Share Button

 بقلم : د. عصمت نصَّار

تذكّرنا هذه المحاورة وما فيها من انحراف عن المقصد بهايتك التي جرت بين الأشاعرة والمعتزلة حول قضية خلق القرآن؛ إذْ ذهبت المعتزلة إلى أن القرآن هو كلام الله الحاوي لعلمه وشريعته (وكلام الله لا يشبه كلام البشر)، أما الآيات الملفوظة المنطوقة وحروفها المكتوبة (مثل صحف إبراهيم والزبور والتوراة والإنجيل) فهي مخلوقة وحادثة. ولا يمكن تصور غير ذلك؛ أي اعتبار وجود القرآن قديماً من الأزل لما ورد فيه من أحداث وحوادث واعتراضات شتى أهمها أن وجوده يشارك صفة الله في القدم وهو الأول والأخر ولا وجود قبله ولا معه وكل الموجودات من خلقه وحده؛ في حين ذهب الأشاعرة إلى أن صفة الكلام عند الله قديمة وأزلية وليست ذائدة على ذاته (ولا يتكلم الله بحرف أو بصوت)؛ وذلك لأن كل حادث مخلوق مصيره إلى الزوال ويتعرّض وجوده للتغيير والتبديل. 

ومن ثم؛ فإن دستور الله وشريعته لا تتبدل ولا تزول ودون ذلك من آيات مقروءة ومكتوبة فهي بالطبع من خلق الله ومحفوظة بفضله ورعايته (فإن كلام الله نفسياً يجول في خاطره, ولا يتلفظ به. فهم يثبتون كلاماً وليس نطقاً. أمّا الأحداث والحوادث التي وردت في القرآن فكانت محفوظة في علم الله). والملاحظ أن الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة خلافاً ظاهريِّ لا يحتاج إلى الضجة والصراع والخلاف والنزاع الذي حصل في عصر المأمون (786م-833م). فيقول فخر الدين الرازي (1149م -1210م) عن علة هذه المخالفة (أعلم : أن الأمة متفقة على إطلاق لفظ المتكلم على الله تعالى. إلى أن هذا الاتفاق ليس إلا في اللفظ . وأمّا المعني فغير متفق عليه).

أما أوجه الشبه بين مساجلة المعتزلة والأشاعرة وما حدث بين “خالد محمد خالد” و “محمد فريد وجدي” هو اتفاقهما في الأمور الرئيسة واختلافهما في مسائل فرعية لا دخل لها في موضوع التثاقف والخلاف؛ فكلاهما يرفض السلطة الدينية أو احتكار جماعة بعينها بفصل الخطاب وكلاهما ضد الحجر على العقول وغلق باب الاجتهاد وغيرتهما على المقاصد الشرعية التي لا تعادي العلم ولا تجافي العقل ولا تكفر الخصوم بالشبهات.

أما خلافهما حول تطبيق الاشتراكية لا يعني انتصار “وجدي” للرأسمالية الجائرة أو الملكية الفردية الفاسدة؛ وما كان يقصده هو أن الدعوة للتغيير لا تستقيم في الجانب السياسي وحده – أي لا تأتي من الأعلى أو من السلطة – بل يجب أن تعم كل النواحي التي تؤثر في المجتمع بداية من النظم ونهاية بالتربية والعادات والتقاليد ووعي العقل الجمعي – أي تأتي من القاعدة وإدراك الشعب لأهمية تطبيقها وقدرته على الفصل بين حقوق الفرد وحقوق الجمهور- أضف إلى ذلك كله أن خبرة “وجدي” جعلته يُصرّح بأن فلسفة المقاومة في ظل وجود النظام الملكي والطبقة الأرستقراطية وهيمنة الرأسمالية الأجنبية وجهل الجمهور وغيبة الموارد الصناعية وهيمنة الفكر الليبرالي على الحياة الحزبية وحاجة المجتمع إلى مؤسسة دينية تحميه من جنوح الفرق والاتجاهات العقدية والفلسفية الضالة. كل هذه الأسباب وليس المبررات هي التي دفعت “وجدي” لافتعال ذلك الخلاف بينه وبين الأفكار الرئيسة لكتاب (من هنا … نبدأ).

ولكي يتضح موقف “وجدي” ومدى موضوعتيه وواقعيته في هذه المثاقفة, فخليقاً بنا أن نعقد مقارنة بين موقفه وموقف “محمد الغزالي” و”عبد المتعال الصعيدي” من الكتاب ومؤلفه. فقد ذهب “محمد الغزالي” إلى أن “خالد” قد وصف علماء الإسلام بالكهنة وأراد بذلك تشبيههم بأصحاب السلطة الدينية في اليهودية والمسيحية الذين نصبوا أنفسهم بأنهم همزة الوصل بين الناس والله؛ ثم تجرأ “خالد” فوصف الكهانة في الإسلام بأنها أخت الكهانة المسيحية، وهذا كذب وافتراء. وأن مؤلف الكتاب قد أعلى من شأن القومية على الإخلاص والانتماء للديانة الإسلامية، وإذا كانت حملته على كل مظاهر الجمود والتخلف والغلو في الكهانة المزعومة ما اعتراضنا عليه ولا خالفناه غير أنه أراد أن يجعل من الدين آلية للحفاظ على تماسك المجتمع والمصالحة بين الأديان.

وساوى بين وصية الجامع والكنيسة وأهمل الفارق بينهما. وتجاهل أثر الجاهلية التي نعيشها الآن على ما أصابنا من تخلف واعتناق النظم العلمانية الأجنبية وهي حركات إلحادية يريد بها المستعمر إخراج الإسلام من البلاد وطعنه من الداخل. وقد أنضوى بذلك تحت راية التغريب والإلحاد والاجتراء على الثوابت شأن “سلامة موسى” وأصحابه. ويقول “الغزالي” في ذلك (ومن السفالة أن يطالبنا مخلوق بتعطيل هذه التعليمات جميعاً باسم القومية أو الشيوعية أو الديمقراطية أو أي اسم آخر لا نعرفه؛ لأن معنى ذلك أنه يطالبنا بالارتداد والكفر … إن حاجة الشرق الآن وحاجة العرب بالذات أكثر تطلباً لإقامة النهضة على أساس إسلامي وصريح, وبخاصة بعد الكوارث المتلاحقة التي أصابت البلاد والعباد في كل ميدان …  ونحن إن نعجب؛ فلخفاء هذه الحقائق المريرة عن الأستاذ “خالد”, وانزلاقه إلى مجاراة هذا التيار الذي يحاول منذ قرن أن يجرف الإسلام).

والغريب أن “محمد الغزالي” قد جار الأزهريين، وسار في ركابهم؛ فراح يحمل كل أشكال الإباحة والانحطاط والتجديف التي ذاعت في الثقافة المصرية عقب الحرب العالمية الثانية على الكتاب وربط بينها وبين دعوة “خالد” لتجديد الخطاب الديني وفتح باب الاجتهاد وكف رجال الدين عن مداهنة الإقطاعيين والملك والباشوات الذين ضيقوا على الشعب وجاروا على حقوقه، وراح يعتب على الحكومة والنيابة العامة تخاذلها وإهمالها رغبة لجنة الفتوى في مصادرة الكتاب ومعاقبة مؤلفه، ثم دعا صراحة بضرورة ثورة الشعب على الحكومة وإجبارها على تفعيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق تعاليم جماعة الإخوان المسلمين. ويقول “الغزالي” في ذلك : (الواجب أن يعنوا بالتنظيمات الشعبية، وتأليف الجماعات التي تتعارف على العبادة، وتتعاون على الخير، وتتواصى بالحق، وتتربص للعدو، وتستعد للجهاد … تحرّروا أيها الناس من الطمع في المناصب، والخوف من الحكام، وإلا فلن تبلغوا رسالة الله).

 ويتّضح من نقد “الغزالي” للكتاب مدى تحامله على المؤلف واتخاذه من هذه المثاقفة الطعن في عقيدة المؤلف والزج بأفكاره في أتون المجدفين. وإذا ما انتقلنا إلى “عبد المتعال الصعيدي” فسوف نجده يعيب على “خالد” وصفه علماء الدين بالكهنة؛ وذلك لأن الشرع والعقل يقتضيان وجود أهل الدربة والدراية من قادة الرأي في كل درب وفن؛ ليحتكم إليهم عند الخلاف ولا يعني ذلك أن مكانتهم هذه تشكل طبقة كهنوتية بل أنهم يمثلون صوت العلم والعقل معاً ويحق لكل من وصل إلى مقامهم وبلغ علمهم مناقشتهم والرد عليهم وذلك المقام هو الذي يميز علماء الإسلام وفقهاؤه عن كهنة الملل والأديان الأخرى.

ويقول “عبد المتعال الصعيدي” في ذلك (إذا تفقهوا في دينهم كانت وظيفتهم في المسلمين وظيفة وعظ وإرشاد, لا وظيفة تسلط وحكم … ليس لهم هيمنة على عقائد الناس, وليس لهم سلطة غيرها من أمور دينهم أو دنياهم, وإنما هم وعاظ ومرشدون يؤدون وظائفهم بالتي هي أحسن, فمن شاء عمل بإرشادهم, ومن شاء لم يعمل به, فمن عمل صالحاً فلنفسه, ومن أساء فعليها … وشأن رجال الدين في الإسلام كشأن علماء الطب في الطب وشأن أهل كل علم في علومهم؛ فكما لا يصح لغير رجال الطب أن يفتى فيه, ولغير أهل كل علم أن يزاحمهم في علومهم, لا يصح للغير رجال الدين أن يفتي فيه, بل يجب على من ليس من رجال الدين أن يرجع إليهم في معرفة أحكامه, والوقوف على حقيقة أصوله وفروعه, حتى لا يكون أمر الدين فوضى كما هو بيننا الآن.

 ويأخذ “الصعيدي” على “خالد” أيضاً قدحه على المؤسسة الأزهرية وتشكيكه العامة في مرجعيتهم الدينية في حقبة زمنية شاغلة بالفتن وكثرة الأدعياء وجهل الرأي العام. الأمر الذي ينعكس بالسلب على الدين, مع اعترافه بأن هناك بين رجال الأزهر شيوخ جامدين رافضين لكل اجتهاد خوفاً على سلامة الموروث.

ثم راح يُفرّق بين الدين والدولة والكهانة، فبيّن أن الوحي نزل لهداية الإنسان وإرشاده إلى ما فيه الخير. وقام الرسل بتبليغ الرسالة ومن بعده الدعاة والعلماء والمجددين أما الكهان, فهم طبقة احترفوا الكهانة والوساطة بين الناس والإله، وهم أهل هوى ومصلحة سيسوها تبعاً لمنفعتهم؛ فبرّروا كل شيء يسيروا في هذا الدّرب وتلك الغاية.

أمّا رجال الدولة هم الذين يسيرون أمور المعيشة وفق نظم تضمن للمجتمع العيش الأمن العادل الكريم تبعاً لمقتضيات الواقع وأن الأمم الصالحة هي التي تسير وفق العقل والنقل معاً، ودونها ما يتستر بوهم المدنية فيهمل الثوابت العقدية أو ينصت لأهواء الكهنة حتى يتملك الأغنياء رقاب الفقراء ويستولوا على حقوقهم باسم الدين. والخير كل الخير في أن يلتزم العلماء في رسالتهم وأن يقوم الحكام بوظائفهم. ويقول “الصعيدي” في ذلك (فقد جاء الإسلام حقيقة بالدولة والحكم, وهو حقيقة دين ودولة, ولكن للدولة والحكم فيه رجال, وللدين وعلومه رجال، وقد حدّد القرآن وظيفة رجال الدين … فجعلها بعيدة عن وظيفة الحكم, وجعلها وظيفة وعظ وإرشاد, وهو ما يجب أن يكون لها, ليكون نصحهم خالصاً لله تعالى ولا يقعوا فيما وقع فيه رجال الدين قبلهم).

ثم أعرب عن مناصرته لما ذهب إليه “خالد” في أن بعض الأدعياء من المرتدين لبسوا عباءة الدين ليبرروا الظلم الاجتماعي ويحصرون حق الشعب في صدقات الأغنياء وحسناتهم والإسلام من ذلك بريء, ويقول في ذلك (ومعاذُ الله أن يرضى لعبادة المذلة والهوان, إن الإسلام حين دعا إلى العدل والتكافل الاجتماعي لم تكن الصدقة قط في حسابه كوسيلة تنهض بها حياة الشعوب … إن الدين يكرم العقل، ويجعله مناط المؤاخذة والجزاء، ومعنى هذا بداهة أنه يعطيه الحرية والبحث والمناقشة كما يشاء. أمّا الكهانة فهي لا تسمح للعقل أن يقتات ويتغذى إلا بما تقدّمه هي له من فتات وعفونات، وهي تحارب البحث والتأمل والبرهان، وتقيم مكانها الأوهام والمخاوف التي تحاول أن تستعبده وتستكرهه).

كما أكد أن من أضاليل الكهنة الزعم بأن السعادة والتدين في الحياة الروحية، ونبذ الدنيا والقضايا المادة والمنافع الحسية؛ لأن مثل ذلك تجديف وافتراء على الدين وهوما ذهب إليه “خالد” في كتابه؛ فلم يكتب الله الزهد على الفقراء فيزدادوا فقراً ولم ينكره على الأغنياء؛ ليفيضوا ببعض مالهم صدقات على الفقراء.  ويقول “الصعيدي” (كل ما ذكره صاحب كتاب “من هنا.. نبدأ” عن الكهانة في ذاتها صحيح وجميل، ولكن أين الكهانة التي لها هذه السلطة الواسعة عندنا؟)

 تلك كانت أهم قضايا محل التثاقف ومواضع التناظر, ويمكننا أن نستنبط منها بعض الحقائق أولها:

يجب التسليم بأنه ليس هناك نقداً موضوعياً خالصاً ولا سيما في الموضوعات الفلسفية بوجه خاص وقضايا تثقيف المجتمع وتوعيته على وجه العموم؛ فعلى الرغم من حرص المتناظرين في كل عصر على الالتزام بأصول المنهج الجدلي وضوابط التناظر وآداب التثاقف؛ فإن الانتماء للمذهب لا يمكن إنكار أثره في النقود والدفوع المتبادلة بين المتناظرين. ولعلًّ الموازنة التي أجريناها بين مثاقفة “وجدي” مع “خالد” من جهة، ونقود “الغزالي” و”الصعيدي” للكتاب من جهة أخرى، تكشف عن محاولة “وجدي” التزام الحيدة؛ فلم يكفر ولم ينكر حقائق أو يصفها بأنها أباطيل في حين أن “الغزالي” قدح وأدان وتوعد انطلاقاً من انتمائه وقناعاته. أما “الصعيدي” فقد نظر إلى القضية برمتها على أنها حديث معاد على لسان شاب متحمس.

وثانيها: يؤكد ما ذهبنا إليه منذ بداية حديثنا عن الخطاب النقدي الفلسفي عند “وجدي” ألا وهو أن “محمد فريد وجدي”؛ رائد من أوائل فلاسفة نقد النقد في الفكر العربي الحديث، وأن خطابه قد اجتمعت فيه جل خصال الأديب المصلح والمجدد المستنير. ولم يعد للحديث بقيّة لأثبات أنه كان مجدداً ذا طابع خاص في معيّة المحافظين.

بقلم : د. عصمت نصّار

 

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *