Share Button

بقلم : د. مجدي إبراهيم

“اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كتَاباً مُّتَشَابِهَاً مَّثَاني تَقشَعُّر مِنه جُلُودُ الذَّين يَخْشَونَ رَبَّهُم ثمَّ تَلِينُ جُلُوُدُهُم وَقُلُوُبُهُم إلى ذِكرِ اللهِ، ذلكَ هُدَى اللهِ يَهدِي بِهِ مَن يَشَاءُ، ومَنْ يُضلِلِ اللهُ فمالَهُ من هادٍ”.
ليلحظ القارئ “أحسن الحديث” الذي تقشعرُ منه الجلود وتلين القلوب، وليلحظ فضل الله لمن يريد أن يهديهم إلى هذه الحقيقة؛ فعلى قشعريرة الجلود من خشية الله، وعلى إلانة الجلود والقلوب إلى ذكر الله وما نزل من الحق، تقوم الحلاوة كذاتية خاصّة للقرآن.
للإمام محمد عبده – طيّب الله ثراه – عبارة قويّة في رسالة “التوحيد” جاء فيها قوله : وأنفس ما كانت العرب تتنافس فيه من ثمار العقل ونتائج الفطنة والذكاء، هو الغلبة في القول والسّبق إلى إصابة مكان الوجدان من القلوب، ومقر الإذعان من العقول”.
ففي العبارة كما يلاحظ نوع من الترتيب المنطقي لا يكون مطلقاً من باب الصدفة العارضة وإنما من باب التحقيق الأمين؛ فالملاحظ أنه قد رتّب منطقياً مقر الإذعان من العقول ترتيباً مباشراً على مكان الوجدان من القلوب .. لماذا؟ لأن القناعة التامة والمذعنة من تطلعات العقل لا تتيسر طفرة واحدة بغير مقدمات تمهيدية يحسُّها الشعور الذي هو مكان الوجدان من القلوب. فإذا العبارة أمامنا تنقسم إلى قسمين : الأول يتعلق بحركة الوجدان، والثاني : يتّصل بإذعان العقل.
القسم الثاني لا يكون ولا يحصل وحركة الوجدان بمنأى عن التأثير، معزولة عن الوعي بما يفعله العقل. ولكن القسم الأول يشعر ويحس ويعي؛ فإذا بإذعان العقل يترجم من فوره عن الشعور ويدرك الإحساس ويعي المخبوء من آثار “البؤرة” الشعورية الدافعة إلى كل هذا، وأبعد من هذا وهو في مستطاع الإدراك. فكأنما كانت عبارة الإمام محمد عبده لها أهميتها في تعليل الربط بين “الشعور” الذي هو مكان الوجدان من القلوب من ناحية، وبين “الفكر” الذي هو مقر الإذعان من العقول من ناحية ثانية. فإذا جاء القرآن فكانت له الغلبة في هذا الميدان، صار ذلك دليلاً لا شك فيه على ارتقاء هذه الخاصة الذاتية فيه، يصيب منها مكان الوجدان من القلوب، ومقر الإذعان من العقول، وهي من بعدُ بلا شك خاصّة “الإعجاز” القاهر للعادة التي جرت عليها ألسنة العرب من التسابق والتنافس في ميدان الغلبة بالقول، والمسابقة بوقع الكلم في الوجدان.
فلم يكن لهم من فضيلة غير هذه الفضيلة المقهورة بغلبة القرآن، حتى إذا ما كانت مرتفعة لديهم، وكانت موطن تسابق وموضع تنافس ومبارزة، فقد قهرها القرآن فيهم بأعلى ضرب من ضروب الفطنة والذكاء؛ فلتتسع إذن دائرة الشعور ما شاء الله لها الاتساع، وليرتفع ميدان التعبير من بلاغة وخطابة ورصانة وسبك أسلوب وجودة إخبار؛ فكل هذا كله لا وجود له بالقياس إلى وحدة القصد الموجّه في القرآن.
القرآن إذن لا هو بكلام كأي كلام ولا ككل كلام ولكنه الكلام الإلهي. وعليه؛ فالشعور الي يستوعبه لا بد أن يستشعر فيه “الوحدة”، والوحدة هذه إنمّا هى “وحدة قصدية” إذا هى وجدت في الشعور، صدرت عنها لامحالة إحادية التجربة التي يتولّد عنها سبحات الفكر من جهة، ويقظة الإحساس من جهة ثانية؛ فالشعور الديني من هذه الجهة مصدرٌ للفكر في فرع أول، بمقدار ما هو مصدر للعاطفة والوجدان في فرع ثان، وكلا الفرعين هما من وحدة القصد أو قصد الوحدة في منب الشعور.
وكل تجربة شعورية تظهر فيها بصورة أو بأخرى وحدة القصد هذه، وأعلاها وأرفعها وحدة القصد في فهم القرآن هى تجربة شعوريّة حيّة ونابضة بالحياة إذ كان القرآن نفسه كائن حيّ، لتجيء وحدة القصد في قوله تعالى :”والله غالبٌ على أمره”، فتتحقق بهذه الغلبة الظاهرة نفوذ سلطان القرآن في الضمائر والقلوب، وفناء ما دون هذه الوحدة من مظاهر الغلبة الظاهرة، وكأنها – مظاهر الغلبة الظاهرة – من جنس الغلبة وهى في الحقيقة لا غلبة لها ولا سلطان. إنما الغلبة حقاً لله في قوله وفي فعله وفي كل صفة يتجلى بها على عباده بنسب ومراتب لا يعلمها إلا هو، لكنها في حكم الغلبة على وجه التحقيق.
“الله غالب على أمره”، بماذا؟ الله غالب على أمره، بشرف التجليات الإلهية في حضراته الخمس : حضرة الذات، وحضرة الأسماء، وحضرة الصفات، وحضرة الأفعال، وحضرة الأحكام. وكلها حضرات مباركة تعطي الغلبة الظاهرة والباطنة في قوله تعالى : “والله غالب على أمرة”، فإذا شاء الحق تبارك وتعالى أن يعطي مثل هذه الغلبة لكلمته العليا قال :” ما فرَّطنا في الكتاب من شئ”، وهو قول يدلُّ على احتواء القرآن على أصول المعارف والعلوم في كلمته المقدّسة.
وممّا يناسبه في القرآن من حكم الغلبة القاهرة، ظاهرة وباطنة، قوله تعالى :”ليس لك من الأمر شئ”، وقوله تعالى :”وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى”؛ فإذا وجدت وحدة القصد في شعور أحد يريد أن يعرف من تجليات المراتب والحضرات الإلهية شئياً على الحقيقة، كان كل ما يريده من علوم ومعارف مجلى من هذه المجالي الإلهيّة، وصار كل ما يطلبه من هذه المعارف والعلوم موجوداً في الكتاب: “ما فَرَّطنا في الكتاب من شئ”.
ذلك هو حكم الغلبة .. وذلك هو حكم الإعجاز الباهر الوضَّاء.
وأكمل ما تتمثل فيه هذه الغلبة تمثَّلها في تحدي “وحدة القصد” في كوامن الشعور والتذوق، فكلنا يعلم أن جهابذة العرب كان تذوقهم لفن الكلمة ولوقع اللفظ في كوامن الشعور أمضي وأقوى من تصنيفهم لعلوم البيان والبديع، ولواحق هذه العلوم من الاستعارة والتشبيه والحصر والقصر، وخلاف هذا كله مما يجري مجري العلم والتقعيد، وأن النحو العربي من حيث هو قواعد وصروف، لم يبدع فيه عربياً بل أبدع فيه وقعّده “سيبويه” وهو فارسي الأصل. لكنما العربي تقوده “السليقة” الجوانيّة” يحتكم إليها ويحكِّمها في غزارة ما ينتج من فنون البيان إن شعراً وإن نثراً، وأن الطبع الذي يعتاد عليه لهو طبع السليقة الذواقة بحكم العادة وهى عنده بمثابة “وحدة القصد” في الشعور والتذوق. وربما كان تعبير “المتنبي” شعراً إذ قال:
وأبلغ ما يطلب النجاح به الطبع وعند التّعمُّق الذَّلُلُ
تأكيداً على طبع العربي في تناوله الشئون المعنويّة والثقافية بما يُبدعه من ألوان البيان، تعتمد على قوة المدارك وصفاء الوجدان وسرعة الملاحظة. أُثر عن الوليد بن المغيرة أنه قال حين سمع شيئاً من القرآن :”والله .. إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة” من أين؟ من أين لك يا وليد بهذه الحلاوة وبتلك الطلاوة، وأنت لم تُسلم ولم تعتقد عقيدة الرجل الذي نزل عليه هذا القول, إذ وصفته بالحلاوة والطلاوة؟
هنا، وهنا فقط، تبلغ الغلبة ذروتها في تحدي النفوس الجبارة، تحدي السليقة النافذة والطبع المستقيم، وتحدي المدارك القوى المعجونة بصفاء الإحساس وسرعة الملاحظة، بل هو قبل هذا وذاك تحدي وحدة القصد في كوامن الشعور والتذوق، بوحدة قصد غلابَّة تعلو ولا يُعلى عليها. الله الله على القرآن ساعة أن ينفذ بسلطانه شغاف القلوب. ويا ألطاف الله على هاته الحلاوة التي تخرق أسجية الضمائر والقلوب، فوالله لو ذابت البشرية كلها جميعاً لما قدّرت حلاوة القرآن حق قدرها في تلك الساعة حيث تمس حلاوته القلوب شاعرة بشعوره العلوي أو غير شاعرة بهذا الشعور ولا دارية له مصدراً أو منبعاً أو تحديداً.
إنّ الوليد حينما عبّر عن حلاوة القرآن بتلك الكلمات اللطيفة القاصدة كان يتّجه مباشرة لوحدة القصد لما في القرآن من تأثير مباشر على الشعور والوجدان هو هو عينه منبع الحلاوة وموطن تجلياتها، وأن سليقته الجُوَّانيَّة التي يتغلب فيها حكم الطبع لم تستطع أن تقاوم “وحدة القصد” الغلابّة لوقع القرآن : وقعه على بؤرة الضمير، وعلى شغاف القلب، ووقعه على الشعور الدفين، وعلى الإحساس بالغيب؛ كلام لا ككل كلام ولا كأي كلام؛ كلام ألفاظه من لغة العرب بيد أن معانيه العجيبة تُميِّزه عن أجناس الكلام البليغ. هذا الوَقْع ليس شيئاً، لا.. بل هو كل شيء فيه : خاصَّة ذاتية تتجه إلى وحدة القصد بالمباشرة.
أين موطن الحلاوة فيما سمع الوليد؟ وأين موطن الطلاوة فيما شعر به من قوة هذه الوحدة القصديّة في هذا القول؟ ذلك ما لم يقدر الوليد على الإجابة عنه سوى أنه قال : ليس بقول بشر! كل ما هنالك أنه استسلم لحكم السليقة الجوانيّة الباطنة فيما تصيبه السليقة من وقع على الشعور والوجدان، وأنه ارتفع بارتفاع التذوق الرفيع لديه فأدرك، غير أن إدراكه لمعاني هذا القول الغلاّب قد أصاب منه كوامن النفس وبواطن البؤرة الدفينة في منب الشعور. لقد اتّجه بالسليقة الذوَّاقة والشعور الوجداني اتجاهاً مباشراً إلى وحدة القصد في القرآن، هذه الوحدة التي تشمل روح القرآن كله، وهى روح عليا لا وصف لها عندنا سوى سرِّ قوله تعالى :” والله غالب على أمره”.
لقد قضى وحكم أزلاً أن تكون كلمته هى العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، وبهذه القدرة الإلهية النافذة تسري حضرات التجليات في الكون كله على ما يشاء وفيما يشاء أن يسريها :” قُلْ لَو كَانَ البَحرُ مِدَادَاً لِكَلِمِاتِ رَبي، لنَفَدَ البَحْرُ قَبْلَ أن تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبّيِ وَلَو جِئنَا بِمثلِهِ مَدَدَاً “.
كان كفار الجاهلية يتحاشون سماع القرآن، ويقول بعضهم لبعض :” لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه”، وكان الواحد منهم يضع إصبعيه في أذنيه ويستغثي ثيابه، لكي لا يسمع آية واحدة تؤثر عليه! لماذا؟ لأنهم يتجنبون سماع شيء هم يعلمون فيه الغلبة، بيد أنهم لا يفقهون لها مصدراً ولا يدركون لها تحديداً أو مبعثاً فيتحاشون وقعها في بؤرة الشعور بدايةً. يعرفون أن في هذه الحلاوة روحاً عليا ما إن يستلموا إليها أصابت بدورها فيهم كوامن الشعور وايقظت بغلبتها شعلة الوجدان. وأنه بهذه الحلاوة وبغيرها حقٌ لا باطل فيه، هو الحق الظاهر من حقوق غلبة التجليات الإلهية في تنوع الحضرات الخمس المشار إليها سلفاً.
إنّ كلمة “الحلاوة” لتعني كل ما تعنيه الكلمة من مدلول رُوحي ينفذ إلى صميم الوجدان فيهز البصيرة الذواقة هزاً. وحلاوة القرآن – على ما تقدَّم – ليست كامنة في بلاغته وكفى، ولا هى في أسلوبه وإخباره عن قوانين الغيب فقط، ولكنها، بالإضافة إلى هذه وذاك، الحلاوة التي تستوقف العقل والفكر والضمير وقفات التذوق والتأمل والحياة على المراد المشروط فيها لا في غيرها وهو بلا شك مراد “التدبُّر” كما في قوله :” أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها”. وفي قوله تعالى :” كتاب أنزلناه إليك مباركٌ ليدَّبَّروا آياته وليتذكَّر أولوا الألبَاب”.
فالتدبُّر معرفة، والتدبر إحاطة، والتدبُّر إطلاع، والتدبر حضور، والتدبر فهم عن الله آياته؛ فإذا بالقارئ ينتقل مع حلاوة التدبر من رياض إلى رياض، ومن حياة إلى حياة، ومن وجهة في التفكير إلى وجهة؛ ليستبصر على اليقين الذي لا مرية فيه أنه ليس ككل كتاب ولا كأي كتاب من الكتب السماوية الأخرى، ولكنه كتاب يحوى من قوانين الغيب وقوانين النفس والضمير، “وفي أنفسكم أفلا تبصرون”، ما حوته الكتب السماوية، ثم سيطر وهيمن بما حوى عليها ..
في لفظه نموذجٌ لترحال القريحة وحياة خصبة للأساليب البديعة، وفي معناه أفاق لصقل المعنى حين يكون المعنى أطيب وألطف وأصدق مما يوصف به معنى في كتاب. وفي الحق أن كل ما يُقال في حلاوة القرآن على هذه الدلالة الشعورية الوجدانية من أوصاف لا توفيها مكانتها، ولا تقدّر على الحقيقة لها حقها ومقدارها، فتجئ من أجل ذلك كلماتنا مهما وصفت فقاصرة عن التعبير عما في هذا الكتاب من روعة داخلية وحقائق ذوقية هى بالضبط النموذج الأخَّاذ من مقاييس التقرير والإعجاز.
بقلم : د. مجدي إبراهيم
Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *