Share Button

بقلم : د. مجدي إبراهيم

واجهتُ نفسي كلما خَلَوْتُ بها : لماذا الكتابة في التصوف؟ وكلما رددتها عن هذا العلم وصرفتها إلى غيره، عادت إليه منهارة القوى كسيفة المأوى تتلمس بقاءَها في حكمة الفقراء.

غير أنني أشعر بنقص شديد مع الأولياء، بمقدار ما استشعر عقاب الله لي، وأقولُ دائماً إنّ مصيبتي في نفسي شديدة من حيث إنها انحدرت إلى هذا الصفاء، وهى تعيش عكارة اللحظة، ولم تكن تشمُ من آثار القوم رائحةً اللّهم إلّا لجلجة اللسان دون خَفْقة الجنان.

هنالك أوجبتُ على نفسي أن أراجعها أمام القارئ، وأن أشركه في تلك المراجعة، وأحسبه يشاركني هذا الإحساس القاسي الذي يَلمُّ دوماً بكاتب يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الناس على ما يقول، ناهيك عن حساب الله له يوم تُنصب للخلائق موازين الحساب.

كنتُ أقول ولا زلت : لا بُدَّ لك من كارثة تُفِيقَكَ من هذا العَتَهُ الذي تعيش فيه صَبَاح مساء. إنك لمُحَاسَبٌ على كل حرف كتبته ولم تعمل به، إذا لم تكن لك تجربة تعطيك من ذاتك؛ فلا أنت تعرف عن القوم إلاّ ما قرأت.

وفعلُ القراءة وحده لا يُغني فتيلاً عن الممارسة الحيّة والصدق المخلص في ظلال التجربة، لكن هذه التجربة ليست باختيارك، ولا هى من إرادتك ما لم يكن وراؤها توفيقٌ من الله.
أذكر جيداً إشارة أحدهم التي تقول إنه : “عند مطالبة الحقائق يفتضحُ أهلُ الرّسُوم”.

نعم ! فعل القراءة وحده لا يغني فتيلاً عن الممارسة الحيَّة والصدق الخالص في ظلال التجربة. هنالك يحفر العارف على ذات القلب المكنون بأسراره، يحفرُ على كنزه هو، ويترك للناس كنوزهم؛ ليستخرج منه ما كان اسْتَكَنّ في أطوائه الجُوّانيَّة، يبدع إبداعاً على الأصالة، ولا يعرف للتقليد صورة واحدة من صوره الزائفة.

الصوفي يغوص سائراً بقلبه مع ربّه إلى الأعماق، لا يُقلد، ولا يعرف طريقاً ألبتة إلى التقليد، ولكنه هو المبدع على الحقيقة لا على المجاز. أوّلُ وصايا العارفين لتلاميذهم أن ينبذوا التقليد؛ لأنه صفات العقل البليد، وأن يقطعوا عنهم مادة الأوراق، وأن يستهدوا قرائحهم ويفتقروا إلى الله؛ لأن العلوم التي تُفَاض عليهم من قبل الله عطايا وهبات إنْ هى إلا أذواق لا يُجدي معها التقليد نفعاً سواء كان التقليد للغير، إنْ في الفكرة وإنْ في التعبير عنها، أو كان التقليد للنفس أو للعقل.

وبما إنّ لكل قلبه؛ فلكل علمه، ولكل ذوقه في التعبير عن ذلك العلم. ليس أصدق عندي من قول ابن عجيبة الحسيني، وهو يُوصي تحصيل السِّعة من علم الأذواق حيث يقول :

” إنْ أرَدْتَ أنْ يَتَّسـعَ عَليك علْمُ الأذْوَاق، فأقْطَع عَنْكَ مَادة الأوْرَاق، فمادُمْتَ مُتَّكلاً عَلى كنز غيرك لا تحفر على كنزك أبداً ! فأقْطَع عَنْكَ المَادَّة وأفتَقر إلى اللَّه تَفيضُ عَلَيْكَ المَوَاهب من الله؛ وإنَّمَا الصَّدَقاتُ للفُقَـرَاء وَالمَسَاكين! “..

وعلوم الأذواق إبداعٌ أصيلٌ على التحقيق ما في ذلك شك؛ لأنها من هذه الجهة حفرُ على الكنز الذاتي، وطرْقُ على الدوام لمواهب الافتقار الإلهي، وما دامت كذلك؛ فأول خصائصها أنها بكرٌ لا يفتضها وهم واهم، هى من الله مباشرة وإلى الله قصداً، وكل ما يُقال عنها نقداً أو هجوماً إنما هو ضربٌ من التهور غير محسوب ولا مدروس، ولا هو بالمقرر سلفاً من أهل الوعي الخبير بمعارف القوم فضلاً عن أهل الذوق بأسرار الطريق.

وشرطُ إزالة الغشاوة عن القلب هو الجهاد الباطن : إدامته ومواصلته وإحسان السير في الطريق إليه. مَنَ عَرَفَ نفسه حق المعرفة عَرَفَ رَبَّه؛ لأن القلب مرآة تنعكس عليها كل صفة ربانية. وكما تفقد المرآة قدرتها على انعكاس المرئيات حين يتغشَّاها الصدأ من جرَّاء القاذورات اللاحقة عليها؛ فكذلك الحاسّة الروحيّة الباطنة التي يدعوها الصوفية “عين البصيرة”؛ تَعْشَىَ عن رؤية العظمة العَليّة ما لم يُزال حجاب الذاتية المظلم من جرَّاء ما كان تراكم عليه في الباطن من أكدار وأقذار وبكل ما فيه من نقائص حسيّة، زوالاً تاماً.

والصفاء الصفاء لا يتمُّ إلا بفضل من الله على أن يتطلب من جانب العبد جهاداً باطناً. والصوفي يؤمن بأن الله هو الفاعل الحقيقي لكل فعل؛ فلا يجعل ثقته بما قدَّم من صالحات بل ولا يريد أن يجازى عليها. العملُ باطلٌ زائفٌ إنْ ظنه المرء ابتداعاً من عند نفسه، وليس له من فضل فيه على التحقيق إلا أن يكون توفيقاً من عند الله.

ماذا يفيدك المجموع فيما لو كانت قناعتُك أقلَّ من اندفاعك نحو ما تكتب؟ لماذا أحرَق الجنيد أوراقه؟ وقد نظرتَ كيف أنه حكي حين رُؤىَ بعد مماته إنّ الإشارات التي كان يُلقيها طارت، وإنّ العبارات التي كان يعطيها غارت، ولم يبقْ في النهاية إلّا بصيص أمل في موعود الله من طريق الأذكار

ليست المشكلة في المبادئ النظرية تعج بالمثاليات. كلا، المشكلة في الممارسات، وفي القدرة على التطبيق من عدمها أو قلتها أو ندرتها.

تردي الأحوال سببه الرئيس يكمن في البعد عن تطبيق المبادئ النظرية، وانفراد الواقع الوهمي بالضغط على عروق الحيويّة الخلاقة. وبكثرة الضغط الذي لا يَرحم تنفجر تلك العروق فياضة بدماء الحياة الدَّنيّة.
وإذن، فإلى الفناء الذي لا يعقُبه بقاء
!

إذا كانت أنوار السالكين أربعة : نور العقل في الفكر، ونور القلب في الذكر، ونور السّر في الإخلاص، ونور الوجه في التقوى؛ فليس من شرط للترقي إلا الذكر المشروط بالمراقبة. أين ذهبت منك هذه الأحوال؟ ألم تكن صادقاً؟ ربما حجبتك الأغيار عن استمرار الأحوال العليّة، وقطعتكَ عن المضي قدماً نحو التحقيق.

بقلم : د. مجدي إبراهيم

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *