🤎🌹🤲أهل اليقين🤲🌹🤎بقلم المستشار عادل رفاعي

علمني أستاذي رحمه الله أن اليقين بالله هو من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد وبه تفاضل العارفون وفيه تنافس المتنافسون وإليه شمّر العاملون و أن عمل القوم إنما كان عليه وإشاراتهم كلها إليه، فإذا ما تزوج الصبر باليقين، وُلد بينهما حصول الإمامة في الدين، فالله تعالى يقول

(وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) السجدة ٢٤”.

وأفهمني أن الله تعالي خص أهل اليقين بالانتفاع بالآيات و البراهين فقال وهو أصدق القائلين

(وفي الأرض آيات للموقنين) الذاريات ٢٠”.

وأنه تعالي خص أهل اليقين بالهدي والفلاح فقال

(والذين يؤمنون بما أُنزل إليك و ما أُنزل من قبلك و بالآخرة هم يوقنون، أولئك علي هديً من ربهم و أولئك هم المفلحون)

البقرة ٤:٥ “.

وقد أخبر عن أهل النار أنهم لم يكونوا من أهل اليقين فقال تعالي

( وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين)

الجاثية ٣٢”.

فاليقين روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال الجوارح وهي حقيقة الصديقية و هي قطب هذا الشأن الذي عليه مداره.

وعادت بيّ الذاكرة المتعبة المهيضة القهقري حين هممت أن أتقدم بأوراقي للإلتحاق بقدس أقداسنا علمني أبي رحمه الله أن أتوجه بنفسي و عقلي وقلبي وكياني وخواطري إلي الله الجليل وأن أدعوه وحده وأنا متيقنٌ بالإجابة، فحملني يقيني و أنا سائر إلي الله -فلولاه ما سار ركب إلي الله ولا ثبت لأحد قدم إلا به-

وخلوت إلي ربي في السحر لأبثه لواعج نفسي ونبضات قلبي

(أليس الله بكافٍ عبده) الزمر ٣٦”.

فإذا بعطاء الله المنان يظللني في هاجرة الأيام و إذا بشآبيب رحمته تطوق عنقي من غير حول مني ولا قوة، وأذكر أن أحد النافذين من أصحاب المقام الرفيع آنئذ قد هزأ مني حين علم بأمري و ودعني بكم هائل من قهقهات ساخرة لم تؤثر في يقيني قيد أنملة، لكنه حين علم بأمري لاحقاً أُسقِط في يده وأدرك أن اليقين الذي التحفت به لم يكن تحليقا علي متن سراب الخديعة، لكنه اليقين في رب كريم يستحيي أن يرفع إليه العبد يديه فيردهما صفراً خائبتين

(كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز) المجادلة ٢١”.

و أيقنت ساعتها أن العلم تعارضه الشكوك أما اليقين فلا شك فيه البته، فهو ملاك القلب وبه كمال الإيمان و باليقين عُرِف الله تعالي وبالعقل عُقِل عن الله.

هذا وقد روي عبد الله بن مسعود عن النبي أنه قال:

” لا ترضين أحداً بسخط الله ولا تحمدن أحدا علي فضل الله ولا تذمّن أحداً علي ما لم يؤتك الله فإن رزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص ولا يرده عنك كراهية كاره، و أن الله بعدله وقسطه جعل الروح و الفرح في الرضا واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط” أخرجه الطبراني في الكبير

١٠/٢٦٦ وأبو نعيم في الحلية ٤/١٢١ “.

هذا واليقين قرين التوكل ولهذا فُسِر التوكل بقوة اليقين و الصواب أن التوكل ثمرته و نتيجته ولهذا حسن اقتران الهدي به، فالله تعالي يقول:

(فتوكل علي الله إنك علي الحق المبين) النمل ٧٩”.

ومتي وصل اليقين إلي القلب امتلأ نورا و اشراقا وانتفي عنه كل ريب وشك وسخط وهم وغم فامتلأ محبة لله وخوفا منه ورضا به وشكراً له وتوكلاً عليه وإنابة إليه وقد قال سهل:

ابتداؤه المكاشفة كما قال بعض السلف: لو كُشف الغطاء ما ازددت يقينا.

ثم المعاينة والمشاهدة

و قال ابن خفيف: هو تحقق الأسرار بأحكام المغيبات وعند القوم:

اليقين لا يساكن قلبا فيه سكون إلي غير الله

وقال ذو النون:

اليقين يدعو إلي قصر الأمل وقصر الأمل يدعو إلي الزهد و الزهد يورث الحكمة وهي تورث النظر في العواقب

وقال :

وثلاثة عن أعلام اليقين

١ قلة مخالطة الناس في العشرة

٢ ترك المدح لهم في العطية

٣ التنزه عن ذمهم عند المنع

وثلاثة من أعلامه أيضا:

١ النظر إلي الله في كل شيء

٢ الرجوع إليه في كل أمر

٣ الاستعانة به في كل حال

و قال الجنيد :

اليقين هو استقرار العلم الذي لا ينقلب ولا يحول ولا يتغير في القلب

و قال ابن عطاء:

علي قدر قربهم من التقوي أدركوا من اليقين.

وأصل التقوي مباينة النهي وهو مباينة النفس، فعلي قدر مقارقتهم النفس وصلوا إلي اليقين.

وقيل : اليقين هو المكاشفة وهو علي ثلاثة أوجه

١ مكاشفة في الاخبار

٢ مكاشفة بإظهار القدرة

٣ مكاشفة القلوب بحقائق الإيمان

و المراد بالمكاشفة ظهور الشيء للقلب بحيث يصير نسبته إليه كنسبة المرء إلي العين، فلا يبقي معه شكٌ ولا ريب أصلا

وهذا نهاية الإيمان وهو مقام الإحسان وقد يريدون به أمرا آخر، وهو ما يراه أحد في برزخ بين النوم واليقظة عند أوائل تجرد الروح عن البدن

وقال السُريّ:

اليقين سكونك عند جولان الموارد في صدرك لتيقنك أن حركتك فيها لا تنفعك ولا ترد عند مقضيا.

وقال الجنيد:

قد مشي رجال باليقين علي الماء ومات بالعطش من هو أفضل منهم يقينا.

و لقد أنهي إليّ صديقي الأزهري النابه أن الأمر مختلف في تفضيل اليقين علي الحضور و الحضور علي اليقين فقيل إن الحضور أفضل لأنه وطنات و اليقين خطرات وبعضهم رجح اليقين و قال هو غاية الإيمان والأول:

رأي أن اليقين ابتداء الحضور فكأنه جعل اليقين ابتداء و الحضور دواما

وهذا الخلاف لا يتبين فإن اليقين لا ينفك عن الحضور ولا الحضور عن اليقين

بل في اليقين من زيادة الإيمان و معرفة تفاصيله و شعبه وتنزليها منازلها ما ليس في الحضور فهو أكمل منه من هذا الوجه وفي الحضور من الجمعية وعدم التفرقة والدخول في الفناء ما قد ينفك عنه اليقين، فاليقين أخص بالمعرفة والحضور أخص بالإرادة

و قال النهر جوري:

إذا استكمل العبد حقائق اليقين صار البلاء عنده نعمة والرخاء عنده مصيبة

وقال أبو بكر الوراق:

اليقين علي ثلاثة أوجه

١ يقين خبر

٢ يقين دلالة

٣ يقين مشاهدة

ويراد بيقين الخبر سكون القلب إلي خبر المخبر وتوثقه به.

وبيقين الدلالة ماهو فوقه وهو أن يقيم له -مع وثوقه بصدقه-

الأدلة الدالة علي ما أخبر به

وهذا كعامة أخبار الإيمان والتوحيد والقرآن

فإنه سبحانه تعالي مع كونه أصدق الصاقين يقيم لعباده الأدلة والأمثال والبراهين علي صدق أخباره فيحصل لهم اليقين من الوجهين، من جهة الخبر ومن جهة الدليل فيرتفعون من ذلك إلي الدرجة الثالثة وهي يقين المكاشفة بحيث يصير المُخَبر به لقلوبهم كالمرئي لعيونهم

فنسبة الإيمان بالغيب حينئذ إلي القلب كنسبة المرء إلي العين وهذا أعلي أنواع المكاشفة وهي التي أشار إليها عامر بن عبد قيس في قوله لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا وقال بعضهم رأيت الجنة و النار حقيقة قيل له وكيف ؟ قال :

رأيتهما بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورؤيتي لهم بعينه آثر عندي من رؤيتي لهما بعيني فإن بصري قد يطغي و يزيغ بخلاف بصره صلي الله عليه وسلم

واليقين يحمله علي الأهوال وركوب الإخطار وهو يأمر بالتقدم دائما فإن لم يقارنه العلم حُمِل علي المعاطب

والعلم يأمر بالتأخر والإحجام فإن لم يصحبه اليقين قعد بصاحبه عن المكاسب والغنائم

فلما سألته عن درجات اليقين ؟

قال: هو علي ثلاث درجات

الأولي: علم اليقين وهو قبول ما ظهر من الحق وقبول ما غاب للحق والوقوف علي ما قام بالحق وفي هذه الدرجة ثلاثة أشياء هي متعلق اليقين وأركانه

الأولي قبول ما ظهر من الحق تعالي أوامره ونواهيه وشرعه ودينه الذي ظهر لنا علي ألسنة رسله فنتلقاه بالقبول والانقياد و الاذعان والتسليم للربوبية والدخول تحت رق العبودية

الثاني: قبول ما غاب للحق وهو الإيمان بالغيب الذي أخبر به الحق سبحانه علي لسان رسله من أمور المعاد وتفصيله والجنة والنار والصراط والميزان والحساب وتشقق السماء وانفطارها وانتثار الكواكب ونسف الجبال و طي العالم وأمور البرزخ، فقبول هذا كله -ايمانا وتصديقا وايقانا- هو اليقين

بحيث لا يخالج القلب فيه شبهة ولا شك ولا تناس ولا غفلة عنه فإنه إن لم يهلك يقينه أفسده وأضعفه

و الثالث: الوقوف علي ما قام بالحق سبحانه من أسمائه وصفاته وأفعاله وإثبات الأسماء والصفات بلا تعطيل أو نفي أو تهجم  مع إخلاص العمل لله وعبادته وحده

وذلك يقابله الشرك والتعطيل علاوة علي أن المعطل جاحد للذات أو لكمالها وهو جحد لحقيقة الإلهية.

والخلاصة أن اليقين هو الوقوف علي ما قام بالحق من أسمائه وصفاته ونعوت كماله وتوحيده.

فسألته عن الدرجة الثانية وهي عين اليقين

والفرق بين عين اليقين وعلم اليقين وحق اليقين

فرد أن المراتب الثلاثة كمثل من أخبرك أنه عنده عسلا وأنت لا تشك في صدقه ثم أراك إياه فازددت يقينا ثم ذُقت منه

فالأول علم اليقين و الثاني عين اليقين و الثالث حق اليقين

فعلمنا الآن بالجنة و النار علم يقين فإذا أُزلفت الجنة في الموقف للمتقين وشهدها الخلائق وبرزت الجحيم للغاوين وعاينها الخلائق فذلك عين اليقين، فإذا أُدخِل أهل الجنة الجنة و أهل النار النار فذلك حينئد حق اليقين

وأما عن حق اليقين فهو إسفار صبح الكشف ثم الخلاص من كلفة اليقين ثم الفناء في حق اليقين، وهذه الدرجة لا تكون إلا للرسل صلوات الله عليهم أجمعين

فإن الرسول صلى الله عليه وسلم رأي بعينه الجنة و النار وموسي عليه السلام سمع كلام الله منه إليه بلا واسطة وكلمه تكليما وتجلي للجبل وموسي ينظر فجعله دكاً هشيما،

فسألته وهل يحصل لنا حق اليقين ؟

فرد: بلي، يحصل لنا حق اليقين من مرتبة وهو ما أخبره الرسول صلى الله عليه وسلم من حقائق الإيمان المتعلقة بالقلوب وأعمالها فإن القلب إذا باشرها وذاقها صارت في حقه حق اليقين

وأما في أمور الآخرة والمعاد ورؤية الله جهرة عيانا وسماع كلامه حقيقة بلا واسطة، فحظ المؤمن منه في هذه الدار الإيمان وعلم اليقين وحق اليقين يتأخر إلي وقت اللقاء

ولكن لما كان السالك ينتهي إلي الفناء ويتحقق شهود الحقيقة ويصل إلي عين الجمع

قال العلماء:

حق اليقين هو إسفار صبح الكشف يعني تحققه وثبوته وغلبة نوره علي ظلمة ليل الحجاب، فينتقل من طور العلم إلي الاستغراق في الشهود بالفناء عن الرسم بالكلية فلما سألته عما يعني بالخلاص من كلفة اليقين؟ رد :

أن اليقين له حقوق يجب علي صاحبه أن يؤديها و يقوم بها ويتحمل كلفها ومشاقها فإذا فُنِيّ في التوحيد حصل له أمور أخري رفيعة عالية جدا يصير فيها محمولاً بعد أن كان حاملا وطائرا بعد أن كان سائرا فتزول عنه كلفة حمل تلك الحقوق

بل يبقي له كالنفس وكالماء للسمك وهذا الأمر التحاكم فيه إلي الذوق و الإحساس فلا تسرع إلي إنكاره

ثم ذكر حال الصحابي الجليل الذي أخذ تمراته و قعد يأكلها علي حاجة وجوع وفاقة إليها فلما عاين سوق الشهادة قامت ألقي قوته من يده وقال إنها لحياة طويلة إن بقيت حتي آكل هذه التمرات و ألقاها من يده وقاتل حتي قُتل

“صحيح أخرجه مسلم كتاب الجهاد حديث ١٣١٢ “.

(يراجع كتاب مدارج السالكين للعلامة ابن القيم ص ١١٩ : ١٢٥)

فاللهم إنا نسألك إيمانا يباشر قلوبنا ويقيناً صادقا حتي نعلم أنه لن يصيبنا إلا ما كتبت لنا ورضنا بما قسمت ونجنا مما نكره وانزع أمل الدنيا والفقر من بين أعيننا واملأ أجوافنا بالحكمة، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا و بين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا علي من ظلمنا وانصرنا علي من عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا من لا يرحمنا وصل علي حبيبنا وقرة أعيننا وشفيعنا صلاة تملأ خزائنك نورا وتكون لنا وللمؤمنين فرجا وفرحا وسرورا.

المستشار: عادل رفاعي 🌹❤️