Share Button

في كتابي الذي أصدرته منذ سنوات، وتحديداً في العام 2016م، بعنوان: “رسالة الفكر في زمن العدوان” طرحت فيه “علاقة العلم بالأخلاق”، من حيث الاستخدام الخاطئ للمنجزات العلمية والتكنولوجية، كانت يومها بالنسبة لنا قضية نحن في مسيس الحاجة إلى طرحها كلما غفلنا عنها أو تناسيناها أو كلما أحاطت بنا الحيرة حول الأخذ بأساليب التفكير العلمي وإشاعة الثقافة العلمية بيننا، أو مدى ما يمكن أن يسبِّبه العلم من قلق على المصائر الإنسانية.

ونحن في هذه الدول (العربية) النامية بحاجة شديدة احترام العلم: قوانينه ووقائعه، بمقدار احترامنا للعلماء، وإلى تقدير الجهود التي يبذلونها تجاه المسيرة الإنسانية المدعومة بالتقدم والإنجاز، أو التي ينبغي أن تكون مدعومة بوسائل التشجيع والتواصل لا بوسائل الإحباط والانقطاع. هل للعلم أخلاق تحكمه؟ وهل هى موجودة بالفعل؟

وإذا كانت موجودة فما هى أخلاق العلم على التحقيق؟

قد يُقالُ: إن العلم بغير أخلاق جريمة تقهر كل تقدّم للإنسان وعقله، وتسلب عنه كل تفكير علمي سليم؛ إذْ تدع إنجازات العلم محل اعتراض ونفور على المستوى الإنساني والحضاري؛ لأنه هو الذي سلب عن الإنسان راحته رغم ما قد يبدو أنه أراح الإنسان ووفر له الوقت والجهد، ولكنه مع ذلك عزَّز لديه إساغة الجريمة. وبمقدار ما أطلق قيود الفرد حرة طليقة، عطل أمامه الحرية الفكرية والروحيّة التي يصبح بدونها عبداً للآلة؛ فإذا كنا نعيش عصر العلم بقضِّه وقضيضه فنحن أيضاً نعيش عصر الظلمات الروحية، عصر اللاإنسانية، عصر القتل والتدمير بالجراثيم والفيروسات المُخلّقة !

والناس قد تعوَّدوا أن يفهموا من العلم أجهزته وآلاته ومنجزاته ليس إلا، إذْ يتصوَّرون العلم ما هو إلا الطائرات والقنابل الذريَّة والأسلحة البيولوجية وأسلحة الدمار الشامل، وأجهزة الكمبيوتر والإنترنت والفضائيات التي تبث الخلاعة، والآلات الحديثة على اختلاف أشكالها، فيخلطون خطأ بين العلم في ذاته وبين التطبيقات المستفادة من العلم. ومن ها هنا؛ يجرِّدون العلم عن الأخلاق بل ويحاربونه باسم الأخلاق، الأمر الذي لا تتاح معه الفرصة سانحة لإشاعة الثقافة العلمية في مجتمعاتنا، وتعزيز قيم البحث العلمي في بلادنا، فتسود من أجل ذلك في المجتمع ثقافة رجعية بغيضة ومتخلفة عن سُبُل التقدم العلمي بكل أشكاله وألوانه، فينادي فينا البعض بالهجوم على المنجزات العلمية بغير تفرقة وبغير تمييز.

قضية هى في منتهى الخطورة نحن في غفلة عنها! ولاشك أن هناك عدة تعريفات لأخلاق العلم تدور كلها حول كونها عبارة عن جملة الأفكار المعيارية التي حَمَلَتْ الناس على السير قُدُماً في طريق البحث العلمي، وهى التي جعلتهم يحدِّدون مناهجه ويوثقون تقدُّمه بروابط المنهج وقيود التحديد. فما من علم نشأ على وجه الأرض إلا وله أفكاره المعيارية التي تحكمه، ثم توثق بمقتضاها الروابط الخُلقية التي يفرضها على الناس أو يفرض عليهم أن يسيروا في طريقه بمقتضى تلك الروابط، أو بمقتضى ما يتبعها من لوازم وفرائض وقيود.

غايات العلم ينبغي أن تكون خُلقية، وأن العلم الذي لا تكون ثمرته خُلقية هو علم ليس بنافع؛ إذْ ما قيمة العلم إذا هَتَكَ حُرمة الأخلاق وأشاع في المجتمع ألوان الخراب والدمار؟ ما قيمته إذا سحب من المجتمع فضائل القيمة وغرس فيه وسائل الرذيلة وأشاع الفوضى ورسَّخ الاضطراب؟

قيمة العلم النافع إنما هى قيمة ترتد إلى فضائل الأخلاقية. فالقيم العلمية والخلقية تسير جنباً إلى جنب, وينبغي أن تكون كذلك.

على أن هناك فَرْقَاً بين العلم في ذاته؛ أعني الإبداع العلمي، وبين التطبيقات التكنولوجية؛ فالعالم حينما يبْدع يَسيرُ في طريق البحث العلمي على خطى علمية دقيقة؛ ليصل إلى كشوفاته وإنجازاته من طريق البحث الهادي البريء عن الوقائع والقوانين.

أما التطبيق؛ فهو قرارٌ سياسي لا دخل للعالِم فيه. فإذا أختلط علينا الأمر بين إبداع العلماء وقرار السياسة، فقد أختلط علينا الأمر نفسه بين العلم وتطبيقاته المستفادة، أو بين مساوئ تطبيق الإنجازات العلمية التي هى في المقام الأول في يد “صاحب القرار” لا في يد “العالم”، وبين العلم في ذاته البريء عن التهم والأباطيل. والأمثلة في تاريخ الكشف العلمي عديدة لا حصر لها، تبيِّن لنا أن التطبيق في الأساس كان للحكومات والسّاسة، كان للأطماع المادية والاقتصادية وفرض السيادة على أمم العالم بأسره، وأن سوء استخدام الإنجازات العلميّة هو غرض سياسي لا هدف علمي, يتوّخَّاه العالم حين يبحث, وحين يكتشف من الحقائق الكونية جديداً يفيد الناس.

أقول؛ إنّ الأمثلة كذلك في التاريخ المعاصر تقطع الشك في هذه الحقيقة بيقين الوقائع والأحداث التي تقول: إنّ التطبيق العلمي وسوء استخدام المنجزات العلمية قرارُ سياسي وليس هو بالهدف العلمي بحال. وقد ضربت مثلاً في المقال السابق بما جرى خلال الحرب العالمية الثانية من إلقاء قنبلتين ذريَّتين على مدينتين يابانيتين سنة 1945م واعتباره دليلاً مُؤَكَّداً على أن استخدام العلم فيما يضرُّ بالبشرية إنما هو غرض سياسي وهدف عسكري حربي وأطماع اقتصادية بهدف إذلال الأمم والشعوب.

ولئن كان فينا من يعتبر العلم عدواً للإنسانية على الحقيقة من جرّاء ما توصل إليه العلماء, فإننا من جانب آخر ما زلنا نخلط بين العلم وتطبيقات المنجزات العلمية، ولم نعد نفرّق بين المنجز العلمي في ذاته والقرار التطبيقي وهو قرار سياسي. ومادام العلم عدواً للإنسانية فمازلنا نستخلص منه وسائل للقتل وللاستعباد. فالموت الذي سببَّه الفولاذ أو الغاز أو الفيروس, والخراب الذي أحدثته أسلحة الدمار الشامل (تقليدية وبيولوجية) من بعد انفجار الذرة، ولسوف تحدثه, والآلام الحادثة من أبخرة المصانع المسمومة، والسخافات التي تذيعها شاشات الفضائيات وتبثها أجهزة الكمبيوتر والإنترنت كل هذا ليس من صنع العلم، بل من صنعنا نحن .. نحن الإنسان !

هذا، وهذا الذي يحدث اليوم في العالم حرب البيولوجية استعدت لها أمريكا بالتحالف مع إسرائيل لنشر فيروس كورونا في مدينة “ووهان” الصينية، لاعتبارات اقتصادية بحتة، ولتكون هى وحدها القوة العالمية الكبرى مادياً واقتصادياً، ويكون نصيب إسرائيل ضرب إيران في التوقيت نفسه، لضمان الحد من الخطر العسكري الإيراني الذي يهددها. كل هذا كله من صنع الأطماع الخطرة على الضمائر والمصائر.

إنه من صنعنا نحن؛ لأننا استخدمنا كشوفات العلم من غير أن نتخلق بالأخلاق الفاضلة، استخدمناها في غير حكمة تماماً كما استوردناها من الغرب لنستهلكها، ولم نسْهم بجانب من جوانب الإبداع فيها. ولو نشأت ونمت علوم الطبيعة والكيمياء والبيولوجيا وسط شعوب حكيمة سواء كانت هذه الشعوب غربية أو شرقية لما استخدمت إلا لغايات سلمية وكريمة. فقدان الحكمة معناه فقدان الأخلاق؛ لأن فقدان الحكمة هو بالضرورة فقدان لكل القيم الوجودية النافعة للإنسان الحاكم بأخلاقه على التطبيق العلمي والمتحكم فيه.

هل من ذنب الكشوفات العلمية أنها جُعِلت عند الأشرار في خدمة الفتك والقتل والعدوان؟ أو هل من ذنبها أنها جُعِلت لدى سيئي النفوذ والسلطة في الاستخدامات غير الأخلاقية؟ هل من ذنب العلم في ذاته أن يستخدم لفرض القوة والطغيان عبر تدمير البشر؟ إنْ الذنب ليس هو ذنب الكشف العلمي, وإنما هو ذنب الإنسان الذي يعيش في مجتمع بلا أخلاق سواء كان مجتمعاً (عربياً أو غير عربي) محروم من الحرية الفكرية والعقلية ومقومات التربية الأخلاقية, مجتمع تستشري فيه الرغبات الفاسدة؛ لأنه مفقود العزيمة الماضية على توجيه رغباته ناحية ما يُصلح وما ينفع للإصلاح؛ وما دام الفكر في الأصل فاسداً معطوباً, فلا تنتظر على الإطلاق أن تكون الممارسة العلمية سليمة مُعَافة من العطب والفساد !

وإذا كانت هذه المجتمعات (العربية وغير العربية) التي نعيش فيها تستخدم العلم لإزهاق الأرواح تارة، وتستخدمه لعلاج الأمراض تارة أخرى. تستخدمه فيما ينفع تارة. وتستخدمه فيما يضرّ ويفسد تارة أخرى؛ ففي الغالب أنها توجهه إلى الشر أكثر مما توجهه إلى الخير. وفي هذا القول دلالة على طبيعة الإنسان نفسه, فالناس جميعاً خيِّرون وأشرار، وأنهم في الغالب أميل إلى الشرِّ منهم إلى الخير. وهذه الملاحظة إنْ كانت صحيحة؛ فليست حجة على العلم بل حجة على الإنسان من حيث هو إنسان خاضع لسلطات اقتصادية.

ويبقى موقف الإسلام من العلم … ما هو .. وهذا موضوع المقال القادم .
بقلم : د. مجدي إبراهيم

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *