Share Button

بقلم / محمــــد الدكــــرورى

وهكذا قد استجاب أهل مكة لدعوة أبي سفيان وحكيم وبديل، فخلوا الطرق لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يتصد لجيوشه الأربع سوى مجموعة من الأوباش، جمعهم صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل مع بني بكر، تعرضوا لخالد بن الوليد عند دخوله من أسفل مكة، حتى إذا اشتد عليهم القتال فروا من أمامه، وتفرقوا إلى ديارهم، فلما وصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال ” يا خالد لمَ قاتلت وقد نهيتك عن القتال”؟ قال:هم بدءونا بالقتال، ووضعوا فينا السلاح، وأشعرونا بالنبل، وقد كففت يدي ما استطعت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” قضاء الله خير” ونجحت خطة رسول الله صلى الله عليه وسلم المحكمة، إذ دخل مكة فاتحا بأقل خسارة، فلم يُقتل من المسلمين سوى رجلين ضلا الطرق وتاهوا عن جيش خالد، وأما المشركون فكان عدد من قتل منهم أمام جيش خالد بضعة وعشرين رجلا .

وكانوا قد أصروا على المواجهة ، وكان دخوله صلى الله عليه وسلم لعشر بقين من رمضان دخولا يتلاءم مع عظمته وسمو أخلاقه، حيث علاه التواضع حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، وأحنى رأسه على دابته ، حتى إن شعر لحيته ليكاد يمس عنق الدابة، وأخذ يردد ” اللّهم إن العيش عيش الآخرة” .

ونظر إليه في هذا اليوم رجل ولم يكن يعرفه من قبل فتخيل أنه كسائر الملوك، فأخذته الرعدة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :” هون عليك،فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة ” وقال:” إنما أنا عبد ، أي إنسان مثل سائر الناس ، آكل كما يأكل العبد، واجلس كما يجلس العبد”.

ولم يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد دخول مكة ، وإنما اتجه فور دخوله إلى المسجد الحرام، فطاف بالكعبة شاكرا الله على أن أتم عليه النعمة، وأخذ ينظر إلى الأصنام المنصوبة حولها ويقول: “جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ” .

وبعد أن طهرت الكعبة من الأصنام، أمر النبي صلى الله عليه وسلم، بلالا بن رباح رضي الله عنه، فأذن فوقها، مما هيج غيظ بعض سادة قريش ممن لم يتخلصوا من عنصرية الجاهلية، وتذكروا صاحبهم الذي كان سيدًا له ، وكان بلال عبدًا عندهم قبل الإسلام.

واليوم يظهره الله ويصعد فوق الكعبة مؤذنًا، فيما هم يجلسون صاغرين في انتظار العفو أو الموت، ومن هذا التاريخ ظل النداء يتردد بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، داعيًا الناس للفلاح وخير العمل وهي الصلاة.

وبعد أن فرغ صلى الله عليه وسلم من طوافه ، ولما خرج النبي من الكعبة، كانت قريش قد ملأت المسجد صفوفاً ينتظرون ماذا يصنع، فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته، فكبر النبي ثلاثا ثم قال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ، ثم أتى الصفا فعلا عليه حتى نظر إلى البيت، ورفع يديه، وجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو .

ثم دعا بعثمان بن طلحة الذي كان يحمل مفاتيح الكعبة فأخذها منه، وأمر بالكعبة ففتحت فدخلها، وأزال منها آثار الوثنية التي صنعها بها المشركون، وصلي بها ركعتين ‏‏ ثم دار فيها، وكبر في نواحيها ووحد الله، ثم خرج ووقف على بابها وخطب الناس فقال‏:‏

“‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ، يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏”يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير‏”.

فإذا كانت قريش كانت ترى في الجاهلية أنها فوق العرب بمجاورتها للبيت الحرام، وإذا كان بعض الناس يرى نفسه بما أوتيه من مال أعلى من منازل باقي الناس، فإن الإسلام جعل الناس على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وجنسياتهم وحالاتهم المادية سواسية ، لأنهم جميعا يرجعون في النسب إلى أب واحد، والله لم يفرق بينهم في أسلوب المعاش إلا ليتعاونوا ويتبادلوا المنافع، وأما في الآخرة فالمقياس الوحيد لمنازل الناس هو التقوى .

وقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في الخطبة الثانية: ” لا حلف في الإسلام، وما كان من حلف الجاهلية فإن الإسلام لا يزيده إلا شدة والمؤمنون يد على من سواهم يجير عليهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، كما يبين صلى الله عليه وسلم فيها أنه ” لا يُقتل مؤمن بكافر، دية الكافر نصف دية المسلم، لا جلب ، أي بصرف النظر عن الصياح ، ولا جنب في الرهان، وغيرها من مظاهر العدل. رواه مسلم

واستطاع صلى الله عليه وسلم بوحي الله أن يزيل الفوارق بين الناس على اختلاف طبقاتهم، وصار أبو سفيان سيد الوادي وبلال بن رباح العبد الحبشي سواء ،بل صار بلال بسبقه إلى الإسلام مقدما على أبي سفيان وغيره ، ثم استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن استقر به الأمر بمكة مشركي أهلها الذين اصطفوا حوله، وقال لهم :” يا معشر قريش ، ويا أهل مكة ، ما ترون أني فاعل بكم؟ ” قالوا: خيراً،أخ كريم،وابن أخ كريم. فقال: “اذهبوا فأنتم الطلقاء” .

هذا هو الإجراء الذي اتخذه النبي العفو الصفح السمح تجاه أناس استعملوا في صده عن سبيل الله كل ما أوتوه من قوة، إنه إجراء لا يتخذه إلا العظماء الذين لا تستفزهم الأحداث، ولا يضمرون مثقال ذرة من غيظ لأحد ، وفي اليوم الثاني من دخوله مكة سمع أن خزاعة عدت على رجل مشرك من بني بكر ، كان قد قتل منهم رجلا عظيما في الجاهلية، قتله غيلة وهو نائم ، فغضب غضبا شديدا .

وقال لخزاعة:” لقد قتلتم رجلا لأدينه ” ودفع ديته مائة من الإبل، ثم قال صلى الله عليه وسلم محذرا:” فمن قُتل بعد مقامي هذا فأهله بخيار الأمرين،إن شاءوا قدم قاتله وإن شاءوا فعقله ” وقال : ” إن أعدى الناس على الله من قتل في الحرم،أو قتل غير قاتله،أو قتل بذحول الجاهلية .

وبعد فراغه صلى الله عليه وسلم من حديثه قال:”أين عثمان بن طلحة” ؟ فدُعي له فقال:”هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء” ثم ناداه بعد ذلك، وقال له: ألم يكن الذي قلت لك؟ وذكر أنه طلب منه قبل الهجرة أن يدخله الكعبة فرفض، فقال له صلى الله عليه وسلم: لعلك سترى هذا المفتاح في يدي أضعه حيث شئت، فقال عثمان: بلى. أشهد أنك رسول الله .

وفي رواية أخرى أنه قال: ” خذوها خالدة مخلّدة، إنّي لم أدفعها إليكم، ولكن الله سبحانه وتعالى دفعها إليكم، ولا ينزعها منكم إلا ظالم ” ثم جاءه أهل مكة ليعلنوا إسلامهم، صغارا وكبارا، رجالا ونساء، فجلس لهم على الصفا، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، يجلس أسفل من مجلسه، يأخذ على الناس، وبايعوه على السمع والطاعة للّه ولرسوله .

وجاء بينهم أبو قحافة ، أبو أبي بكر الصديق وكان شيخا كبيرا، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” هلا تركتم الشيخ حتى جئت إليه أنا في بيته ” ثم أجلسه بين يديه ومسح صدره ، احتراما لسنه ، فتقدير كبار السن واحترامهم والاهتمام بهم ورعايتهم من أسمى تعاليم الإسلام .

ولما فرغ صلى الله عليه وسلم من بيعة من أسلم من رجال مكة اجتمعت عليه النساء ليبايعوه، وجاء نسوة من نساء قريش فيهن هند بنت عتبة ، زوجة أبي سفيان ، منتقبة متنكرة لكي لا يعرفها أحد ، لأن رسول الله قد أمر بقتلها عند الفتح ، لما فعلته بجثمان عمه حمزة رضي الله عنه ، يوم أحد.

فلما دنون منه يبايعنه قال صلى اللّه عليه وسلم: ” بايعنني على أن لا تشركن باللّه شيئا ولا تسرقن ” فقاطعته هند قائلة “واللّه إن كنت لأصيب من مال أبي سفيان الهنة والهنة، وما أدري أكان ذلك حلالا أم حرام، فقال أبو سفيان وكان شاهداً لما تقول أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل وعفا الله عنك .

فقال رسول اللّه:” وإنك لهند بنت عتبة ” ؟ فقالت:أنا هند بنت عتبة ،فاعف عما سلف عفا اللّه عنك ، فما أن قال صلى الله عله وسلم عفوت عنك حتى قالت:” يا رسول الله، ما كان مما على ظهر الأرض أحد أ أحب إلي أن يذلوا من أهلك، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أحد أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك ” وما قالت ذلك إلا لما رأته من عظمة أخلاقه .

ثم أكمل صلى الله عليه أخذ البيعة من هؤلاء النسوة، فقال: ولا تزنين ، فقالت هند متعجبة: يا رسول اللّه هل تزني الحرة ؟ فالمرأة الشريفة ذات الأصل العريق لا يمكن أن تقدم على الزنا وإن كانت كافرة، ذلك لأنها قبل أن تقدم تلك الفعلة الشنعاء تفكر كثيرا في سمعة أهلها، وما يلحقهم من عار بسبب ذلك، كما أن الناس ذوي الحسب الرفيع، دائما يحرصون على تربية بناتهم على بغض خلق التبذل والوقع في الفاحشة وإن كانوا غير مسلمين .

ثم قال صلى الله عليه وسلم:”ولا تقتلن أولادكن،ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن ،ولا تعصينني في معروف” فلما أقررن بما قال لهن استغفر لهن، ولم يصافحهن كما كان يفعل مع الرجال عند البيعة،لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يصافح النساء، ولا يمس امرأة ولا تمسه امرأة إلا أزواجه وقريباته ممن يحرم عليه الزواج بهن.

وبعد ذلك أمر مناديا ينادي بمكة من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره، فكسرت الأصنام التي كانت في بيوتهم جميعها، والأصنام التي كانت حول الكعبة،كما بعث رسول اللّه سرايا لكسر الأصنام المنتشرة حول مكة ، وطهرت بذلك مكة من الأوثان والأصنام، وكل ما يعبد من دون الله تعالى، وصارت العاصمة المقدسة الأولى عند المسلمين.

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *