Share Button

 

عواقب الإرهاب وخيمة جداً، ولم يكن ليصبح ظاهرةً عالميةً بامتياز، لولا قلة التصدّي له وغياب الدور التوعويّ لمواجهة آثاره المدمرة على الأفراد والمجتمعات، ولا يزال يستخدم في الناس بطرائق متباينة تصب كلها في منطقة التدمير. كان من أوجب الواجبات المفروضة حتماً على شعوب العالم وحكوماته بأسره، يتكاتف، وينبغي أن يتكاتف، في مواجهته الجميع وبغير استثناء، فهو يُمَثل بلا شك دواعي انهيار المجتمعات الإنسانية أو خلخلة الاستقرار بها على أقل تقدير؛ مَا إنْ يتسلط على مجتمع بعينه إلا ويكون في أيدي الإرهابيين مثل “علبة باندورا” في الأسطورة اليونانية القديمة.

وباندورا هذه هى امرأة كان أرسلها “زيوس” كبير آلهة اليونان عقاباً للجنس البشري، وذلك بعد سرقة برومتثيوس للنار من بَرْقِ السماء ثم تعليمه البشر كيفية استعمالها وكيفية الإفادة منها. تقول الأسطورة إن زيوس أعطي لباندورا علبة، وبما أنها كانت تجهل ما فيها، فبمجرّد أن فتحتها بدافع الفضول حتى انطلقت منها جميع الشرور والآفات والرّزايا، فعمَّت جميع البشر؛ وهكذا يكون الإرهاب الأسود الدموي القاتل هو علبة باندورا المُغلقة مَا إنْ يُفتح إلا وتصدر عنه كوارث دمويّة لا تحمِل للإنسانية سوى الشرور والمصائب والكوارث بكل تأكيد.

هنالك دولٌ عصيّة على الحصر عانت منذ سنوات، ومنها مَنْ لم يزل يُعاني حتى اليوم عنفاً من سطوات الإرهاب المسلح، وهنالك دول استعدت للدفاع عن نفسها بالتوسع في صناعة أسلحة الدمار البيولوجية والكيمائية، وأصبح لديها مخزون استراتيجي منها، وفي مقدمتها إسرائيل، فبدلاً من أن تعمل تلك الدول على نشر التسامح ليحل محلّ الإرهاب، عملت بالعكس على تفاقم الطاقة العنيفة ضد الإنسانيّة وزيادة الإرهاب بإرهاب أشدّ منه وأبشع، بحجة الدفاع عن نفسها ضد انتشار الشر وشيوع العنف واستفحال الإرهاب.

كان “يورجين هابرماس” (مولود في 18يونيو 1929) فيلسوفاً ألمانياً ومحققاً ثقافياً ينتمي إلى علم الدراسات الثقافية وهو معروف بتياره النقدي الألماني الجذور، ينتقد التاريخ الفعلي السياسي والاجتماعي للغرب الحداثي، كان يرى : إن مفهوم التسامح هو المفهوم المطلوب لمواجهة الإرهاب، شريطة أن يعود العقل الغربي إلى المعاني التي كانت موجودة قبلاً لدى فكر التنوير الإنساني الأخلاقي والديني والقانوني والفلسفي بوجه عام. وبما أن التنوير لديه مشروعٌ لا ينتهى فقد صارت هذه المعاني، بعد تنقيتها ونقدها، هى التي وضعت بذرة التسامح، تكفل فيما لو طبقت؛ تجفيف المنابع الاجتماعية والفكرية للإرهاب، بمعنى اقتلاع كل جذور التعصب والتطرُّف وإحلال المسامحة والعدالة والمساواة.

وفي الحق؛ إن الإرهاب ظاهرة نابعة من باطن النفس وأغوارها الدفينة، لو لم يكن الإرهاب بالدين لكان بأي فكر سواه. أقول دائماً : إنّمَا الإرهاب قصة نفس ملوثة، إذْ الإرهاب إرهاب سواء في الشرق أو في الغرب؛ فإذا كان الشرقيون إرهابيين بالدين، فالغربيون إرهابيين بالعلم، لكنما التسامح الخالص فهو قصة نفس سويَّة.

وقد تسألني : وما علاقة الغرب بالإرهاب؟ وأسألك عن هذا العنف الذي أنتجه الغرب سواء بالعِرْق أو بالعلم أو بالتعصب أو بالتمييز، ولله درّ “غاندي” حيث قال :” إن التقدّم الحديث كما يمثله الغرب في أيامنا هذه، قد أحَلَّ المادة مكاناً من حق الروح أن تتبوأه، فنتجَ عن ذلك أنه قد بوأ العنف عرش النصر، وقيد الحقيقة في أصفاد الرق والاستعباد”.
لستُ أدري لو عاش غاندي إلى أيامنا هذه، فماذا تراه يقول ؟!

على أن ظاهرة الإرهاب ينبغي أن تُحَلل إلى مستويات عدّة قد تتشابك فيما بينها وتتلاحم بحيث يختفي مع التشابك والتلاحم مصدرها، لكن التحليل لمستويات تلك الظاهرة من شأنه أن يعري مصدرها تماماً سواء كان هذا المصدر إرهاباً معنويّاً أو مادياً، كما يكشف عن جذورها في الواقع العربي، وبخاصّة فيما لو عَوّلنا على المستوى الفكري منها. وفي كل مستوى من مستويات تحليل ظاهرة الإرهاب نلحظ بعداً أساسياً يمتدُ بسبب غائر في جوف الظاهرة ليكون بمثابة الجذر الذي يتكئ عليه التحليل.

أنا شخصياً إزاء هذه الظاهرة التي تهول وتروع سأختار تحت مشارط التحليل ثلاثة مستويات : أولها المستوى الاجتماعي. وثانيها : المستوي السياسي، وثالثها: وهو أهمها عندي وأوْلاها بالعناية هو المستوى الفكري والخلفية الأيديولوجيَّة، ولربما تكمن أهمية هذا المستوى في أنه المنطلق المعرفي يتصدّر سائر المستويات لتتشكل عليه أصناف وأنواع بما لستُ أدري حصره من خيوط قلقة وظلال مترامية في مستويات وأبعاد تفعل فعلها لتشكل تلك الظاهرة محلياً ودولياً وعالمياً.

سأكتفي في هذا المقال بإلقاء الضوء على هذه الظاهرة في بعدها الاجتماعي؛ فالإرهاب على المستوى الاجتماعي كارثة بكل المقاييس، تتوجه إلى أرواح الآمنين، فتروعهم وتخيفهم، وتقطع مصادر أرزاقهم وتقضي على البُقية الباقية من أسباب وجودهم، ولا عليك ممّا سيكون عليه الحال من خراب مُحَقق وهلع منكوب.

ومع فقدان المقاومة الشعبية وتعبئة روح الشعور الوطني، تظل العمليات الإرهابية تجد طريقها نحو تحقيق هذا المستوى الاجتماعي واقعياً، بمعنى خلخة التضامن بين طبقات المجتمع، وتفكيك روابطه الاجتماعية، وإشاعة الربكة المفزعة بين أبنائه : من أصغر طفل إلى أكبر شيخ، ومن أدنى شعور إلى أرقى عقل .. وهكذا؛ بحيث تجعل المجتمع كله في حالة من الخوف الذي يمتنع فيه الرجاء، ومن الفزع الذي تغيب فيه الطمأنينة، ومن الذعر الذي يعطل الأمان، ومن حرب العصابات التي لا تعرف ضروب الهوادة ولا آمال المستقبل القريب إلى حيث لا ندري لها مصيراً تستقر عليه.

قد يقول لك المُحللون : إنَّ الإرهاب في بلادنا يرتد إلى الفقر وإلى الجهالة، وإنهما بالفعل – مع التحفُّظ قطعاً – لهُمَا مصدر من مصادر الإرهاب النابت في تربة فقيرة على المستوى الاجتماعي، جاهلة لا تؤمن بالعلم؛ لأنها لا تؤمن بالتسامح ولا بالثقافة التي من شأنها أن تقوّمه في النفس وتهذّبه في الضمير؛ فالفقر والعَوَز والجهالة والعَمَى وانخفاض مستوى التعليم وانعدام الوعي الذي كان قد سبَّبه انعدام الثقافة منذ البداية، ثم تجاهل التكافؤ بين الناس في الحقوق والكرامة وقلة إتاحة الفرص القانونية المتساوية ممّا يؤدي إلى تعمّد التمييز وغياب قيم العدالة والمساواة تحقيقاً فعلياً، أمورٌ يتشكل منها بذور الإرهاب التي تنبت في تربة تزرعها سواعد الأشقياء.

ولكن مع ذلك؛ هنالك من البلاد المتقدّمة يَتَفَجَّر فيها الإرهاب، وهى بلاد بلغت من الغنى ما بلغت ومن التقدم العلمي مكانة لا بأس بها ومع ذلك يشيع فيها الإرهاب؛ ألا نتذكر حوادث دامية فجرتها العمليات الإرهابية قبل سنوات في واشنطن ونيويورك والدار البيضاء والرياض ومدريد ولندن والقاهرة وشرم الشيخ، فما معنى هذا؟

معناه (أولاً) أن الفقر وحده لا يصنع الإرهاب، وأن التعويل عليه كل التعويل في دراسة الظاهرة من حيث بُعدها الاجتماعي ليس صَواباً بالمرة، إذْ الفقر في الغالب يصنع الأبطال، فكلما كانت القدرة مرهونة بالاستغناء كانت الإرادة صلبة عتية أمام التحديات، وكما يكون الغني الفاحش لا يصنع بشراً أسوياء، فكذلك الفقر لا يُخَرِّج في كل الأحوال مسترهبين، فكم من الفقراء كانوا أبطالاً ذوي إرادة ماضية ونفاذ عزم لا يلين، وسِيَرُ العظماء في التاريخ تطلعنا على أن أكثرهم كان مِمّن يعيش الفقر، ومع ذلك لا يشكو مع فقره تعس الحال بل يقاوم ويربي نفسه على العزم والتصميم.

ومعناه (ثانياً) أن الإرهاب قصة نفس ملوثة؛ إذْ الإرهاب إرهاب سواء في الشرق أو في الغرب : الشرقيون إرهابيون بالدين، والغربيون إرهابيون بالعلم. لو لم يكن الإرهاب بالدين لكان الإرهاب بأي فكر سواه. نعم! ألم نسمع عن الإرهاب الفكري يمارسه الطواغيت في المدراس والجامعات من حيث لا ينمي روح الوعي بالثقافة الحرّة ولا يفتح أمام الناشئة أبواب التحرُّر من قيود الأغيار سواء كانوا مدرسين أو محاضرين في قاعات الدرس؛ الأمر الذي أفسد التعليم في بلادنا بمقدار ما أفسد الثقافة وخرَّج أناساً معتوهين ذوي أفكار شوهاء.

الإرهاب قصة نفس مُلوَّثة : علبة باندورا المُغلقة ما إنْ تفتح إلا وتصدُر عنها الكوارث والمآسي.
هذا إذا نحن نظرنا إلى المستوى الاجتماعي من حيث أن الدافع للإرهاب تربية وبيئة غير سويّة بامتياز. صحيحٌ أن الأفكار الشوهاء تنبت في بيئة قابلة بحكم طبيعتها أن تغذي الإرهاب وتنميه، وصحيحٌ كذلك أن هنالك أفكاراً عنيفة متطرفة في رجال الدين إلى درجة تبعث على العنف والإرهاب، لكن المشكلة ليست في الفكرة بمقدار ما هى في حاملها، وهو العقل الناقد المفكر.

فالعقل هو الذي يفرز الفكرة يقبلها أو يرفضها، ينقدها أو يتركها تعمل في وعيه بغير نقد حتى تصبح جزءاً من مكوناته الأساسية. والأفكار التي تعمل في طبع الإرهابي إنمّا هى أفكار تمر على عقل معطل عن الوعي والتفكير تعمل فيه الأفكار الهدامة عملها فلا ينقدها بل يتركها بغير نقد ولا تفنيد.

والملاحظ أن دعوات العنف تُفرَّغ من مضمونها الديني لتُعبأ بمضمون فكري آخر غير الدين. مصادر هذا العنف دعوات لم يقم الدين بتأسيسها في الإنسان ولكنها مع ذلك تأسست وأصبحت بفعل التراكم الزمني أصولاً مرجعية، والذي أسسها هم أشخاص سَمَحَ لهم ضعف العقل والوعي العام أن يقولوا فيُسمع لقولهم، وأن يستجاب لأفكارهم في بيئات خالية أو تكاد من نقد المطروح.

وفي ظل غيبة العقل المثقف الناقد لمِا يَقرأ ولمِا يسمع أستطاع أمثال هؤلاء بتراثهم الأسود أن يجعلوه مرجعية وأن يعتمدوا فيه على توظيف الدين. ولا يزال العنف والجنوح التدميري وفكرة السيطرة والاستحواذ أموراً باقية كما هى لا تتغير في ثقافتنا العربية سواء في الذين رفعوا لواء الدين أو الذين رفعوا لواء العلم. ولئن كان الشرقيَّون إرهابيين بالدين والغربيون إرهابيين بالعلم؛ فإنّ التسامح الخالص هو أيضاً قصة نفس سَوِّية.

فليس يكفي الشجب مع هذا ولا الاستنكار، كما لا تكفي الوسائل الكلامية أو التحليلات النظرية ما لم تكن هناك مقاومة شعبية لكل نزوع يؤدي إلى العنف ويقود إلى التطرّف على اختلاف دوافعه في باطن كل رأس مطموس. لكن هذه المقاومة مشروطة منذ البداية بحضور القيم في الثقافة والتعليم؛ فمتى غابت تلك القيم الفاعلة وارتحلت عن العقول تمثلها، وعن القلوب فاعليتها رأينا البديل واقعاً مشهوداً أمام الجميع يَنْضَحُ بقيم ساقطة هزيلة لا يُتَصَوّر معها آخر الأمر إصلاح ولا تقدُّم.

هذا فضلاً عمَّا يسود المجتمع الدولي من حالات سلبية، ثم التراخي إزاء تلك الحوادث الإجرامية، فلا يتنبه إليها مطلقاً إلا إذا حدثت فأفزعت الناس بالكلية، عندئذ تطفو على الساحة تهاويل الصرخات ثم تعود الأحوال على ما كانت عليه من برود واستغفال. فإذا تكاتف المجتمع الدولي؛ ولابد أن يتكاتف، مع المقاومة الشعبية، لمكافحة الإرهاب فلا مناص يومها من سبل ستائر الأمان في كل بيت تفزعه مشاهد الإرهاب، وفي كل أسرة تفجعها أهواله الدمويّة وتروعها أحداثه الشداد المجرمة.

بقلم : د. مجدي إبراهيم

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *