Share Button

متابعة:لطيفة القاضي
شهد التاريخ العربي من العصر ” الجاهلي ” حتى العصر الأموي ظاهرتين اجتماعيتين أدبيتين ؛ وهما ظاهرة الصعاليك في عصر ” الجاهليين ” ؛ وظاهرة العذريين في العصر الأموي ؛ ؛ وما جمع بين الأثنين من الناحية الأدبية هو الشعر العربي الرفيع على الرغم من الاختلاف في المضامين ذات المناحي المختلفة ؛ مع هذا الاختلاف أنهما يلتقيان في رفعة الشعر وفي جماله ؛ ولأن الأمر كذلك فلا أستطيع أن لا اعتقد أن الشعر هو الذي أوصل إلينا أخبار الظاهرتين ؛ ومن جمال الأمر ان الظاهرتين وصلتا بالإسماء المؤكدة ؛ وبالأخبار المفصلة ؛ ولذلك فإن الشعر له الفضل الكبير علينا ؛ وإننا لولاه لما حصلنا على هذا الكم من الأخبار . وعلى نفس هذا القياس يمكن القول أن الشهيد ناجي العلي فنان الكاركاتير الذي تم اغتياله في لندن ؛ انه من المبدعين المعاصرين الصعاليك ؛ وهو يملك روح الصعلوك المتمرد الذي يرفض كل ما هو سائد ؛ لدرجة أن هذا المبدع يمتلك بإرشيفه رسومات غير منشورة أكثر من المنشورة ؛ وكان عندما يذهب الى رئيس تحرير جريدة القبس الكوتيية التي كان يعمل بها ؛ يقدم له أكثر من رسم كاركاتير ؛ ويختار الصقر رئيس التحرير آنذاك الأقل وطأة على النظم السياسية العربية ؛ وعادة الصقر يفشل في نجاته من تلك النظم وتبدأ بإرسال التهديد والوعيد وبمختلف الطرق . وينطبق على خالة الشهيد ناجي العلي قول الشاعر الصعلوك مالك بن الربيب :
ألاليت شعري هل أبيتن ليلة
بجنب الغضى أزجى القلاص النواجيا
فليت الغضى لم يقطع الركب عرضه
وليت الغضى ماشي الركاب لياليا
لقد كان في أهل الغضى لودنا الغضى
مزاراً ولكن الغضى دانيا .
ويعني الكاكاتير بالنسبة لناجي العلي التمرد والرفض ؛ فقد كان يعتبره موقعا نضاليا لقول الحق دون تردد ؛ أو وجل ؛ فليس مستغربا منه بعد أن التحق بحركة القوميين العرب ؛ ولم يصمد كثيرا في هذه الحركة وتركها؛ رافضاً حصار الأيديولوجيا ؛ مقدساً حريته الفردية .
شرارة الكاركاتير عنده ابتدأت بصورته الشهبرة التي رسمها وبقيت معه حتى الرصاصة الغادرة التي انهت جسده وبقيت صورته شاهدة على تاريخ عربي دموي يكره الإبداع ويمقت المبدعين ؛ انها صورة حنظلة التي صوّرها على انها ميثولوجيا الفلسطيني ؛ وكان حنظلة الناطق الرسمي بإسمه ومعبراً عن أراءه ؛ ومَنا ينسى ما فعله بالشاعر الكبير محمود درويش عندما وافق الأخير على قبول عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية؛ وقتها رسم ناجي العلي صورة حنظلة وكتب تعليق صغير على الصورة ” محمود خيبتنا الأخيرة ” ؛ ولم ينتظر درويش كثيراً حتى قدّم استقالته من اللجنة التنفيذية ؛ وبقي موقف ناجي العلي البوصلة له اذ رفص درويش موقع وزيراً للثقافة الفلسطينية في حكومة السلطة الوطنية الفلسطينية .
لقد عشق ناجي العلي فلسطين على طريقته الخاصة ؛ والكثير من العالم العربي اعتبروه متطرف وحاد ؛ ورغم هذه المواقف لم يتوانى ناجي العلي في انتقاده لكل من تآمر على القضية الفلسطينية ؛ ولم يتوقف يوماً واحداً من الرسم . لذا فقد اعتبر حنظلة الساحة الأرحب للنضال والحرية دون أي عائق من الأخرين التابعين للحدود والقيود ؛ فقد كان في بيروت عام ١٩٨٢ عندما حصارت القوات الأسرئيلية ببروت ؛ بعد ان احتلت كل الجنوب اللبناني ووصلت الى ببروت لإخراج قوات الثورة الفلسطينية ؛ وقتها كان ناجي العلي في مخيم عين الحلوة بجانب مدينة صيدا اللبنانية ؛ ورفض الهرب أو الذهاب لبيروت ؛ بل أصرّ البقاء مع ابناء جلدته من الفلسطنيين سكان المخيم الذي هو منه ومن سكانه ؛ وكان في زيارة سنوية قادماً من الكويت واندلعت المعارك بين الصهاينة ومقاتلي الثورة الفليطينية .
ناجي العلي الذي عَرى كل المواقف العربية التي كانت تمارس فضيلة الصمت على ما يتعرض له الفلسطنيين واللبنانيين من مجازر ومذابح على يد الغزاة الأسرائيليين ؛ حتى القيادة الفلسطينية لم تسلم من انتقادته ؛ مما سبب له مشاكل كببرة مع هذه القيادة ؛ وهذا اليس بالجديد على الشهيد ناجي العلي ؛ فقد تصدى وبحديث قاسٍ جدا للأخ القائد الشهيد ابواياد صلاح خلف في أحد اللقاءات التي حصلت في مكتب منظمة التحرير في الكويت الكائن في منطقة حولي ويطلق على هذه المنطقة الضفة الغربية لكثرة الفلسطنيين القاطنين ؛ وشكلوا الأغلبية المطلقة لسّكان هذه المنطقة . يومها احتج الكثير من المتواجدين في ذلك اللقاء وابدوا دهشتهم كيف يخاطب ناجي العلي القائد ابو اياد بهذه الصورة ؟ إلا أن وللتاريخ كان صدر ابواياد واسع جداً ورفض الأحتجاج .
لقد عشق ناجي العلي الكويت لإنها الساحة الأكتر مواجهة من الساحات كافة ؛ والإكثر إحساساً بالنكبة والمأساة ؛ والأكثر تأييداً للقضية الفلسطينية ؛ والمنفتحة على العالم كله .
وفي الحقيقة كانت رسومات ناجي العلي قائمة على النقد لذلك نجد ماركس يقول : ليس النقد هوى في الرأس ؛ بل رأس الهوى . ومن مقولات هيغل : الإنسان لايولد حراً ؛ وإنما يأتي للعالم مع إمكانية أن يصير حراً .
ورفص ناجي العلي مقولة المثقف لا علاقة له بالسياسية وسخر من هذه المقولة واعتبرها هذا المقولة من صناعة النظم الديكتاتورية العرببة ؛ صحيح ان الذين امتهنوا العمل السياسي هم قلة من المثقفين العرب ؛ ولم يعذر ناجي العلي المثقف الذي يخشى بطش السلطة والتصفية الجسدية والفكرية والاجتماعية ؛ والحيطان لها آذان .. إلخ .
ناجي العلي الذي شكل ظاهرة جديدة في حياتنا الثقافية العرببة ؛ يمكن ان نطلق عليها ظاهرة الصعلكة التي ترفض طغيان السلطة وبطشها ؛ واستاء من ظاهرة الخوف التي تعتري المثقف العربي ؛ كما مقت الدكتانورية المتفشية في عالمنا العربي .يبقى السؤال الحاضر هل كان ناجي العلي صعلوكاً بالمعني المتعارف عليه في الثقافة العربية ؟ تُرى البحث عن إجابة تقليدية أو إجابة مفصلة على قياس التراث أو للدقة ما وصلنا من التراث ؛ اعتقد في كلا الحالتين نقع في خطأ كبير إذا رسمنا الإجابة بين هذين النمطين ؛ ولكن البحث عن إجابة مستشكلة بمعنى ما الذي يدفعني إلى توظيف هذا المصطلح ” إستشكال ” في طيات الإجابة ؛ بداية لأن ناجي العلي كانت معارضته مغامرة كبير للقطاع الواسع للشعب الفلسطيني ؛ الذي كان يرى أن منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والمعنوي والأخلاقى له والبيت الذي يجمعهم ؛ ومواقف ناحي العلي كانت تتعارض مع هذه العاطفة الجياشة ؛ لكن مواقف العلي تفرق وتعي جيداً بين الموقف السياسي لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية الذي كان يتناقض معه ؛ وبين تمثيل المنظمة للشعب الفلسطيني بمعنى ؛ هناك فرق بين الهويةناجي العلي بهذا المعنى تجاوز المألوف في الثقافة العربية الفلسطينية ؛ التي في جلّها ومن مختلف اجناسها الإبداعية والمعرفية كانت تعتبر منظمة التحرير الفلسطينية حالة نهوض سياسي وحركة تحرّر وطني وقومي . الوطنية والمواقف السياسية .ناجي العلي بهذا المعنى تجاوز المألوف في الثقافة العربية الفلسطينية ؛ التي في جلّها ومن مختلف اجناسها الإبداعية والمعرفية كانت تعتبر منظمة التحرير الفلسطينية حالة نهوض سياسي وحركة تحرّر وطني وقومي .ونظر لها علة انها نظام سياسي يقترب كثيرًا إلى ممارسات النظم العربية الرسمية ؛ ففلسطين لا تقبل القسمة ؛ ولا الضرب ؛ ولا الجمع ؛ والا الطرح ؛ لم يعترف بجدول الضرب من اصله ؛ كان يؤمن ان لها طريق وحيد أوحد لها هو الكفاح المسلح وعدا ذلك مجرد طرق هامشية . وكما كان يؤمن ان اللسان الناطق بتحرير فلسطين ” من المية إلى المية ” ؛ هو اللسان الذي ينادي بإسم فلسطين كما هي ريشته ؛ وان كان يتساءل إن كانت هناك بعض الألسنة تُنادي بالتسوية فماذا سيكون لسان الهبوط ؟
وكانت رسوماته تدفع دائما إلى سؤال يبدو في أحد تجلياته امتحان للعقل العربي المهادن : هل يوجد لسان عربي قائم على الكرامة ؟ لتبقى ريشته عين الإشكال متبئا عن مدى اقتدارنا احتمال التفكير في مسألة الكرامة ؛ وذلك من جهة كونها تصنف عادة تاريخية أو انثروبولجية نوعيّة نفسية تكشف عن مدى انحسار الوعي لدينا للتفكير بالكرامة .
الشهيد ناجي العلي ليس مجرّد وعد جميل لم يف به حتى الأن من عرفه ومن زامله ومن آمن بإبداعه ؛ لا لشيء إلا لأنه صعلوك من صعاليك الذين نحتوا الوجع الفلسطيني على أنه كرامة مفقودة من قاموس البشرية .

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، ‏‏لقطة قريبة‏‏‏

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *