Share Button

وقفنا في المقال السابق عند سعيد ابن زيد الذي وقف ليدلي بدلوه إستجابة لطلب عمر فقام وقال أجل يا أمير المؤمنين قد كرهنا شدتك وإن لم نضق بعهدك أنك قد أخشيتنا حتي والله ما نستطيع أن نديم إليك أبصارنا فلو لنت للناس قليلا يا عمر ؟
ويرد عمر بسرعه إني لا أريد رأيك وحدك فيرد سعيد كلا هذا ليس رأيي وحدي هذا رأي علي وعثمان و طلحة والزبير وسعد إبن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف ويصمت عمر ثم يقول مهموما ويحهم كيف سكتوا عني ولم يذكروني ؟
عزمت عليهم إلا ما أناب عنهم أحدهم فصارحني بما يرون وأشار عثمان وعلي وطلحة إلي عبدالرحمن بن عوف الذي تقدم نائبا عنهم وقال أنا أتكلم عنهم يا أمير المؤمنين لِن للناس يا عمر فانه يقدم القادم فتمنعه هيبتك أن يكلمك في حاجته حتي يرجع ولم يكلمك وهنا اهتز جسد عمر واغرورقت عيناه بالدموع فسالت مدرارة علي أرض وجهه فأغرقت لحيته البيضاء وأخذ ينتحب وهو يقول بصوت جهوري أثر فيه البكاء اللهم إني قد لِنت للناس حتي خشيتك في اللين ثم اشتددت حتي خشيتك في الشده اللهم إنك تعلم أنني منك أشد فرقا منهم مني فأين المخرج؟ ويشعر عبدالرحمن بن عوف بما أصاب عمر فيقول أف لهم من بعدك يا عمر ويتدخل خالد بسرعه كالسهم المارق أنا اعرف لك مخرجا من ذلك يا عمر فيقول عمر متلهفا فأدركني به يا أبا سليمان جزاك الله صالحا فيقول خالد اعتزل هذا الأمر ودع الناس ليختاروا رجلا غيرك فيرد عمر والله ما أردت بهذا وجه الله يا خالد فيرد خالد وهل أردت وجه الله إذ عزلتني في الشام ؟؟
فيجيب عمر أنت الذي تقول أن عمر ولاني الشام حتي إذا صارت بثينة وعسلا عزلني و ولي غيري .
خالد يرد أجل قلت هذا القول للمسلمين في كل مكان فيرد عمر أنشدك الله يا خالد أتعلم أنني نزعت من يدك البثينة والعسل لأستاثر بهما لنفسي أو ذوي قرباي ؟
خالد : كلا إني لم أقل ذلك إني لم أدع عليك هذا .
عمر : أنشدك الله مره اخري هل تعلم أن أبا عبيده متهالك علي ذلك ؟
فيرد خالد معاذ الله يا عمر أن أبا عبيده ما علمت وعلم الناس لأزهد الناس في الدنيا و أرغبهم في الأخرة فيقول عمر فأي وجه أردت إذ عزلتك يا خالد غير وجه الله سبحانه ؟ خالد برهانك علي ذلك عمر أي برهان تريد يا خالد ..
خالد يرد : إعتزل هذا الأمر وهنا علت بعض أصوات مطالبة عمر بأن يعتزل . فقال عمر في حزم خالطه بعض اللين ليتني أستطيع أن أعتزل هذا الأمر وأريد بذلك وجه الله ولو فعلت لأدركت به حظ نفسي في الراحة والسلامة وما هكذا يراد وجه الله !
فيقول خالد هذه قضيه لا ينبغي أن تحتكم فيها إلي نفسك إن كنت حقا تلتمس فيها وجه الحق وربما خيل إليك ذلك من فرط حرصك علي الإمارة .. عمر يرد وقد تهدج صوته رعبا إن يكن هذا الذي تقوله يا خالد حقا فويلي وويل أمي إن لم يغفر الله لي . فيبادره خالد هؤلاء صحابة رسول الله وقد توفي وهو عنهم راض فلم لا تستبرئ لنفسك فتستفتيهم في أمرك ؟ فيتوجه عمر الي الصحابة قائلا يا صحابة رسول الله قد نصحني خالد وصدق أنكم وجوه المسلمين و ألسنتهم فأفتوني في أمري إن كان خير الناس في بقائي أميرا لهم بقيت وإن كان خيرهم في إعتزالي أعتزل .
وفجأه قام أبو عمرو إبن حفص من بني مخزوم قريب خالد وقال يا أمير المؤمنين اعتزل خير لك وللمسلمين .
وتداخلت أصوات كبار الصحابة يقولون أسكت يا صبي كلا يا أمير المؤمنين أن خير الناس في بقائك ولا يصلح لهذا الامر غيرك ويتساءل عمر يا بني مخزوم هل ينطق هذ الفتي بلسانكم ؟ وهنا ينبري الحارث إبن هشام ويرد كلا يا أمير المؤمنين إنما ينطق عن نفسه وعن الشيطان لا والله لا نكون آخر الناس إسلاما وأولهم سعيا إلي الفتنه في الإسلام إن خالد سيف الله وفارس المسلمين لكن أمر المسلمين لا ينهض به خير منك يا عمر ولا أكفأ منك ولا أقوي منك ولئن ساءنا إنك عزلت خالدا إن ذلك لمن شأنك وأنت المسئول أمام الله في ولايته وفي عزله .
وينظر خالد إلي الحارث إبن عمه نظرة إستنكار بدت في قسمات وجهه وعلا بها صوته وقال ما أسرع ما تغيرت علينا يا حارث من أجل إبنتك أم حكيم زوج عمر فيرد الحارث إن تكن أم حكيم إبنتي زوجا لعمر فان فاطمه بنت الوليد أختك زوجتي وانها لتحرضني عليه ما لا تحرضني أم حكيم عليك ولكنها كلمة حق أقولها غير محاب له ولا ظالم لك ولا ناظر إلا إلي خير ألناس فيرد خالد مغاضبا ما كان هذا رايك اذ كنا بالشام فيرد الحارث باطمئنان أجل لقد كنت أوقع في إبن الخطاب كلما ضمني مجلس واتمني موته الي إن سمعني أبو عبيده ذات يوم فقال ويحك إذا مات فاروق الإسلام ما أحب أن لي ما تطلع عليه الشمس أو تغرب وأن أبقى بعده وسترون ما أقول إذا بقيتم فإن ولي وال بعد عمر وأخذهم بما كان يأخذهم به لم يطع له الناس ولم يحتملوه وإن ضعف عنهم قتلوه فيقول عمر او قال أبو عبيده ذلك يا هشام ؟ فيرد الحارث أي ولله يا أمير المؤمنين فيتنهد عمر ويقول يرحم الله أبا عبيده إن من نكد الدنيا أن تزهد في الأمر ويُظن بك الحرص عليه شر ما لقيت منكم يا معشر قريش ولما لقيت من نفسي أشد اما والله لوددت أني وإياكم في سفينتين في لجة البحر تذهبان بنا شرقا وغربا فلم يعجز ألناس أن يولوا رجلا منهم فإن استقام اتبعوه وإن جنف قتلوه وهنا ينبري خالد كفارس مغوار فيتذكر الروم فيقول بنبرات صادقه يا أمير المؤمنين ما ينبغي أن نحبس الناس أطول مما فعلنا وعسي أن يكون غزاة الروم قد نزلوا من سفنهم بالساحل
فأصرف الناس وجهزهم للقتال .
لكن الفاروق يقول مصراً لا والله لا أفعل يا خالد حتي أعلم أنه قد صلح أمرنا واتفقت كلمتنا ويئس الشيطان أن يفرق بيننا .
وهنا وفي تصاعد درامي هائل ينطق خالد وهو مفعم بمشاعر مختلفة مختلطة بعد أن هزته كلمات عمر بالصدق لقد وضح اليوم أن سابقة الاسلام لا يعدلها شئ عند المسلمين ولو جئتهم بهرقل في قفص من حديد وإن مثلي ومثلك يا عمر كما قال الشاعر
يا لك من قبره بمقفر خلا لك الجو فبيضي وأفرخي
ونقري ماشئت أن تنقري
وهنا وفي لقطة سريعه يدخل يزيد إبن اخت النمر مسجد النبي مسرعا بكتاب من عبد الله إبن الأرقم يترقب الناس ما في الكتاب فإذا عمر يقول لهم أبشروا فإن السفن التي وقفت في عرض البحر ليست من سفن الروم بل من سفن الحبشه وأنها قد اقلعت بعدما تزودت بالماء العذب وفي منظومه متناغمة تتعالي الاصوات بالتكبير وبحمد الله ثم يعود عمر ليقول لخالد هات الآن ما عندك يا خالد إن بقي عندك شئ ؟؟ قناعة بما رأي عمر من استفتاء علي شعبيته الكاسحة فيرد خالد وقد أقنعه صدق عمر ورجاحة عقله وسلامة رؤيته وحسن مذهبه لا يا أمير المؤمنين ما بقي عندي شئ وقد تهللت أسارير خالد واطمأن قلبه وارتاح فؤاده وانطفات نيران غضبه وذهب عنه غيظه وهدأت ثائرة نفسه فنظر إلي عمر بن الخطاب نظرة الود و الإجلال مكبرا إياه وكأنه يعتذر عن كل ما تقدم. فينتفض عمر ويتوجه بالخطاب إلي الناس قائلا يا معشر الناس أثنوا علي أخيكم خالد لشجاعته وصراحته وطاعته . يشهد الله أني لم أعزل خالدا عن سخطة ولا عن خيانو ولكن الناس فتنوا به فخشيت أن يوكلوا اليه ويبتلوا .
وهنا يسدل الستار على تلك المواجهة الحاسمة بين عمر وخالد فيتهلل الجميع فرحا ويتصافحون ويعانق بعضهم بعضا وقد ذهبت عنهم الأحقاد والخلافات ولم يُر الشيطان يومها إلا ذليلا حقيرا يحثو التراب فوق رأسه إذ لم ينل من الجبلين الأشمين ولم يفرق جمع الناس ولم يعكر النبع الصافي بينهم وهنا يظهر عمر في لقطه فريده إذ يتجه إلي خالد ويصافحه ويعلن للدنيا ولخالد إنه عليه كريم وإليه حبيب وفي مرض وفاته قال خالد لأبي الدرداء قد كنت وجدت علي عمر في نفسي في أمور لما تدبرتها وحضرني من الله حاضر علمت أن عمر كان يريد وجه الله بكل ما فعل ولقد توفي خالد بالشام عن خمسة وخمسين عاما وجعل عمر بن الخطاب وصيا علي تركته التي لم تزد عن فرسه وسلاحه وعندما علم عمر بذلك استعبر فبكي طويلا وهو يقول عجزت النساء أن يلدن مثل خالد
لا حول ولا قوة الا بالله لقد رضي عني خالد ورضيت عنه وجعلني وصيا له بعد موته رحم الله أبا سليمان كان علي غير ما ظننا به بل إن الفاروق عمر عندما طُعن وشعر بدنو أجله وطلبوا منه ان يحدد خليفة من بعده قال بعد أن ذكر أبا عبيده إبن الجراح وسالم مولي أبي حذيفه ولو ادركت خالدا لوليته ثم قدمت علي ربي فقال لي من إستخلفت علي أمة محمد ؟ لقلت سمعت عبدك وخليلك يقول لخالد وعنه أنه سيف من سيوف الله سله الله علي المشركين .
وبعد .. كانت المناظرة رائعة في المساجلات التي دارت بين عملاقين رائعة في جديتها وصدق اطروحات كل منهما إمتازت بحسن عرض الآراء واحترام الآخر فلم يظهر بها طوال الوقت الفاظ نابيه او إشارات ساخرة او اصطياد أخطاء أو طعن في أشخاص كما خلت من المقاطعات وأعطت درسا نادرا في أدب التحاور تميزت بالصدق والشفافية وتمايزت بالشجاعة والمكاشفة كما التزم الحاضرون بأدب الإنصات إلا ما ندر في بعض الهمهمات التي لم تتجاوز الثواني المعدودة كما خلصت المناظرة الرائعة إلي إرساء مبادئ ستظل خالدة أبد الدهر فها هي الشوري والديموقراطية بأزهي صورها كما ظهرت حالة نكران الذات واعلاء قيمة الوطن والمصلحة العامة كما ظهرت قيمة المحاسبة والمراقبة للولاه كما ظهرت قوه عمر كرجل دولة لم يخش تلك المواجهه مع عملاق بحجم خالد كما ظهر في النهاية معدن خالد الرائع الذي أذعن للحق فهدأت نفسه وانطفا أوار فتنة اطلت برأسها كادت أن تأتي علي الاخضر واليابس كما ظهر الحق جليا فيما شهد به الحارث ابن عم خالد ابن الوليد كما ظهر على لسان عبدالرحمن إبن عوف كما ظهرت غيرة الجميع علي الوطن والذود عنه والاستعداد بالتضحية في سبيله بالنفس والنفيس والغالي والرخيص
فسلاما علي عمر إبن الخطاب فاروق الأمة وقائد الدوله وحادي النهضه لم يفر أحد فريه رفع الرايه عالية خفاقه بنور العدل وعز الرحمه وسلاما علي خالد ابن الوليد سيف الله المسلول بطل الامه المغوار وسيفها البتار وفارسها الجسور قامتان بلغتا ذروة المجد وكفتانا الكلام عند التحدي فاللهم ارحم عمرا وخاالدا فإنهما كانا من خير خلقك وأحبهما إليك نجمان زاهران بزغا في سماء البطولة والمجد والشرف استوقفا الزمان وسجلا فيه بحروف من كرامة مواقف ينحني لها التاريخ إكبارا وإجلالا وإعجابا وستقف البشريه أمامهما طويلا لتتناولهما بالدرس والتمحيص وستظل االمناظرة الرائعة خالدة خلود الدهر شاهدة علي إننا أمة متحضرة كان لها قصب السبق في إرساء مبادئ الحوار منذ فجر التاريخ وأن لنا الريادة في قيادة البشرية بالحق والعدل والشوري والقسطاس المستقيم وصدق الله العظيم
كنتم خير أمة أُخرجت للناس
المستشار : عادل الرفاعي… 💐

Share Button

By ahram misr

رئيس مجلس ادارة جريدة اهــــرام مــصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *