Share Button

بقلم / محمــــد الدكـــــرورى

لقد تعرض رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، لمحن كثيرة، وحورب بأساليب شتى، فقريش أغلقت الطريق في وجه الدعوة في مكة، وتعرضت بالإيذاء والتعذيب، والسخرية والاستهزاء للنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم حوصر بعد ذلك صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه ثلاث سنوات في شِعب أبي طالب .

وقد صاحب ذلك الحصار الاقتصادي والاجتماعي جوع وحرمان، ونصب وتعب شديد، ومع ذلك كله فرسول الله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ماض في طريق دينه ودعوته، صابر لأمر ربه، ومعه أصحابه رضوان الله عليهم .

وبعد مرور ثلاث سنوات من الحصار ومن التعب والنصب والجوع ، اهتدى هشام بن عمرو إلى أن يستعين بقبيلة بني مخزوم ، وذلك لأنها كانت من أكبر القبائل القرشية، كما أنها كانت قد اعتادت أن تعارض قبيلة بني هاشم، وأن تنافسها .

فقد رأى أنه إذا قبلت هذه القبيلة بفك الحصار على بني هاشم ، فإن بقية القبائل سترضى بفك هذا الحصار أيضًا، وإذا كان هشام بن عمرو قد وجد ضالته في قبيلة بني مخزوم، فإنه لم يجدها بعد فيمن يذهب إليه من بني مخزوم .

فمن من بني مخزوم يقوى على أن يقف مع بني هاشم ضد بني مخزوم، ويعارض بذلك أبا جهل نفسه زعيم القبيلة، الذي كان من أشد المتحمسين لأمر القطيعة؟ والأمر وإن كانت غاية في الصعوبة، فقد وجد هشام بن عمرو ضالته في زهير بن أبي أمية المخزومي، وذلك لأن أمه أم زهير من بني هاشم، وهي عاتكة بنت عبد المطلب بن هاشم .

بل إن أم زهير هي أخت أبي طالب نفسه، أي أنها عمة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، وبذلك يكون هشام بن عمرو قد لعب على وترين حساسين، هما الدوافع الفطرية من جهة، والدوافع العصبية وروابط الدم من جهة أخرى، مما يكون له كبير الأثر في نفس زهير بن أبي أمية المخزومي.

وذهب هشام بن عمرو إلى زهير بن أبي أمية المخزومي، وفي محاولة مخلصة لكسب مشاعره واستمالة عواطفه، واستثارة لنزعة الكرامة عنده قال له: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام وتشرب الشراب وأخوالك حيث تعلم؟

ثم بعد ذلك يضرب على وتر الحمية والتحدي لأبي جهل فيقول: “أما إني فأحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام يعني أبا جهل ، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم، ما أجابك إليه أبدًا ، وهنا قال زهير: ويحك ، ما أصنع وأنا رجل واحد، أما والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها .

وعلى الفور كان أن فاجأَه هشام بن عمرو بأن قال له: قد وجدت رجلاً، فقال زهير: فمن هو؟ قال: أنا ، ولأن الموقف جِد عسير، فقد رد زهير بقوله: أبغنا رجلاً ثالثًا ، ولم ييئس هشام بن عمرو، وقد ترك زهيرا وذهب إلى رجل آخر، ذهب إلى رجل صاحب أخلاق وإن كان كافرا، ذهب إلى المطعم بن عدي من بني نوفل .

وقد ذكره بأرحام بني المطلب وبني هاشم، ولامه على موافقته للظلم الذي وقع عليهم، وهنا قال له المطعم: ويحك، ماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد ، فقال هشام: قد وجدت ثانيًا ، قال: من هو؟ قال: أنا ، قال المطعم: أبغنا ثالثًا ، وهنا فاجأه أيضا هشام وقال: قد فعلت ، قال: ومن هو؟ قال: زهير بن أبي أمية.

ولأن المهمة صعبة، قال المطعم: أبغنا رابعًا ، ولم يدخل اليأس قلب هشام بن عمرو، ومن فوره ذهب يبحث عن رابع حتى وجده في شخص أبي البختري بن هشام، ذهب إليه هشام وقال له مثل ما قال للمطعم ، فقال أبو البختري: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال هشام: نعم، زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأنا .

وكسابقه رد أبو البختري أيضًا بقوله: أبغنا خامسًا ، إنه في الحقيقة مجهود ضخم يقوم به هشام بن عمرو، وهو ليس بمسلم، وليس من بني هاشم أو بني عبد المطلب، ولكن لشيء كان قد تحرك بداخله، ولمشاعر كانت ما زالت نقية أصيلة ، وأسرع هشام بن عمرو من جديد وكله حمية يبحث عن خامس، فذهب إلى زمعة بن الأسود ، من بني أسد.

فقال له زمعة: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم ، ثم ذكر له الأربعة السابقين، فوافق زمعة بن الأسود الأسدي ، اجتمع الخمسة رجال، وأخذوا القرار الجريء الذي سيعارضون به أكابر القوم، القرار الذي قد يؤدي إلى انقسام حاد في المجتمع المكي، وقد يؤدي إلى نصرة دين لا يقتنعون به .

وهم يفعلون كل ذلك لشيء كان قد تحرك في صدورهم جميعا، إنه حمية النخوة، النخوة المتمثلة في أن تجد إنسانًا ، أي إنسان ، مؤمنًا كان أو كافرًا، أن تراه يعذب، أن تراه يظلم، أن تراه يجوع أو يعطش، ثم تقول بملء فيك: لا، إنها النخوة التي زرعت في قلوب أناس ما عرفوا الله .

واجتمع الرجال الخمسة واتفقوا على القيام بنقض الصحيفة، وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم ، ولما كان الصباح ذهبوا إلى المسجد الحرام، ونادى زهير على أهل مكة فاجتمعوا له، فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى، لا يباع ولا يبتاع منهم؟

والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة ، هنا قام له أبو جهل زعيم مكة وزعيم بني مخزوم، قام يرد عليه وكله حماسة وغلظة، فقال: كذبت، والله لا تشق ، فقام زمعة بن الأسود وقال: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كتبت ، ومن بعده قام أبو البختري بن هشام فقال: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به.

ومن بعده أيضا قام المطعم بن عدي وقال: صدقتما وكذب من قال غير ذلك أى يقصد أبا جهل ، نحن نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها ، وهنا قام الرجل الخامس هشام بن عمرو، الذي جمع كل هؤلاء فقال مثل ما قاله المطعم، وصدق المطالبين بنقض الصحيفة.

وقد حدث كل هذا في دقائق معدودة، ووجد أبو جهل نفسه محاصرا بآراء خمسة من الرجال، حينها أدرك أن هذا لم يكن قدرا ولا مصادفة، فقال: هذا أمر قُضي بليل ، وكانت معية الله أصبح الموقف متأزما، فإذا كان رقم الخمسة رجال كبيرا، فإن على الناحية الأخرى أبا جهل، وهو زعيم مكة، ومعه كثير جدا من زعمائها .

ومن هنا فقد لاح في الأفق بوادر أزمة ضخمة في مكة، لكن الله أراد أن تنتهي هذه المعضلة ويفك الحصار، فحدث أمر آخر قد تزامن مع هذه الأحداث، فقد أوحى الله إلى نبيه أن الأرضة ، وهى دودة الأرض، قد أكلت الصحيفة، ولم تترك فيها إلا ما كان من اسم الله.

وبنبأ الأرضة أخبر رسول الله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، عمه أبا طالب، فما كان منه ، أبي طالب ، إلا أن أسرع إلى نادي قريش، وهناك رأى الحوار الذي دار بين الرجال الخمسة وبين أبي جهل، ولما انتهوا من حوارهم تدخل أبو طالب في الحديث وقال: إن ابن أخي قال كيت وكيت، فإن كان كاذبا خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا.

قال زعماء قريش في المسجد الحرام: قد أنصفت يا أبا طالب ، وذهبوا إلى الصحيفة في جوف الكعبة، فإذا هي تماما كما ذكر رسول الله ، أُكلت بكاملها إلا ما كان فيها من اسم الله: باسمك اللهم، ظلت آية واضحة ، وهنا لم يعد أمام زعماء مكة أي خيار، لم يجدوا بدا من نقض الصحيفة وإنهاء المقاطعة بعد ثلاث سنوات كاملة كانت قد مرت من الحصار والتجويع.

وقد كانت هذه المقاطعة سببا في خدمة الإسلام ودعوته، فقد انتشر الخبر بين قبائل العرب من خلال موسم الحج الذي كان إعلاما بما تفعله قريش من الأذى، وتحمل النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ذلك، وثباتهم على مبادئهم، مما أثار سخط العرب على كفار مكة وتعاطفهم مع النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

فما أن انتهى الحصار حتى أقبل الناس على الإسلام، وذاع أمره، وهكذا ارتد سلاح الحصار الظالم على أصحابه، وكان عاملا قويا من عوامل انتشار الإسلام ودعوته، عكس ما كان يريد ويأمل زعماء الكفر .

هذا الحصار كان فيه الدرس القوى فى الصبر والجلد للرسول الكريم ومن معه من الصحابه وفى هذه المقاطعة، فقد تجرع الصحابة الكرام رضوان الله عليهم مرارة هذا الحصار الشديد، فكانوا يأكلون ورق الشجر وما يجدونه .

حتى قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، خرجت ذات ليلة لأبول فسمعت قعقعة تحت البول، فإذا قطعة من جلد بعير يابسة فأخذتها وغسلتها، ثم أحرقتها ثم رضضتها، وسففتها بالماء فقويت بها ثلاثا .

ومع ذلك صبروا وثبتوا، فكانت تربية النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، لهم على الصبر عاملاً مهماً من عوامل الصمود ، والتحدي أمام الباطل وأهله، فالنصر مع الصبر، والبلاء سنة ماضية، وأهل الإيمان لا بد أن يتعرضوا للفتن تمحيصاً وإعداداً، ومن ثم تجلت التضحيات والمواقف في الثبات على الدين والدعوة والقيم عند الصحابة الكرام طوال حياتهم ..

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *