Share Button

عقل القلب

بقلم: د. مجدي إبراهيم

في إطار اصلاح العقل الدَّعوي ينبغي أن يؤخذ مُمَحَصاً في الاعتبار إصلاح القلب مناط التوجُّه. صحيح أنه ليس من شك أن للنفس الإنسانية إشعاعات نورانية يلمسها حسن التوجُّه إلى الله، ولكنها مع ذلك سُرعان ما تنطفئ مع حالات القبض التي يعتروها. ونقصان الوعي الباطني ينسحبُ منها ويتسرَّب. وقطرات الإيمان تتقطر رويداً رويداً حتى لكأنها تنقطع وتتلاشى بالمرة فلا تكاد تفيض!

إنما الإيمان يُعْطي ولا يتعاطى. يصدر عن القلب في كافة الأحوال مُجرَّداً عن اللواحق والعوائق والصور التجريدية والواقعية في كل ما تلمسه واقعات الحياة، ويظل مع الاعتبار والتفكر واليقظة مفتوحاً بمقدار انفتاح القلب على الجهة العلويّة ولا يقبل الأوشاب والأخلاط ممّا قد تصوِّره الشهوات العقلية وأهواء التفكير فيما يصنع الإنسان أو لا يصنع.

فالكدورة التي تصل إلى القلوب هى من تصورات العقول وشهوات الأذهان، وهى كذلك من أسباب الصراع الغبي على حطام الدنيا والتنافس فيها على الزائل الدُّوُن، والرخيص. والصفاء الذي تنصقل فيه القلوب لهو في محاربة أوهام العقول المحدودة بتصوراتها، المُكبلة بمقولاتها الفكرية والمنهجيّة، المرهونة بمحدودية إدراكها، المُقيدة بمحددات أحكامها وفروضها؛ فلا يصفو قلبُ مطلقاً ممْجوج بتصوِّر مغلق غير مفتوح.
وقد أشارت الدراسات الحديثة إلى أهمية الوقوف على الظواهر الروحية العالمية في تراثنا الروحي وثقافتنا الإسلامية، ومنها ما أشاد به باحث أمريكي بارز هو الدكتور “جيمس موريس” أستاذ اللاهوت الإسلامي بجامعة بوسطن؛ إذ أشار إلى أهمية دراسة تعاليم الصوفي الأندلسي ابن عربي (560 – 638هـ / 1165-1240م) كونه يمثل ظاهرة روحيّة كونية على اعتبار أنه ردّ التعاليم الدينية المنزلة إلى تجربتنا الروحية الضمنية التي نتشاركها كبشر في كل الأزمنة والمواقف. قدَّم ابن عربي ما يمكن تسميته لدى “موريس” بالظاهرة الروحيّة العالمية في إحالةٍ إلى الأشكال الروحيّة للوعي وللخبرة الروحية التي يستطيع البشر الوصول إليها مهما كانت ثقافتهم ولغتهم.
وعلى هذه الظواهر الروحيّة كما وُجِدَت في تراثنا الروحي المهجور ترتفع قوى الإنسان الروحية والخُلقية، فيرتفع معها التسامح في مقابل الهبوط الشنيع لهؤلاء الذين يملكون وجهات نظر ضيقة فقيرة ومُعدمة ومتحجرة عن الدين؛ ليسقط أصحابها – ويسقطون غيرهم من الناس – في مستنقع آسن من العنف والإرهاب. فليس في هذه الوجهة من النظر تلك الواجبات التي يشاطرها البشر أجمعين (روحياً وفكرياً وخلقياً)، ولكن فيها التقليد الأعمى غير الفاحص والنظر الضعيف المشوّه الذي يصدّر العنف ويقدّم التعصب بمقدار ما يُفَرق الأسرة الإنسانية ويمزق وحدتها؛ نعم! يفرق البشر ولا يجمعهم باتجاه النظر إلى تلك الواجبات العامة فيما يتمثل في الفكر والروح والخُلق الرفيع.
ولم يكن التسامح بين الأديان والتناغم فيما بينها بالذي يخرج عن ذلك التنوع الروحي يستمد من التركيز على أبعاد التجربة الروحية الفريدة لكل فرد من أفراد النوع الإنساني؛ كالتركيز مثلاً على الواجبات والمسئوليات التي تتشاطر مع البشر أجمعين، وتدور حول الإخلاص لكل القيم الدينية والروحيّة على وجه العموم، وهى ولا شك قيم أمرت بها تعاليم الإسلام. هذه القيم تجمع الأمم ولا تفرِّقها في حين تفرقها وتنازعها فيما بينها القيم المادية، والاقتصادية منها على وجه الخصوص.
ولو تأملنا جيداً فيما هو يُشعل فتيل الحروب بين الشعوب، فلن تجد عاملاً أدعى ولا أقوى من العامل الاقتصادي، أساس الصراع بين الناس والطمع الذي يطغيهم ولا يرقيهم إلى حيث التعاون العميق المستند إلى فهم روحي حقيقي. ولم تكن حضارة الإسلام في المجمل سوى تلك الحضارة الروحية تجمع الطاقات الفكرية والخلقية تحت قيمها العلوية؛ ولم يكن أساس هذه الحضارة إلا القرآن الكريم، وهو أكبر مصدر روحي تتأسس عليه على الإطلاق. فإذا نحن تحدّثنا عن القلب وعن الروح وعن الإيمان، لم نخرج عن أساس هذه الحضارة كونها روحيّة مؤسسة على القرآن. أما الاقتصاد وما يشاكله من عوامل مادية؛ فثانوية عارضة لا وَزنَ لها بالقياس إلى العوامل التي تبني الإنسان.
وما من شك في قبول القلوب للترقي الإيماني، وما من شك في عزوفها في أكثر حالاتها عن النور والكمال. وليس للمرء في كل الحالات مثل هذه الفيوضات ولا تلك الإشراقات، لكنه على القبض تارة، وعلى البسط تارة أخرى على الإيمان والإيقان تارة وعلى الكفر والضلالة تارة أخرى، على المنهج تارة وعلى خلافه تارة أخرى، وعلى اليقين الصادق تارة، وعلى الزعزعة والارتياب تارة أخرى.
والقول “الثابت” في كل الأحوال منالُ عظيم لا يعرفه إلا المؤمنون حقاً بتوفيق الله وهدايته؛ أولئك الذين سلَّموا له أمرهم ولم يعارضونه؛ إذْ اسقطوا معه التدبير وتأدبوا بآداب العبودية، ولم يشركوا به أحداً من خلقه. القلوب لا ريب تتقلب؛ وثباتها ليس في مستطاع أحدُ من الخلائق. والطريق لسان صدق؛ لم يعرفه أحدُ بعقله المحدود ولا باتجاهه النظري، ولا بمجرد الرؤية الفكرية التي يتولاها عقله المحدود. وفهمنا عن الله لو كان صادقاً وصحيحاً لشاءت إرادة الله تطبيقه فعلاً وحركة في هذه الحياة الدنيا الصاخبة بغريب الأقوال بُله الأفعال !
أي نعم! حتى في هذه العبارة عسف وتخريج بليد ! مَنْ نحن حتى نفهم عن الله ما يريد أو نكون أهلاً لكي نفهم عن الله إرادته فنطبقها فعلاً بحذافيرها على حياتنا اليومية؟! ما نحن سوى آلات لأنفسنا؛ مجرَّد آلات مصنوعة تترجم عن أنفسنا وتصور ما تراه أنفسنا وتتوَّهم – على الجهالة أو ظنون اليقين ! – ما من شأنه أن تدركه ولو زعمت مريضة أنها تفهم عن الله، فيقينها في هذه الحالة يقين وهم تعَشْعَش فيها.
إنها لتبدو فعلاً على يقين، غير أنه يقين جهالة عمياء، وليس هو باليقين السالم من الجهالة والعماية .. “عقل القلب” وحده هو الذي يُخلص الإنسان من الجهل ومن العمى : عقل القلب وليس “عقل العقل” .. ” والقلب العاقل” وحده هو الذي يسمع خطاب الحق فينظر بنظر الله .. وعقل القلب والقلب العاقل هما في الحقيقة عين البصيرة الإنسانية التي ترى بنور الله ما لا يراه المبصرون المحجوبون في نفس الحال : المبصرون بحاسَّة البصر كجارحة، والمحجوبون بحجاب النفس الظلمانية عن نور البصيرة؛ إذ ليس افتقاد البصر قياساً إلى افتقاد البصيرة حجاباً ولا عَمَى :” أَفَلَمْ يَسِيروُا فِي الأرْضِ فَتَكُوُن لهُمْ قلوبُ يَعْقِلُوُنَ بِهَا أوْ آذانُ يَسْمَعُونَ بِهَا, فإنَّهَا لا تعْمَي الأبْصَارُ وَلكنْ تَعْمي القلوُبُ التي فِي الصِّدُورِ” (الحج : آية 46).
من ذا الذي يسيطر على نفسه ويقبض عليها العنان بالكلية؛ ليلزمها الطاعة الدائمة في غير عوج والتطبيق السليم من غبش الانحراف .. مَنْ ..؟! ثم من ذا الذي لو أحسن الفروض وأحكامها أن يتحرَّر منها مع التطبيق؛ ليتجرد كل التجرد – بعضه أو كله – وما هو بمستطيع؟! أو بعبارة أخرى: من هذا الذي يقتدر على التحرُّر من عمله، ومن عبادته، ومن فهمه؛ ليتجرَّد لله مطلق التجرُّد؛ ليكون بتجرده عبداً خالصاً كيما يجيء إخلاصه علامة على تجرده؛ وما هو في الواقع بمستطيع ؟!
إنّ استطاعتنا على أنفسنا ضعيفةً. ودرجة وعينا بأنفسنا ضئيلة جداً. وتلقينا لمنهج الله بمقتضى تلك النفوس وحدها، شيء أدنى إلى مرض الخيال العاطل؛ ذلك الخيال الذي لا يقول به إلا ضعفاء التحقيق.
الطريق إلى الله مفتوح وليس بمغلق؛ لكن الغريب الداعي إلى الدهشة أنه مفتوح من قِبَل الله سبحانه، في حين يغلقه البشر بتصوراتهم المحدودة ترتد في أول ما ترتد إلى حظوظ النفوس لديهم، وإلى شهوات العقول فيهم، وإلى تخريجات الأذهان فيما خرَّجته على قدر تصوراتها، وفيما سمحت به استعداداتها وفيما عساه تسمح؛ ثم إنهم لا يكتفون بغلقه على أنفسهم من جانب هذه التصورات، ولكنهم يُلزمون غيرهم بتصوراتهم، وبحدود تفكيرهم، كما لو كانت مثل هذه التصورات هى هى عين الطريق إلى الله بل هى في نظرهم عين الحقيقة التي يجسدها هذا الطريق، وكما لو كانت مثل هذه المحدودية الفكرية هى هى الحقيقة ولا شيء سواها، وكما لو كان الطريق في الوصول إليها هو هو الطريق الأوحد ولا طريق سواه، غير أنه من جهة أخرى الطريق المغلق المحدود وكفى ..!
هذا الطريق المغلق المحدود قائم على التقليد. وكل تقليدٍ في مسيرة الطريق إلى الله لا ينمي الإدراك، ولا يرقي ملكات الوعي، ولا يعطي خبرة الروح والخلق والفكر. وأكثر رُوَّاد التقليد هم الذين ملكوا زمام الخطاب الديني؛ فتحجّر وأعوج وانحرف، فجاء بالإرهاب والتخلف وادعاء الدعوة إلى الله في غير بصيرة.
بقلم : د. مجدي إبراهيم

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *