Share Button

بقلم د. مجدي إبراهيم

تعلّمنا من جريدة الأهرام المصريّة منذ أن عرفنا لنا حياةً عقليةً منتجةً دروس الثقافة الحرّة على أيدي كبار كتّابِه إذْ ذَاَكَ أمثال د. زكي نجيب محمود، وتوفيق الحكيم، د. يونان لبيب رزق، رجاء النقاش، د. مصطفي محمود، فاروق شوشة، أحمد عبد المعطي حجازي وغيرهم وغيرهم من أساتذة الثقافة والتفكير.
واليوم ماذا نجد؟
إنك لتلاحظ مثل هذا الاستخفاف بالقيم التي تعوّدنا وجودها لدى أمثال هؤلاء القمم الشوامخ؛ وأوَّلها انحدار اللغة والإسفاف في التعبير عن المطروح من قضايا وآراء. هناك بعض من يكتبون في صفحات الرأي يستخدمون لغة عاميّة ركيكة تُنَفّر الذوق المصري العام فضلاً عن بعض الألفاظ النابية المترهلة التي يستخدمها بعض كتّاب هذه الصفحات تصدم عقلية القارئ المثقف، وتسئ إلى الأهرام كمؤسسة مصرية عريقة بمقدار ما تسئ إلى تاريخها ومدرستها الكبرى.
وحين تكتب للتنبيه على هذا اللغط المنفر لا أحد يستجيب لك، ويعتبرون كلامك كأن لم يكن، كأنه حبر جري على ورق سرعان ما يجف مع صرخات صاحبه.
وقد تناسوا أن الأهرام منبرٌ ثقافيٌ وطني إصلاحي، وليس هو كصفحات الفيس بوك، يترهل عليها الوعي وتنحل الأخلاق وتدعم الفوضى في زمن القيم الساقطة؛ فما تفسده صفحات التواصل الاجتماعي من المفترض أن تصلحه صفحات قضايا وآراء لا أن تجاري صفحات الفيس بوك بالكتابة العامية في أكبر منبر ثقافي عربي ممّا يشي بتردي الذوق العام ناهيك عن ركاكة عرض الفكرة فضلاً عن التعبير عنها، والزود عما يلابسها من نقد وتفنيد.

أعرفُ كاتباً في صفحة قضايا وآراء لا يحلو له إلّا النقل من صفحات الفيس بوك، ومن التعليقات عليها، وآخر لا يتذوق الكتابة باللغة العربية، ولا يجد في نفسه القدرة على التعبير بها ناهيك أصلاً عن التفكير فيها ومن خلالها، ولكنه يتبسّط دوماً بالعامية فيهين نفسه قبل أن يهين اللغة مقدار إهانة الأقلام الجادة التي تكتب بها، غير واضع في الاعتبار أنّ الكتابة صورة الكاتب وصورة المجتمع الذي يعيش فيه بغير مراء.

ماذا عساه يقدّم مثل هذا أو ذَاَكَ إلى الوطن ثقافة ورأياً ومعرفة وتوجُّهاً وذوقاً، إنه ليسهم في رداءة المستوى الثقافي والفكري، ويكاد يقضي مع تلك الرداءة على القيم العليا بما فيها من بقيّة نافعة.
ومع ذلك تفتح الأهرام له ولأمثاله؛ ممّن يسيئون إلى اللغة مقدار ما يسيئون إلى الوطن؛ أبوابها، كما تفتح صفحاتها لكل من لا يُعرف له رأياً ولا قضية، ولا يسهم في بناء نهضة هذه البلاد بل يهبط بالقيم إلى أدنى مراحل الانحطاط.

المهم أن يكتب فيسوّد صفحات بيضاء، والسلام. وعلى القارئ العربي أن يتخيل إن أمثال هؤلاء اليوم هم من يقومون في ثقافتنا العربية مقام طه حسين والعقاد وزكي نجيب محمود وتوفيق الحكيم ويونان لبيب رزق وفاروق شوشة، وله أن يتخيل أنهم أنفسهم من يؤدون نفس الوظيفة التي كان أولئك الأعلام يؤدُّنها قبل سنوات؛ ليحكم بعد ذلك إلى أي مدى وصل بنا الحال في بلادنا انحداراً إلى الحضيض للثقافة والتفكير!

كان الأهرام ديوان الثقافة الحرّة والفكر المستنير، ولا يزال، لولا وجود بعض الأقلام غير المسئولة ممّا لا تستحق أن يفتح لها هذا المنبر العريق أبوابه. نحن في مرحلة إصلاحية شديدة الحرج؛ ولا بد لها أن تتم، ولا بد لها أن تتحقق في ظل قوة الأمن والاستقرار لا في ظل الفوضى والنكوص.

تبدأ قضايا الإصلاح الوطني ودرء الفساد من الكلمة : تقديرها، وصدقها، ووزنها قبل النطق بها، وسياق التعبير عنها أو عن الفكرة التي تريدها وتريد غرسها في المواطن، وهى أصلُ كل إصلاح إذا نحن أردناه.

ومادامت هنالك أقلام لا تحسن الكتابة ولا التعبير عن الفكرة برقي اللفظ الذي يناسبها، ولا تحسن كذلك استخدام الكلمات في معرض النقد والطرح والتحليل؛ فما يترتب على الأصل من إصلاح هو فساد قَلّ أن يُعالج إذا لم يكن هناك حزم مسئول.

غير أن هذا الحزم المسئول لا وجود له؛ لأن العلاقة بين القارئ والكاتب لم تعد قائمة كما كانت في السابق على الكفاءة في إطار من المعرفة وفن تذوق الأفكار والكلمات، ولكنها ضاقت جداً فأصبحت تعتمد على العلاقات الشخصية والمعارف الفردية. ولم يعد للجرنال ثقافته كما كانت ثقافة الجرنال في القديم لها مذاقها وحيوتها بل أصبحت قائمة على الشللية البغيضة والتقرب من ذوي النفوذ على حساب الكفاءات العلمية والوطنية من ذوي الخبرات.

فلئن اختلفت لدينا طرائق العيش، وتطور الزمن بنا تطوراته المفروضة حتى شهدنا صفحات الفيس بوك تنقل إلى صفحات الأهرام فلا أقلَّ من أن نجعل من لغتنا العربية : مزية التوحُّد وفضيلة الاتصال المباشر بين الأبناء والأجداد، مادة حيوية فعالة تحفظ فينا الهويّة، ونحن إذْ ذَاك على وعي بإرادة اللغة فينا، شئنا ذلك أم أبينا، وعي تحدوه المعرفة بالأمل في الإصلاح على كل حال.

هل تصدِّق لو قلتُ لك : إن ظواهر العنف ومشاكل العصبيّة للرأي أو للمذهب أو للطائفة تـُرَد في أول مقام إلى “اللغة”، وإنه كلما اتَضعت اللغة وانحط استخدام الناس لها زادت بينهم العداوة والبغضاء، وتمادوا في العنف إلى أسفل درجة، وكثرت مشاحناتهم على غير سبب معقول أو مقبول حتى ليقالُ عنهم إنهم : إرهابيون لا يعرفون الرحمة، ظلاميون لا يرون النور، جاهلون لا يأخذون بالعلم، متخلفون لا يدركون عوامل التقدم، متعصبون لا يفهمون التسامح، مستبدون لا ينشرون الحرية، ضعفاءُ لا يعرفون القوة، مرضى لا تبدو عليهم علامات العافية، فقراءُ لا يدركون الاستغناء، عجزة لا يقتدرون على البناء، مفلسون بضاعتهم الكلام، جبناءُ لا يملكون الشجاعة، مقلدون لا ينشدون التجديد، مفسدون لا يأمِّلون الإصلاح، دكتاتوريون لا يطيقون الديمقراطية، منغلقون لا يفهمون الانفتاح، متشددون لا يعرفون التسامح، انعزاليون لا يبتغون المحبة، عدوانيون لا يحققون السلام، أشرارُ لا تتقدم لديهم مقاصد الخيرية قيد أنملة!

كلُ هذا، وكثير غيره، من اللغة، وفي اللغة، يظهر !
هل تصدق لو قلتُ لك : إن العنف مرتبط بالفساد اللغوي، وإن فساد اللغة بين أهلها لهو عين مظاهر الإرهاب والظلام والجهل والتخلف والضعف والمرض والفقر والجُبن والعجز والإفلاس والتعصب والاستبداد والشرور التي قَلَّ أن يحصيها قلم أو تعددها كلمات؟!

كل فساد مرهون بالتحلل من القواعد، وكل انحراف عن الجادة مرَدَّه إلى انحراف عن المعنى والدلالة والقيمة والوجود الحق والحقيقة الباقية، وكلما انحرفنا عن المعنى لم يبق لنا إلا القشرة السطحية والغلاف البرَّانيِّ، وضاق بنا الوجود تحت شمس الفكر المستنير والحرية المسئولة فألتمسناه في المضايق المتحجرة من ظلمات الجاهلية البعيدة السحيقة المتخلفة !

وليس من شك عندي في أن مكانة اللغة لهى من مكانة الشعوب، تتخذ قوتها ونشاطها وتقدمها، وكلما اهتممنا بمكانة لغتنا فينا، اهتممنا تباعاً بمكانة وجودنا على هذه الأرض حتى إذا ما أردت أن تعرف قيمة الشعوب العربية الآن – كيما تعرف مكانتها بين الأمم – فما عليك إلا أن تنظر إلى حال لغتها : ماذا عَسَاهَا تكون بين عقلاء أبنائها، ناهيك عن وضعها بين من لا يتخذون العقل قبلة لهم وهداية؟ فإذا أنت وجدتها مُهلهلة مخلخلة تافهة ساقطة، فاعلم من فورك أن الشعوب العربية بمثل تلك الصفات من التدهور والانحلال والتفاهة السقوط وخلخلة الصفوف، وبخاصة خلخلتها في منظومة القيم، وأهمها وأقربها في هذا السياق قيمة اللغة.
أنا لا أعقلُ أمة قوية ناهضة تمضي بعزم في طريق الأسوياء الأصحاء الناهضين، ثم تهدم أخص خصائص هُويَّتها بيدها وبيد أبنائها : تهدم ماذا؟ تهدم اللغة بمقدار ما تهدم الفكر؛ ففي هدم اللغة هدمُ للفكر بكل تأكيد.

وبما أن الفكرُ هو اللغة، وبما أن اللغة هى وعاء الفكر؛ فلا ريب صار هدمها للغة هدماً لطريقة التفكير والتعبير، بمقدار ما هو هدم في نفس الوقت للمواطن الحيوية الفعالة في وعي الفرد ووعي الجماعة على السواء؛ إذْ بفقدان اللغة يفقدُ العربي طريقة تفكيره، ويفقد خصائص هذا التفكير وأصوله ومبادئه وثوابته التي تقوم عليها ثقافاته وحضارته، أي يفقد أيديولوجيته؛ وإذا فقدت منه أيديولوجيته، فقدت حياته الحيَّة القويَّة والمؤثرة كلها على الجملة فضلاً عن التفصيل؛ لأن فقدان الأيديولوجية معناه فقدان الهُويَّة الخاصّة المميزة له دوناً عن سواه.
اللغة كالوطن : لك أن تتصور أحداً يهجر وطنه، ويعيش مجرداً عن لغته في أوطان الآخرين، لا يعرف له أرضاً تقلَّـه ولا سماء تظله؛ فهو عالة على أرض غير أرضه وسماء غير سمائه، يتكلم بلسان غير لسانه، ويشعر بالغربة الدائمة، وهو ، إنْ كان سويّاً، لا يملك القطيعة مع وطنه، ولا يستطيع، لكنه لا يلبث إلا أن يشتاق إلى هذا الوطن ليتنسم آخر الأمر نسمات التَّحَرُّر من رق الاغتراب. نعم! اللغة كالوطن؛ لا يستطيع المرء الأصيل أن يهجرها إلى غيرها، وإنْ فرضت عليه الظروف مثل هذا الهجران، فالعودة إليها من المؤكد من ظمأ الشوق عنده في غالب الأحوال.

وليس أدَلُّ على ذلك، من تكتل الجاليات العربية في البلاد الأجنبية وتلاحم بعضهم مع البعض الآخر، فإنهم يجدون السعادة في تقاربهم حتى لو كانوا متنافرين في أوطانهم لا يمكن التأليف بين قلوبهم. أما في الغربة فيجمعهم حب الوطن ولسان اللغة وعافية اللقاء.

واللغة هى النموذج البنَّاء، والصالح للبناء، في عقيدة المسلم، بل هى النموذج الصالح للبناء في جميع عقائد الإنسان على التعميم؛ فما من لغة على وجه الأرض إلا وفيها عقيدة تخدمها، والعلاقة بين اللغة والعقيدة كالعلاقة بين الروح والجسد، لا ينفصلان : تخدم اللغة العقيدة من جانب، بمقدار ما تخدم العقيدة اللغة من الجانب الآخر، وفي تعبيرات اللغة شيء من حياة الروح لا يعرفه إلا مجربوه. في جمال الكلمة عقيدة روحية وفكرية عجيبة، ومن هنا كانت قيمتها؛ أعني قيمة اللغة من قيمة الكلمة لأنها الطريقة الإدراكية التي يتمُّ بها التعبير عن وعي الوجدان – إحساساً وشعوراً – في الإنسان، وكلما أحكمت تلك الطريقة، كان لزاماً إحكام إدراكات الفرد على وجه العموم لأنها في المجمل إحكام لحركة الذهن وإدراك للعمليات العقلية والشعورية فيه.

واللغة والإدراك لا ينفصلان؛ لأنهما في الأصل يقفان على رؤية واحدة، وعلى همِّ واحد، لا يتباين بتباين المواقع، ولا يختلف باختلاف الظروف والأحوال في جوهر الوجود الذي لا يقيد الفرد ولا يحدُّ في طريقة تفكيره الصالح للمعرفة والتثقيف والوعي والإدراك، بمقدار صلاحه لسائر الأمور التي ترتبط بالحياة الإنسانية أوثق رباط وأشمله وأعمَّه وأحكمه. ذلك أن الإحساس باللغة من الأهمية بمكان بحيث يجعل روح الإنسان صاعدة على الدوام في طريقها الواعي بكل ما ينوط به من عمليات التفكير وعمليات الإدراك.
فمن الأهمية بمكان كذلك، كيما نحافظ على الرمق الأخير من لغتنا؛ أن تستمر الحملة النشطة على فاعلية الكلمة المطبوعة حملة تبين خطورتها تلك، لتفرز الغث من الثمين والصالح من المعطوب فيُطالعها القارئ والكاتب على السواء، وتحفظها رفوف المكتبات وأجهزة الحفظ الحديثة لتكون مع الزمن عنواناً دالاً على كاتبها، بل هى من المؤكد العنوانُ الدالُ على عقول الأمة في فترة زمنية حدث فيها شدّ وجذب، وأخذ ورد، وانفتاح وتثوير لكل القيم الوجودية الحيوية بغير استثناء، تماماً كما حدثت فيها حروب ظالمة على الأوطان العربية أفسدت روابطها الشعورية وإحساسها بالكلمات.
وفي أزمان الحروب (ولأن الحرب تطهير) يكثر التعلق بثوابت الوجود العربي، وخاصة اللغة العربية التي تدعو إلى التسامح، لو أحسن ورودها عليه، ويدعو إليها لو أحسنت قبولها له، وتسع ألفاظها آفاق السلام مجتمعة بكل لغات العالم.

وفي لغتنا العربية حياة حية نابضة فيها شرايين الحياة؛ إنْ في كلماتها وإنْ في إيحاءاتها ودلالاتها، إذْ لولا اللغة لما كانت هنالك في الحياة عموماً تلك المكانة التي يسمو إليها الكيان العربي بأسره، ويتطلع إلى الوصول إليها في كل ساعة وفي كل حين، أعني مكانة أن يكون العربي مستقلاً في الوجود وفي الكرامة مقدار استقلاله في لغته وفكره وتعبيره وتفكيره، حتى إذا ما رأيت اليوم مكانة العربي مهددة ووطنيته ممزقة وهويته غائبة وأيديولوجيته مفقودة وأمنه مضطرب، فاعلم أن ذلك مردود بطبيعة الحال إلى اللغة؛ لأنها عنوانٌ دالٌ على الهُويَّة فيما لو غابت هذه غابت تلك. ولِمَ لا؟! واللغة شارة التواصل الوطني، لو غابت هذه تمزق الوطن العربي، وصار بلا كيان ولا وصال!
واللغة روح الأمن والأمان والطمأنينة، فيما لو اتصلت بين أبنائها بروح الفكرة ووحدة المبدأ وشمول العقيدة وخلوص الاتجاه وَرُقي الأداء؛ فكل تلك المعاني “قيم من اللغة” فيما لو فُعّلت تدفع إلى التواصل والتماسك، ولا تؤدي إلى التَّفَرُّق والانقسام.

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *