Share Button

بقلم / محمــــد الدكـــــرورى

لما رأت قريش أن أصحاب رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، قد نزلوا بلدا أصابوا به أمنا وقرارا وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم وأن عمر قد أسلم فكان هو وحمزة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل الإسلام ينتشر في القبائل .

ولقد أيقنت قريش بعد المرحلة التي مرت بها الدعوة الإسلامية إن جميع محاولاتها لضرب هذه الدعوة ودفنها في مهدها باءت بالفشل ، فلا المفاوضات تمكنت من تحقيق أي تقدم على هذا الصعيد ولا سياسة الإغراء بالمال والجاه ولا سياسة الإرهاب والتعذيب ولا سلاح الدعاية ونشر الشائعات والإفتراءات .

وكل هذا لم يحل بين الناس والدخول في الإسلام ، فالمسلمون كانوا يزدادون يوماً بعد يوم، وقد أصبحوا قوة لا يستهان بها ولا يمكن مكافحتها بسهولة ، والنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم كان يزداد ثباتا وإصراراً وقدما في تبليغ الرسالة الإسلامية.

ولقد همت قريش بقتل رسول الله بعد أنْ فشلت جميع وسائل الإرهاب، والحرب النفسية والدعائية ضد النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ومَن آمن معه، وأجمع ملأها على ذلك، وبلغ ذلك أبا طالب فقال: والله لن يصلوا إليك بجمعهم ، حتى أُغيب في التراب دفينا
ودعوتني وزعمت أنك ناصح ، ولـقد صدقت وكنتَ ثم أمينا .

وعرضت دينا قد علمت بأنه ، من خير أديان البرية دينا ، فلما علمت قريش أنهم لا يقدرون على قتل رسول الله، وأن أبا طالب لا يسلمه، وسمعت بهذا من قول أبي طالب، وتوعد أبو طالب زعامة بطون قريش قائلاً: والله لو قتلتموه ما أبقيتُ منكم أحداً حتّى نتفانى نحن وأنتم

فقال له المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف: لقد كدتَ تأتي على قومك؟ فقال أبو طالب ، هو ذلك، وخاطب النبي أمامهم شعراً: أذهب بُنَي فما عليك غضاضة ، اذهـب وقر بذاك منك عيونا ، والله لنْ يصلوا إليك بجمعهم ، حـتى أُوَسَّد في التراب دفينا ، وامتنع زعماء قريش، وقرروا أن يقاطعوا أبا طالب وبني هاشم، ومحمداً وأصحابه، مقاطعة اقتصاديّة واجتماعيّة .

ومن هنا قرر المشركون أن يقوموا بمحاولة جديدة لمحاربة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته وهي المقاطعة لجميع بني هاشم وفرض حصار اجتماعي واقتصادي على المسلمين.

وقدّروا أن هذا الحصار سوف يؤدي إلى ثلاثة أمور ، إما قيام بني هاشم بتسليمهم محمداً لقريش ليقتلوه، وإما أن يتراجع الرسول نفسه عن الدعوة، وإما القضاء على النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم والجميع من معه من الهاشميين جوعاً وعطشاً تحت وطأة الحصار.

اجتمع كفار مكة اجتماعًا طارئًا وعاجلاً، بعدما رأوا من اجتماع بني عبد مناف للدفاع عن رسول الله، وخرجوا منه في نهاية الأمر بقانون جديد، فقد ابتكروا وسيلة جديدة لحرب أهل الإيمان، وقرروا بالإجماع أن ينفذوا هذا القانون، كان هذا القانون هو “المقاطعة”، وتفعيل سياسة الحصار الاقتصادي لبني عبد مناف، وإعمال سياسة التجويع الجماعي لهم، سواءٌ أكانوا كفارًا أم مسلمين.

واجتمع الكفار يعملون على صياغة القانون الجديد، القانون الذي يخالف كل أعراف وتقاليد وقيم مكة السابقة، ولا يهم أن يتغير الدستور ، طالما أن ذلك لمصلحتهم الخاصة، وطالما أنه من عند أنفسهم، وفي الوقت ذاته هو في أيديهم، وكانت بنود المقاطعة أبرموا فيه أنه على أهل مكة بكاملها في علاقتهم مع بني عبد مناف أن لا يناكحوهم أى لا يزوّجونهم .

ولا يتزوجون منهم، وأن لا يبايعوهم، لا يبيعون لهم ولا يشترون منهم، وأن لا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلموهم، وأن لا يقبلوا من بني هاشم وبني المطلب صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يُسْلموا رسول الله لهم للقتل.

وكان السبيل الوحيد لفك هذا الحصار هو تسليم الرسول حيًّا ليقتله زعماء الكفر بمكة ، وقد صاغوا قانون العقوبات هذا في صحيفة، ثم علقوها في جوف الكعبة، وقد تقاسموا بآلهتهم على الوفاء بها، وبالفعل بدأ تنفيذ هذا الحصار الرهيب في أول ليلة من ليالي المحرم في السنة السابعة من البعثة .

وقد دخل بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم إلى شعب أبي طالب وتجمعوا فيه، ومعهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك ليكونوا جميعًا حوله كي يحموه من أهل مكة ، وهكذا كانت المعاناة والألم ، وصور الباطل تتكرر ومن حينها تكون قد بدأت مرحلة جديدة من المعاناة والألم، تلك التي عاشها المسلمون في بداية الدعوة الإسلامية .

فقد قُطع الطعام بالكلية عن المحاصرين، لا بيع ولا شراء، حتى الطعام الذي كان يدخل مكة من خارجها وكان يذهب بنو هاشم لشرائه، كان القرشيون يزيدون عليهم في السعر حتى لا يستطيعون شراءه، ومن ثَمَّ يشتريه القرشيون دون بني هاشم.

وقد بلغ الجهد بالمحاصرين حتى كان يسمع أصوات النساء والصبيان يصرخون من شدة وألم الجوع، وحتى اضطروا إلى التقوت بأوراق الشجر، بل وإلى أكل الجلود، وقد ظلت هذه العملية وتلك المأساة البشرية طيلة ثلاثة أعوام كاملة، ثلاث سنوات من الظلم والقهر والإبادة الجماعية .

وكان الاتفاق بين أهل الباطل ، ومع هؤلاء المحاصرين فإنا نتفهم حقيقة أن يضحي المؤمنون من بني هاشم وبني المطلب بأنفسهم وبزوجاتهم وأولادهم ، وذلك لأنهم بصدد قضية غالية جدًّا، إنهم يصمدون ويضحون من أجل العقيدة، لكن الغريب حقًّا هو كيف يصبر الكافرون من بني هاشم وبني المطلب على هذا الحصار؟

هؤلاء الكفار لا يرجون جنة ولا يخافون نارًا، بل إنهم لا يؤمنون بالبعث أصلاً، ورغم ذلك فقد وقفوا هذه الوقفة الرجولية مع مؤمني بني عبد مناف ، وفي تفسير واضح لهذا العمل الرجولي والبطولي فقد كانت الحمية هي الدافع والمحرك الرئيسي له، حمية الجاهلية، ولكنها في النهاية حمية، حمية الكرامة حين يهان رجل من القبيلة .

وحمية لصلة الدم والقرابة، حمية العهد الذي كانوا قد قطعوه على أنفسهم قبل رسالة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ،على أن يتعاونوا معًا في حرب غيرهم، حميّة واقعية يدفع فيها الرجل بنفسه وأولاده وهو راضٍ .

وأنهم أقاموا عل ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا لا يصل إليهم شيء إلا سرا مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش، وقد كان أبو جهل بن هشام فيما يذكرون لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد وهي عند رسول الله ومعه في الشعب فتعلق به .

وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة، فجاءه أبو البختري وقال: طعام كان لعمته عنده بعثت إليه فيه أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خل سبيل الرجل، فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لحي بعير فضربه به فشجه ووطئه وطئا شديدا .

وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك ، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيشمتوا بهم، ورسول الله على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا وسرا وجهارا مباديا بأمر الله لا يتقي فيه أحدا من الناس .

ومرت الأيام والسنوات عصيبة على المحاصرين، مرت تحمل الآلام والأحزان، حتى جاء شهر المحرم من السنة العاشرة من البعثة، وشاء الله أن تنقضي في هذا الشهر الكريم تلك الصحيفة الظالمة، وأن يُفك الحصار البشع عن بني هاشم وبني عبد المطلب بعد ثلاث سنوات كاملة.

وكانت البداية حين شعر أحد المشركين من بني عامر بن لؤي وهو هشام بن عمرو، وهو ليس من بني هاشم ولا بني المطلب، شعر هذا الرجل بشيء حاك في صدره، وشعر بشيء من الغصة في حلقه، إذ كيف يأكل ويشرب وهؤلاء المحاصرون لا يأكلون ولا يشربون؟

وكيف ينام أطفاله شبعى وينام أطفال هؤلاء عطشى وجوعى؟ وإزاء هذه المشاعر وتلك الأحاسيس التي تولدت بداخله، ورغم أنه كان كافرًا، فقد بات يحمل الطعام بنفسه سرًّا إلى شعب أبي طالب يقدمه لهم، وعلى هذا الوضع ظل هشام بن عمرو فترة من الزمان، لكنه وجد أن هذا ليس كافيًا، وأنه لا بد من عمل أكبر .

ولأنه كان وحيدًا، وقبيلته لم تكن بالحجم الذي يخول لها أن تمده وتناصره، فقد عمد إلى أن يجد لنفسه معينًا ولو من خارج قبيلته ليساعده على نقض الصحيفة وإلغاء العهد الذي كان قد قطعه زعماء قريش على أنفسهم بقطيعة بني هاشم وبني عبد المطلب.

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *