Share Button

 

كانت مصر العظيمة و لما تزال تاج العلاء في مفرق الشرق فترابها تبر و نهرها فرات و سماؤها مصقولة كالفرند “كالسيف” و ها هي الأهرامات تقف شاهدة علي حضارة مصر و المصريين بنقوشها اللواتي أعجزت طوق صنعة المتحدي و مازالت الدنيا كلها لم تفهم إلي الآن أسرار ما كان عند المصريين القدماء من علوم مخبوءة طي البرديات من فنون و و علوم و طب و فلسفة و تشريع و علوم التحنيط و علوم النجوم فضلاً عن إنهم بنوا الأساطيل التي غزت البحار و ركبت متنها و أخضعت أمواجها
و لقد تحطمت أمام هذه القلعة التليدة و علي صخراتها _ التي قُدَّت من صخر الحياة ذاتها _ أطماع الغزاة .
و لله در شاعر النيل حافظ إبراهيم حين قال :

كم بغت دولة عليَّ و جارت
ثم زالت و تلك عقبي التعدي
إنني حرة كسرت قيودي
رغم رُقبَيَ العدا و قطعت قِدِّي
و تماثلت للشفاء و قد دانيت حيني و هيأ القوم لحدي
قل لمن أنكروا مفاخر قومي
مثل ما أنكروا مآثر وُلدي
هل وقفتم بقمة الهرم الأكبر
يوما فريتم بعد جهدي ؟
هل فهمتم أسرار ما كان عندي
من علوم مخبوءة طي بردي ؟
ذاك فن التحنيط قد غلب الدهر
و أبلي البِلي و أعجز نِدّي
قد عقدت العهود من عهد فرعون
ففي ‘مصر’ كان أول عقدِ
إن مجدي في الأوليات عريق
من له مثل أولياتي و مجدي ؟
أنا أم التشريع قد أخذ الرومان
عني الأصول في كل حدِ
و رصدت النجوم منذ أضاءت
في سماء الدجي فأحكمت رصدي
و قديما بني الأساطيل قومي
ففرقنا البحار يحملن بندي .

و ها هي مصر عبر الزمان تتحطم علي أعتابها كل الحملات الصليبية التي أرادت غزو شعوبها و احتلال أراضيها .
و في العام ٦٦٥ هجريا قاد هولاكو التتار و أطاح بدولة الخلافة في بغداد و ذبح أهلها و أفني حضارتها و نهب ثرواتها و قتل الأخضر و اليابس و استولي بخسة علي أندر الكتب و المخطوطات و جاء بعدها فَغَزَا دمشق و قتل أهلها و شرد سكانها و أراد أن يظفر في النهاية بالجائزة الكبرى مصر العظيمة بوابة التاريخ ليعبر من خلالها إلي شعوب أوروبا ليهلك فيهم الحرث و النسل إلا أن جيش مصر العظيم _ و هم خير أجناد الأرض _ قد تصدوا لهم و أذاقوهم الذل و الرغام و كسروا شوكتهم و منعوا عن الأمة بأسرها و عن أوروبا و عن العالم كله حينئذ هذا الطوفان الهمجي الساحق و حمي البشرية كلها من أعاصير الغضب الماحقة و صان الأنفس و الأعراض و حفظ الأرض بعد أن أَبَيَ المصريون أن يعيشوا الذل في صخب الإباء المستعار .
كما قاومت مصر كل غازٍ أو طامع أو محتل و لقد أثبت التاريخ أن أحداً من هؤلاء الغزاة لم ينل من مصر ولا من شعبها ولا من ترابها إذ ظلت أبية مرفوعة الرأس قوية الشكيمة عزيزة الهامة تأبي الذل و الضيم و تدفع بسواعد أبنائها و دمائهم شر كل معتدٍ أثيم حتي لقد رصد كل الباحثين أن مصر لم تتأثر لا في ثقافتها ولا هويتها ولا لغتها بأيٍ من الغُزاة .
و لما كانت مصر هي مهد الأنبياء و مهبط الرسالات و موئل القيم و ملاذ الفضلاء لكل وقت و حين كان من الطبيعي أن يلجأ إليها إبراهيم الخليل أبو الأنبياء عليه السلام
و ذلك في عصر الهكسوس بل إن البعض يقول أنه نشأ بمصر و بُعث فيها و آية ذلك أن دعوته إلي التوحيد قد بدأت بالاعتراض علي عبادة قومه لآزر “الذي هو أوزوريس”
و في ذلك يقول الله تعالي :
” و إذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك و قومك في ضلال مبين” (الأنعام ، ٧٤ )

و لعله من الطريف أن ذكر صاحب كتاب بدائع الزهور في وقائع الدهور أن خليل الله عليه السلام لما تزوج السيدة سارة بعد نجاته من الحريق بمعجزة ملأت أخبارها الدنيا أجلاه النمروذ
فتوجه إلي مصر و علم أن بها فرعون جباراً هو طوطيس و أنه كان شديد الشغف بالنساء و الولع بهن و كان الخليل قد وضع زوجته سارة في صندوق ليخفيها عن الأعين فلما اكتشف الحراس ذلك ادعي الخليل أنها أخته _ عنيَّ أنها أخته في الخلق_
و ما أن وقعت عينا الفرعون عليها حتي طلب الزواج بها فرد الخليل أنها متزوجة و أن زوجها حيٌ لما يزال إلا أن الملك أعمته الشهوة فأخذها قهرا و أراد بها سوءً فرفع الله الحجاب عن بصر إبراهيم الذي كان خارج القصر حتي إنها لم تغب عن ناظريه ولا عن معاينته هنيهة
فلما دني الفرعون منها و أراد أن يتناولها بخسة طُبع عليها و بغدر استوت عليه سليقته بعد أن سار عبدا اكتوي بلفح غريزته
واجهت سارة هذه القوة المفرطة بعفة ثابتة و اطمئنان كبير و يقين في أنها تستند إلي قوة الله المكين و رفعت يديها إلي السماء و استغاثت بربها فتزلزلت أركان القصر و سقط الفرعون صريعا فتيبست يداه و سائر أعضائه و سقط مغشياً عليه ثم أفاق فحاول المرة تلو الأخري فأصابه ما كان في المرة الأولى و زلزلت به الأرض زلزالها و أدرك أن سارة احتمت بركن ركين و رب جليل فانقلب الثور الهائج إلي حمل قليل الحيلة فرجع القهقري و علم أنه يواجه قوة لا قبل له بها
إذ كتبت يد القدرة الإلهية لها النجاة بقلم أزلي مسموع الصرير مرهوب النفير بعد أن ألجمته صواعق القدر التي بعثرت نفسه و مزقت بدنه و أحالته إلي غر ضعيف وقف أمامها عارٍ من كل أسباب القوة
كل ذلك و الخليل ينظر و الجليل من فوقهم يري و يسمع
و من هنا صرخ الفرعون مستغيثا بكل ما أوتي من قوة بالقديسة سارة طالبا إليها أن تدعو ربها القوي المتين أن يرفع ذلك البلاء عنه بعد أن قطع علي نفسه كل العهود و المواثيق ألا يعود إلي فعلته النكراء تارة أخري
و هنا استغاثت سارة بربها فأعاد إليه عافيته و طلب أبا الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام و اعتذر إليه و استرضاه و أمنه علي نفسه و دعوته و أطلق يده في الدعوة إلي التوحيد في طول البلاد و عرضها و ظل إبراهيم الخليل يدعو بدعوته المصريين بطول البلاد وعرضها و أهداه الفرعون الطاهرة هاجر فتزوجها لتبدأ البشرية فصلا جديدا من فصول القدر
” يراجع كتاب بدائع الزهور في وقائع الدهور للعلامة محمد ابن أحمد ابن اياس ”

و في إحدي رحلاته أعاد العمران إلي أول بيت وضع للناس في الأرض _ البيت الحرام _ قبلة إدريس النبي و قومه
و في ذلك يقول الله تعالي :
” و إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، ربنا و اجعلنا مسلمين لك و من ذريتنا أمة مسلمة لك و أرنا مناسكنا و تب علينا إنك انت التواب الرحيم
ربنا و ابعث فيهم رسول منهم يتلو عليهم آياتك و يعلمهم الكتاب و الحكمة و يزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم .
( البقرة من ١٢٧ إلي ١٢٩ )

هذا و قد اصطحب معه ابن أخيه نبي الله لوط ابن هاران ابن تارح عليه السلام الذي آمن برسالته و اهتدي بهديه و جاب معه مصر بطولها و عرضها يدعو إلي التوحيد مع عمه خليل الله إبراهيم إلي أن أذن له الله بأن يُبعث رسولا إلي أهل سدوم في دائرة الأردن و في ذلك يقول الله تعالى :
“فآمن له لوط و قال إني مهاجر إلي ربي إنه هو العزيز الحكيم” ( العنكبوت ٢٦ )

و أذن الله لهاجر المؤمنة المصرية أم العرب العاربة أن تلد النبي إسماعيل جد العرب ليكون من أبنائه سيد الأنبياء و إمام المرسلين الذي انبلجت أنوار هداه فأضاءت عتمات الدنيا و هدت البشرية إلي الحق و فجرت ينابيع الحكمة و الإنصاف و المعدلة فقادت الدنيا إلي شاطئ الأمان
و هكذا كانت مصر و لما تزال منارة العالم و جوهرة التاج و درة الشرق و باعثة النور و الأمل و بوابة التاريخ و صانعة المجد و الحضارة
و لله در شاعر النيل حافظ إبراهيم إذ يقول في قصيدته الخالدة مصر

أتراني و قد طويت حياتي
في ميراس لم أبلغ اليوم رشدي ؟
أي شعب أحق مني بعيشٍ
وارف الظل أخضر اللون رغدِ ؟
نظر الله لي فأرشد أبنائي
فشدوا إلي العلا أي شدِ
قد وعدت العلا بكل أبيٍّ
من رجالي فأنجزوا اليوم وعدي
أمهروها بالروح فهي عروس
تسنأ المهر من عروضٍ و نقدِ
و ردوا بي مناهل العز حتي
يخطب النجم في المجرة وُدي
و ارفعوا دولتي علي العلم و الأخلاق
فالعلم وحده ليس يُجدي
إن في الغرب أعينا راصدات
كحلتها الأطماع فيكم بسُهدي
فوقها مجهرٌ يريها خفاياكم
و يطوي شعاعه كل بُعدي
فاتقوها بجنة من وئام
غير رث العرا و سعيٍ و كدِ
إننا عند فجر ليل طويل
قد قطعناه بين سهد و وجد
غمرتنا سود الأهاويل فيه
و الأماني بين جزر و مد
و تجلي ضياؤه بعد لأيٍ
و هو رمز لعهدي المُسّتَّرد
فاستبينوا قصد السبيل و جدوا
فالمعاني مخطوبة للمجد

.

المستشار : عادل رفاعي 🌹♥️

Share Button

By ahram misr

رئيس مجلس ادارة جريدة اهــــرام مــصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *