمّا كان الخطر الثاني أهوّن – في تقدير قادة هذه الوجهة – قد اكتفوا بالتمييّز بين عقيدة (المهديّ المُنتظر) التي رَوّتها كُتب جُماع الحديث من أهل السُنة، وما أنتجته المراجع الفقهيّة والعقديّة الشيعيّة الإماميّة، مع عدم تكفيرهم لمن يَقدح في تلك البِدعة أو يُشككك في مصادرها استناداً على كتابات الأقدمين من الفقهاء والمُتكلمين وجُماع الحديث أنفسهم.

وسوف نَعرِض في السطور التاليّة المحاولات الرائدة للوجهات الثلاث لإثبات أن معالجة “الطاهر بن عاشور” النقديّة لا تخلو من الأصالة والإبداع والجُرأة والتجديد والنسقيّة المُتماسكة في فلسفة المقاصد التي أبدع في تحديثها في الفكر الإسلامي المُعاصر.

وحسبنا أن نُشير في هذا المقام بدراسة الشيخ “عبد االله بن زيد أل محمود، توفى ١٩٩٧م” أحد رجالات القضاء في دولة قطر، في كتابه (العقائد، في باب لا مهديّ مُنتظر بعد الرسول محمد خيّر البشر) الذي ظهر في مطلع القرن الحادي والعشرين، وعلى الجانب الآخر نجد الباحث السعودي “عبد المحسن بن حمد العباد”، ينشر مجموعة من المحاضرات عن (عقيدة أهل السُنة والآثر في المهديّ المُنتظر)، غير أن مُساجلة الكِتابيّن لم تحصر أطراف النزاع من جهة، ولم تحسم الخلاف بين الكُتاب المُتناظرين من جهة أخرى.

لذا كان علينا من الضروري أن نؤكد على حتميّة إلتزام المُشتغلين بالتثقيف وتربيّة العقول بأخلاقيّات المهنة، بداية من الصدق في البَوّح، والموضوعيّة في النقل، وتَحمُل المسئوليّة الأدبيّة في البَوّح أو المنع، فعلى أصحاب الأقلام الإلتزام بالأمانة في السرد والنقل عن المصادر التي يعوّلون عليها في نقل آرائهم للجمهور والنُخبة، تبعاً للحظة المناسبة التي يلقون فيها خطابتهم مع الحفاظ على الفارق بين ما يُلقى على موائد البحث والدرس وما يُزاع في المنتديّات والصحف والمجلات وسائر أجهزة الإعلام، ما دام المقصد هو الإصلاح والتجديد والإستنارة ولاسيّما في المسائل العقديّة، والمسائل التي اتسمت بالقداسة عند الجمهور – حتى لو كانت وهماً – فمخاطبة الرأي العام له أصول وأداب ينبغي الإلتزام بها حتى تَبيت ملازمة للمُجددين.

ويُعد الأستاذ الإمام “محمد عبده” على رأس المُجددين في العصر الحديث، فقد ذهب خلال تأملاته لآيات القرآن الكريم – ذات الصِلة – والأحاديث النبويّة إلى أن قضيّة (المهديّ المُنتظر) لا تخرج عن دائرة الإرتياب سواء في مقصدها أو في سياق روايتها أو في المآل الذي يُفترض أن تعود به على الأمة الإسلاميّة كما أن ما تُروج له فرقة الإماميّة من خبر ذلك (المُنتظر) يتعارض مع الخطاب الدعوي والفكر السياسي والأصول العقديّة الإسلاميّة التي باتت من الثوابت ومن ثَم لا يُبدلها تأويلات شاذة أو أحاديث آحاد، أو أخبار مُتناثرة لم يَقطع رُواتها بِصحتها، ويقول : (إن هذه التأويلات شيعيّة ومقصدهم معروف وقد أجتهدوا في ترويجها وإستطاعوا، حتى راجت على كثير من أهل السُنة)، كما يرفض زعم دُعاتهم بِعصمة أئمتهم وأن في ذلك سلب لحريّة الإعتقاد والتفكير، ولاسيّما في ربطهم بما يَدعون، وقوله تعالى في سورة النساء ” يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم”، فالمراد بأولي الأمر أهل الدِربة والدرايّة في شتى المعارف الإنسانيّة والشرعيّة، وليس الإمام المَعصُوم.

وقد ذهب إلى مِثل ذلك “محمد رشيد رضا” في تفسير(المنار) وحديثه عن (سورة الأعراف) فقد شَككّ في نسبة أحاديث (المهديّ) إلى المُصطفى (صلى الله عليه وسلم) كما أكد أن الآيات القرآنيّة لم تَشر من قريب أو من بعيد إلى ذلك (المهديّ المُنتظر) الذي تحدثت عنه المصادر الشيعيّة، ومن أقواله في ذلك: ن التعارض في أحاديث المهدي من الأمور الظاهرة التي لا تخفى على أحد، والجمع بين الروايات أعسرّ، والمُنكرون لها أكثر، والشُبهة فيها أظهر،… ومن المعلوم وقوع الإختلاف والإضطراب في أحاديث المهديّ … إذ تَصدى كثير من مُحبي المَلك والسُلطان ومن أدعيّاء الولايّة وأوليّاء الشيّطان الدعوة المهديّة في الشرق والغرب، وتأييّد دعواهم بالقتال والحرب، وبالبِدع والإفساد في الأرض، حتى خرج ألوف الألوف عن هدايّة السُنة النبويّة ومَرقّ بعضهم من الإسلام مُروق السهم من الرميّة … ومن أحاديثهم قد وضعوا أحاديث كثيرة افتروها وزادوا في بعض الآثار المرويّة دسائس دسوها، ورواج كثير منها بإظهار رُوَاتها للصلاح والتقوى ولم تُعرف بعض الأحاديث الموضوعة إلا باعتراف من تاب إلى الله من واضعيها … وجَرّت العقيدة على المُسلمين شقاءاً طويلاً، إذ قام فيهم كثيرون بهذه الدعوة وخرجوا على الحُكام فسُفِكت بذلك دماء غزيرة، وكان شر فِتَنّها فتنة البابيّة الذين أفسدوا عقائد كثير من المُسلمين وأخرجوهم من الإسلام ووضعوا لهم ديناً جديداً، وفي الشيعة : ظهرت هذه الفِتنة وبهم قامت ثم تَعدى شرها إلى غيرهم ولا يزال الباقون منهم ومن سائر المُسلمين ينتظرون ظهور المهديّ ونصر الإسلام، فهم مُستعدون بهذا الاعتقاد لفِتنة أخرى نسأل الله أن يقيهم شرها).

كما أوضح أن مُعظم الأحاديث التي أوّردها كُتاب السُنن منقولة من كُتب الشيعة (ويقصد كتاب الكافيّ) وجميعها مُحرفة (أمّا سائر المُسلمين؛ فالأمر عندهم أهونّ، فإن مُنكر المهديّ عندهم لا يُعَد مُنكراً لأصل من الدين … وجملة القول إننا لا نعتقد بهذا المُنتظر، ونقول بِضَرر الاعتقاد به).

وهو يتفق في ذلك مع أئمة مُصححي الحديث مثل “ابن القيّم الجوزيّة ١٢٩٢م – ١٣٥٠م”، و” إبراهيم بن موسى الشاطبيّ، (توفى١٣٨٨م) وقد بيّنا أن الأحاديث الواردة عن (المهديّ المُنتظر) لا تخلو من الوضّع والتحريف، وأن من يؤمن بتلك الأخبار يُعد من أهل البِدع والتجديف على الله ورسوله.

أمّا “محمد فريد وجدي” فقد ذَكر في الجزء العاشر من موسوعته (دائرة معارف القرن العشرين) أنه لا يتحرج في التصريح بأن جُماع الحديث لم يتحَروا الدِقة والتمحيص في ما أوروده من أقوالٍ منسوبة للنبيّ (صلى الله عليه وسلم) عن بِدعة (المهديّ المُنتظر) وذلك لأن ما أورده بعض الجُماع من أخبار تحوي مُخالفات مِليّة وشرعيّة لا يُمكن تصديقها أثناء الحرب المزعومة بين (المهديّ) وأعدائه (سبيّ، ونهب، وإغتصاب، ودماء تُسفك، وأطفال تُذبح)؛ وغير ذلك من مخازي وعنف وإفساد لا يُمكن إلحاقه أو رَدّه للمشيئة الإلهيّة قُبيّل نهايّة الزمان وقيّام الساعة، ويقول : (ما وَردّ في المهديّ المُنتظر من أحاديث، والناظرون فيها من أولي البصائر لا يجدون في صدروهم حرجاً من تنزيه رسول الله من قولها، فإنّ فيها من الغُلوّ والخَبطّ في التواريخ والإغراق في المُبالغة والجهل بأمور الناس والبُعد عن سُنن الله المعروفة ما يُشعر المُطالع لأول وهلة أنها أحاديث موضوعة تَعمّد وضعها رجال من أهل الزيغ المُشايعين لبعض أهل الدعوة من طَلبة الخلافة في بلاد العرب أو المغرِب).

والجديد في نقود “وجدي” في مقابلته ما ورد في الموروث من تلك الحكايّات والواقعات التاريخيّة التي تقطع بكذِب تلك الحكايّات وزَيّف هاتيك الأحداث المُتوّهمة، والبعيدة كل البُعد عمّا كان يُخبر عنه المُصطفى (صلى الله عليه وسلم).

وإذا ما إنتقلنا إلى نقود “أحمد أمين ١٨٨٦م – ١٩٥٤م” لفِريّة (المهديّ المُنتظر) لا نكاد نجد سوى بعض الواقعات السياسيّة المُتتابعة التي تُبرر وجود هذه البِدع الخرافيّة، بداية من رغبة غُلاة العلويين في إلصاق صفة القداسة على “الإمام عليّ وبنيه” ثم تَعصُب الفُرس لأبناء “الحُسيّن” من زوجته الفارسيّة، وأخيراً رغبة العباسييّن بإيجاد صيغة شرعيّة لحُكمهم وسيادتهم على غيرهم، ومن أقواله في ذلك : (أن عقيدة المهدىّ فَشتّ فى العلوييّن والأموييّن والعباسييّن وأخذت عند كل منهم لوناً خالصاً، ففكرة المهديّ على هذا الأساس لها أسباب سياسيّة وإجتماعيّة ودينيّة وكان الشيعة أهم البادئين بإختراعها وذلك بعد خروج الخلافة من أيديهم وإنتقالها إلى مُعاويّة وقتل عليّ وتسليم الحسن الأمر لمُعاويّة).

ولا يَسع المقام لذِكر الدفوع التي قدمها (طه حُسيّن، زكيّ نجيب محمود، الشيخ محمد الغزالي، محمد عمارة) لما وَردّ في الكتابات الشيعيّة المُضللة، ومَجِهمّ لموقف جمهور أهل السُنة من الأحاديث المكذوبة، والأخبار المنسوبة للرسول (صلى الله عليه وسلم).

وللحديث بقيّة عن موقف الوجهتيّن الشيعيّة المُعاصرة والسلفيّة المُحافظة من هذه البِدعة.

بقلم : د. عصمت نصار .

Share Button

By admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *