Share Button

سؤالُ منطقي أطرحه على نفسي إزاء البحث حول هذا الموضوع (الصبر والإيمان) : متى تصبح العلاقة جدليّة بين فكرتين أو بين طرفين قابيلتهما للنقاش محوريّة وجوهريّة؟ والإجابة ببساطة شديدة هى : في الحالة التي يتمُّ فيها التفاعل النظري في مستوياتها الإدراكية، بحيث لا تستطيع أن تفصل عَسَفَاً بين فوارقها الشعوريّة، وإنْ كنتَ في الوقت عينه تستطيع أن تحدّد ميادينها النظريّة؛ فما يُقال على مستوى النظر لا يُقال في الغالب على مستوى الشعور؛ لأن ما يُقال على مستوى الشعور شئ أعمق بكثير ممّا عَسَاه يُقال على مستوى النظر والتفكير، لا لشيء إلا لأن المساحة الداخليّة لشعور القائل تجئُ حُبلى مثقلة بجملة إحساسات لا توفيها الكلمات فوراتها الباطنة، وبالتالي تفقَد معها القناة التعبيرية التي تكافئها أو تناظرها، فيبقى ما هو بالداخل مطموراً مخفيّاً في دائرة الشعور، محجوباً عن أعين الناظرين، ويظهر فقط ما استطاع المرء أن يفكر فيه ثم يقوله في كلمات تعبّر عنه بالتقريب أو بالتحديد سيّان.

لكن ما يفكر فيه المرء، وينظّر له، إنما هو في الأصل قد وَصَلَ إليه قطعاً من طاقة الشعور. ومن ثمَّ، فلا حاجة لنا إلى فصل “الفكر” عن “الشعور” بوجه من الوجوه. وعليه؛ فلا يجوز اعتبار العلاقة جدليّة بين طرفين أو بين فكرتين إذا تمّ انفصالها مطلقاً عن منطلقاتها التأسيسية سواء كانت على مستوى التفكير أو كانت على مستوى الشعور.

ففي حالة الانفصال، العقل وحده هو من له الصدارة، ومن له الحكم. وفي المقابل : العاطفة وحدها هى من لها الحكم؛ لأن الصدارة لها في كل الأحوال.
الانفصال؛ إذن، لا يوحي بعلاقة جدليّة، ولكن الاتصال هو وحده الذي يوجب قيام هذه العلاقة، فلا يزال جدل العلاقة قائماً بين الدائرتين : دائرة الوجدان ودائرة العقل والتفكير، إذا صَحّ الاتصال بينهما بطل الانفصال الذي يراه البعض خطأً من علامات الرقي الفكري والتّوُّجه الفلسفي، وإنْ قضى في تلك الحالة على حيويّة الإنسان.

وإذا لزم الحوار بين أمرين أو بين طرفين، والحوار فكرة، لَزَمَ معه ما يؤيدها في مستوى الشعور، وسواء أيّدها ما يلزم معها أو ناقضها وأثبت تهافتها، قام من وراء هذا كله جدل حركي يتفاعل من السطح إلى الأعماق، أي يتفاعل بين الباطن الخفيّ والظاهر المكشوف؛ فتصبح العلاقة بين ما هو ظاهر من المعاني وبين ما هو خفيّ منها ومستتر علاقة جدليّة.

خُذْ على هذا مثلاً، لتنظر معي إلى العلاقة بين هذه الأصول الثلاثة : “الصدق” و “الصبر” و “الإخلاص”، وسائل نفسك : هل أستطيع التفرقة بينها في مستوى الشعور لا في مستوى المعنى اللفظي الدارج؟

إذا لم تستطع أن تحدّد الفواصل الشعورية التي تقف من خلف الحركة الفعليّة بينها، فاعلم أن هنالك علاقة جدليّة قائمة في مستوى الداخل الخفي، رغم تحديد كل كلمة من هذه الكلمات الثلاثة من حيث معناها اللغوي والقاموسي.

نطالع في كتاب (الصدق) لأبي سعيد الخرّاز، ما نصّه :
“هذه الكلمات الثلاثة (الصدق، الصبر، الإخلاص) أقسامٌ كبرى لمعان مختلفة، وهى داخلة في جميع الأعمال الظاهرة والباطنة، وليست تتمُّ الأعمال إلا بها حتى إذا فارقت الأعمال فسدت، ولم يرج لها نفعاً؛ فليس يتمُّ بعض هذه الأصول الثلاثة إلا ببعض، ومتى فَقَدَ أحدها تعطل الآخر. فالإخلاص لا يتمّ إلا بالصدق فيه، والصبر عليه. والصبر لا يتمّ إلا بالصدق فيه، والإخلاص فيه. والصدق لا يتمّ إلا بالصبر عليه، والإخلاص فيه”.

على هذا النحو، تمضي العلاقة جدليّة بين طرفين أردنا لكل طرف منهما ضرورة التجاوب مع الآخر ثم قيام كل طرف على الآخر، يأخذ منه ويعطيه في نفس الوقت؛ ففي مجال القيم تصبح جدلية العلاقة ضرورية حين لا يُستغنى مطلقاً عمّا هو باطن في مستقر الشعور، وإنْ تمّ إبرازه من حيث الظاهر المعلوم. وهكذا يتوَجَّب علينا وصف العلاقة بين الصبر والإيمان بالجدل على النحو الذي أوضحنا معناه.

إنه الكرار الإمام علي ابن أبي طالب، كرّم الله وجهه، هو الذي قال :”بُنيَ الإيمان على أربع دعائم : على اليقين، والصبر، والجهاد، والعدل”.

وكل دعامة من هذه الدعائم الأربع تحتاج لشرح طويل يثمر النفس في طريق التحقيق الفعلي للإيمان. فاليقين أولُّ الدعائم؛ لأنه قائم بالقلب بوجود الله ورعايته لعارفيه. يقينٌ فيه من العزاء أعذبه وأطيبه وأنبله وأرضاه. يقينٌ بالمعيّة الدائمة في رحاب الله. يقينٌ بأن الوجود كلّه لا شئ إذا خَلَاَ قلب العبد من هذا اليقين بوجود الله. ومع وجود هذا “اليقين” يكون وجود الله هو كل شئ، وتكون معيّتُه هى الحقيقة الوحيدة، وتكون معرفته حقيقةً أصلَ خلق الإنسان.

والصّبر : حَبْسُ النفس على المكاره.

والجهاد : بذل الإنسان نفسه قدر الطاقة في تصحيح المقلوب.

والعدل : حفظ توازن الطاقة النفسيّة بين قوى الإنسان. ولا إيمان إلا لمن كان الصبر له. وفي القرآن الكريم :”وقال الذين أُوتوا العلم ويلكم ثوابُ الله خيرٌ لمن آمن وعمل صالحاً ولا يُلقّاها إلَّا الصابرون”.

تلاحظ أن الدلالة واضحة في قول الذين أُوتوا العلم لا قول أحد سواهم، ولا يُلقّى الثواب من الله إلا الصابرين على شرط الإيمان والعمل الصالح.
وقوله تعالى :”واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تكُ في ضيق ممّا يمكرون، إنّ الله مع الذين اتّقوا والذين هم مُحسنون”.

إذا كان (وما صبروك إلا بالله)، ومن الله، ومع الله، ومن أجل الله، وفي الله؛ فليس من حزن، وليس من ضيق، بل سعة؛ فمن كان حاضراً في داخل المعيّة، مجموعاً فيها، هان عليه، بالتقوى والإحسان، كل شئ، ولم يهن هو على الله.

فالصابرون هم أهل الإيمان، ومن لا إيمان له لا صبر له، فجوهر الإيمان الصبر، وجوهر الصبر العقل، وجوهر العقل العزيمة والإرادة والتصميم، فلا إيمان لمن لا صبر له، وإنْ كان ولا بد؛ فإيمان قليل، كقشرة سطحيّة، في غاية الوهن والضعف وقلة الحيلة والهوان، وصاحبه ممّن يعبُد الله على حرف، فإنْ أصابه خيرٌ أطمئن به، وإنْ أصابته فتنةُ خسر الدنيا والآخرة، ولم يحظ منهما إلَّا بالصفقة الخاسرة، فخيرُ عيش أدركه السعداء بصبرهم وترقوا إلى أعلى منازل الإيمان بشكرهم، فساروا بين جناحي الصبر والشكر إلى جنات النعيم.

وبفقدان الدعائم الأربع (اليقين، والصبر، والجهاد، والعدالة) تأمل ما يجري الآن في المسرى (الأقصى) لترى كيف نفد الإيمان من قلوب المؤمنين، حيث لا يقين، ولا صبر، ولا جهاد، ولا عدالة، ولا صدق في ذلك كله ولا إخلاص، ولا اقتدار على تطبيق واحدة منهم في المسلمين بل هوان من بعده هوان. أصبحوا مجرّد صور متحركة بأصابع أمريكا والغرب الأوروبي، ماذا تنتظر من أمة انطمست من أبنائها أنوار البصيرة، وهان عليهم سُبل الإدراك، وتبدّلت خيرية المقاصد، وتبلّدت يقظة الأذهان، وجَفَّت منابع العلم في ضمائر العلماء؛ فإذا الفقر والعدم والموات صفات مجتمعة لغير ذي حياة.

وتريدون أن تحرّروا القدس يا أمة لا إله إلا الله ! عجباً !

بقلم : د. مجدي إبراهيم

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *